أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد ...
فمن التلبيسات الذي يتقنها سعيد فودة وبعض أتباعه هي تسويتهم بين فريقين من أهل الكلام ممن يثبتون الجسم لله سبحانه وتعالى...
وهم يموهون على الناس بأن كل من يثبت لفظ الجسم لله فهو مجسم حقيقي لا نزاع في كفره ولا خلاف فيه بين العلماء ...
وهذا باطل !
حيث أن المثبتين للجسم فريقان معروفان وصنفان من أهل الكلام يميز بينهما أهل العلم حتى الأشاعرة .
الصنف الأول :
هم الذين يثبتون الجسم لله ويثبتون له ما للمخلوق من صفات فيقولون هو جسم كالأجسام وهؤلاء هم المجسمة الحقيقيون الذين ذمهم السلف وكفرهم العلماء .
الصنف الثاني :
هم طائفة من نظار المتكلمين يثبتون لله الجسم وينفون عنه أي مماثلة للمخلوقين فيقولون هو جسم لا كالأجسام ويفسرون الجسم بالموجود أو القائم بنفسه ،ويقولون الموجود إما جسم أو قائم بالجسم ،وهؤلاء ليسوا كالصنف الأول فما ذكروه من معنى الجسم صحيح ولكن إطلاق لفظ الجسم على تلك المعاني ليس صحيحا لا لغة ولا شرعا ،ولكنهم ليسوا مجسمة كالصنف الأول ولا يشتركون معهم إلا في الإسم كما انهم لا يختلفون مع نفاة الجسم إلا في الأسم فقط وبعض لوازمه ...
وهؤلاء هم من يعارض ابن تيمية رحمه الله بكلامهم كلام النفاة ومنهم الرازي في بيان التلبيس ، فلهم حجج عقلية فيما ذهبوا إليه من مسائل الإثبات تعارض أقوال النفاة ...
ولقد فرق بين الصنفين الكثير من أهل حتى علماء الأشاعرة قد فرقوا بينهم ...

- قال العضُد الإيجي في المواقف وهو من أئمة الأشاعرة - صـ 273 :
( المقصد الثاني : في أنه تعالى ليس بجسم , وذهب بعض الجهال إلى أنه جسم كالكرامية , وقالوا : هو جسم , أي : موجود وقوم قالوا : هو جسم , أي : قائم بنفسه , فلا نزاع معهم إلا بالتسمية , ومأخذُها التوقيف , ولا توقيف , والمجسمة قالوا : هو جسم حقيقة , فقيل : من لحم ودم كمقاتل بن سليمان )ا.هـ

فتأمل قول هذا الإمام الأشعري : " فلا نزاع معهم إلا في التسمية " - وتأمل تفريقه بين هؤلاء وبين من يقول بأن الله جسم حقيقة من لحم ودم ...

- قال ابن تيمية رحمه الله :
( والذين قالوا : إنه جسم نوعان :
- أحدهما -وهو قولُ علمائهم : إنه جسم لا كالأجسام , كما يقال : ذوات لا كالذوات , وموصوف لا كالموصوفات ، وقائم بنفسه لا كالقائمات , وشيء لا كالأشياء ،فهؤلاء يقولون : هو في حقيقته ليس مماثلاً لغيره بوجهٍ من الوجوه , ولكن هذا إثبات أن له قدْراً يتميّز به ,كما إذا قلنا : موصوف ،فهو إثبات حقيقة يتميّز بها , وهذا من لوازم ذاته ) .

فهؤلاء هم الذين قال عنهم العلماء ان الخلاف معهم فقط في إطلاق لفظ الجسم على الله وإلا فما ذكروه من معاني الجسم حق لا إشكال فيه
ثم قال رحمه الله :
( .... وأما النوع الثاني - وهو الغالية - الذين يُحكى عنهم أنهم قالوا : هو لحمٌ وعظمٌ ونحو ذلك , فهؤلاء وإن كان قولهم فاسداً ظاهر الفساد , إذ لو كان لحماً وعظماً - كما يعقل - لجاز عليه ما يجوز على اللحوم والعظام ,وهذا من تحصيل التمثيل الذي نفاه الله عن نفسه .. .. فمن قال بالتشبيه المتضمن هذا التجسيم , فإنه يجعله من جنس غيره من الأجسام , لكنه أكبر مقداراً , وهذا باطل , ظاهر البطلان عقلاً وشرعاً , وهؤلاء هم المشبهة الذين ذمهم السلف . )ا.هـ

ومنهج ابن تيمية رحمه الله من هذين الطائفتين هو تبديعهما ورفض منهجهما واتباع منهج السلف رضوان الله عليهم أجمعين وهذا قوله رحمه الله :
-( أما الكلام في الجسم والجوهر ونفيهما أو إثباتهما , فبدعةٌ , ليس لها أصلٌ في كتاب الله ولا سنة رسوله , ولا تكلم أحدٌ من الأئمة والسلف بذلك نفياً ولا إثباتاً . )

ولكن كما سبق وأن بينا طريقة ابن تيمية في مناظرته لأهل البدع ممن يدعون ان حججهم عقلية حيث يأتي رحمه الله بأقوال النفاة للصفات ويعارضها بأقوال المثبتين لها ،ومن هؤلاء المثبتين من يثبت الجسمية لله سبحانه وتعالى على المعنى الذي قال فيه الأشاعرة أن الخلاف معهم فقط في التسمية ، فهم يثبتون ما ينفيه النفاة من لوازم الجسم كالجهة والحيز وغيرها ويقولون إن هذا من لوازم الوجود، فيحكم شيخ الإسلام بين الفريقين النفاة والمثبتين من اهل الكلام ويبين تناقض حججهما وكيف يزعمون أنها عقلية وهي متقابلة ومتضادة ...

وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في غير ما موضع وقد نقلت بعض اقواله في منهجه أنه مخالف لكلا القولين لا يقول بأي منهما بل ويبدع الفريقين ، ولكنه في مقام المناظرة يرجح الأقوال بحسب قربها من العقل والحق والشريعة ترجيحا مقيدا بالنسبة للقول الأخر لا بالنسبة للحق ومنهج السلف فيأتي أمثال سعيد فودة وغيره فيدعي أن ابن تيمية ينتصر لقوال المجسمة ، ويقول عن أقوالهم أنها اقرب للعقل ، وتوافق الفطرة وغير ذلك ويوهم بأن ابن تيمية يحتج بأقوال المجسمة الحقيقيين ،مع علمه يقينا أن من يحتج بهم ابن تيمية لا يثبتون الجسم بالمعنى المنفي القبيح بل بالمعنى الصحيح الثابت وهو الموجود القائم بنفسه ، ولكنه التلبيس على ضعاف العقول ومن لا جهد له في متابعة الأقوال وتحقيقها ..

ومما هو متعلق بهذا التفريق بين هاتين الطائفتين السابق ذكرهم ،هو أن قول طائفة المتكلمين الذين قالوا أن الله جسم لا كالأجسام يتفق من جهة المعنى مع قول نفاة الجسم في تقسيمهم للوجود ....
فنفاة الجسم من المتقدمين من أهل الكلام كالأشعري وابن كلاب وغيرهم يقسمون الموجود إلى مباين ومحايث وإلى قائم بنفسه وقائم بغيره ..
والمثبتين للجسم الذين يعنون به القائم بنفسه أو الموجود يقسمون الموجود إلى جسم أو قائم بجسم ....
فإذا قالوا الجسم هو القائم بنفسه وما يقوم به من الصفات هو القائم بغيره كان التقسيم بهذه الصورة متفقا مع تقسيم النفاة .
وهذه النقطة بالذات هي التي يلبس بها سعيد فودة في نقله الذي في كاشفه الصغير ص 129 حيث نقل عن ابن تيمية رحمه الله قول طوائف النظار الذين قالوا :
" ما ثم موجود إلا جسم او قائم بجسم "

فنقول لفودة وحتى لو سلمنا أنه وافق على هذا الكلام فإن الجسم هنا بمعنى : الموجود القائم بنفسه كما قرر هؤلاء النظار ،وتقسيمهم هذا هو نفس تقسيم النفاة للموجود، إلى قائم بنفسه مباين وإلى قائم بغيره محايث ...
وإثبات السلف المباينة لله سبحانه وتعالى يتفق مع قول النفاة من هذه الحيثية وهو نفس المعنى الذي أشار غليه ابن تيمية رحمه الله في كلامه الذي جاء بعد هذا النقل كما سيأتي .

ولكن فودة يستغل عدم انتباه القراء لهذه التفاصيل أو عدم معرفتهم بها فيلبس عليهم بأن ابن تيمية يقول بأن الموجود إما جسم أو قائم بجسم فيزعم أن ابن تيمية يجعل الله جسما لأنه موجود وليس قائما بغيره طاويا صفحا على معنى الجسم عند هؤلاء النظار وعلى تفريق العلماء بين هذين الصنفين من المتكلمين والذي نص الإيجي الأشعري على أن الخلاف معهم في مجرد التسمية كما سبق ...

ولتقريب مسالة المباين والمحايث نضرب مثالا من الشاهد لنعرف كيف أنه أمر ضروري فطري ولو بعد التأمل والتصور الصحيح ...
فأقول :
أنا وأنت أخي الكريم وما نحمله من صفات كالطول والقصر والسواد والبياض والنحافة والمتانة وغير ذلك أو أنت وأي شيء آخر وليكن شجرة أو جدار أو جبل ،فإما أن تكون هذه الأشياء بجوارك منفصلة عنك أو تكون بداخلك حالة فيك...
هل هناك احتمال ثالث ؟ بالطبع لا ...
فإذا كان هذا الشيء الأخر منفصل عنك فهذا يسمى مباين ، أما إذا كان داخلا فيك كصفة من صفاتك مثلا أو لون بشرتك فهذا يسمى محايث ..
فأنا وأنت وكل من له ذات تقومه تسمى قائم بنفسه ، لا نكون إلا متباينين أي خارجان عن بعضنا البعض منفصلين ...
وأما الصفات والأعراض كالطول والقصر والسواد والبياض فهذه لا تقوم بنفسها بل تقوم بغيرها مما يقوم بنفسه يعني أن الصفة أو العرض لا تقوم بنفسها فلا تجد طولا إلا في شيء قائم بنفسه يسمى طويلا ولا تجد سوادا إلا في شيء قائم به السواد يسمى أسود أما الطول والقصر والبياض والسواد فلا تجده مباينا قط بل محايثا لغيره داخلا فيه أبدا موصوف به فالمباين هو المنفصل عن غيره الذي له ذات تمنعه من تداخل غيره فيه فهو المتميز بذاته عن غيره . والمحايث هو الذي يكون حيث يكون غيره كالطعم واللون والرائحة في التفاحة ، وكالعلم والسمع والبصر في الإنسان والحيوان فإنها صفات تقوم بالموصوف به لا تقوم بنفسها ..

والقضية الضرورية - أي التي يكون العلم بها ضروريا - بعد تأمل معنى المباين والمحايث هي أن كل موجودين لابد ان يكون أحدهما إما مباينا للآخر أو داخلا فيه أي إما أن يكون كل منهما خارجا عن الآخر أو داخلا فيه ...

فإما داخل وإما خارج ، فإن لم يكن داخلا فيه فهو خارجا عنه . هذه هي القضية الضرورية التي عليها النزاع ...
كل موجودين إما أن يكون أحدهما داخلا في الأخر أو خارجا عنه ...

فإن لم يكن لا داخلا ولا خارجا فهو غير موجود أصلا يعني عدم !

يعني أنك إذا افترضت شيئا موجودا وقلت عنه هو ليس بداخلي فسأفهم بالضرورة أنه خارج عنك فإن قلت عنه أنه ليس بداخلي ولا بخارجي فسأفهم حينئذ أنه ليس موجودا بالضرورة ، ليس هناك فهم آخر عند جميع العقلاء كل موجود إما أن يكون داخلك أو خارجك فإن لم يكن هذه فهي الأخر فإن لم يكن لا داخلك ولا خارجك فهو قطعا غير موجود ..

فإذا أثبتنا أن الله سبحانه وتعالى له ذات موجودة في الأعيان غير مقصورة الوجود في الأذهان فنحن نثبت له سبحانه وجودا يليق بذاته العلية لا يماثل وجود المخلوقين الفاني فهو سبحانه والأول والآخر والظاهر والباطن ، أول لا شيء قبله وآخر لا شيء بعده وظاهر لا شيء فوقه وباطن لا شيء دونه ،لا يفنى ولا يبيد ولا يكون إلا ما يريد سبحانه جل في علاه ...

فإذا قلنا أن الله سبحانه وتعالى كان ولم يكن شيئا غيره ثم خلق هذا العالم ، فإما أن يكون قد خلقه داخل نفسه سبحانه ،وإما أن يكون قد خلقه خارج نفسه ثم دخل فيه سبحانه ،وإما أن يكون خلقه خارج نفسه وتميز عنه فهو بائن عنه ..
وليس وراء هذه القسمة شيء ، وهذه هي حجة الإمام أحمد على الجهمية في مناظرته لهم ... فيكون الرب سبحانه وتعالى إما مباينا للعالم أو محايثا له داخلا فيه ممتزجا به ...

- فأما أهل الحلول من الجهمية وغيرهم فقالوا إن الله سبحانه وتعالى قد حل في العالم فهو داخل فيه غير متميز عنه .وقالوا إن الله سبحانه في كل مكان ...
- و جاء هؤلاء المعطلة وقالوا ليس فوق العرش شيء ،بل ليس للعرش فوق أصلا ! لانه يلزم من ذلك أن مختصا بجهة وله حيز وهذا من خصائص الأجسام ، فلا هو مباين ولا هو محايث ، ولا هو داخل العالم ولا هو خارج العالم ، ولا فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا أما ولا خلف ، ولا هو متحرك ولا هو ساكن .. إلخ فوصفوه سبحانه وتعالى بأوصاف المعدوم !بل الممتنع !!! وخالفوا أحكام الضرورة والعقل والفطرة والشريعة وقالوا أن هذا يصح لو كان سبحانه جسما متحيزا مختصا بجهة أما ما ليس بجسم ولا في جهة ولا في حيز فلا يوصف بأنه مباين أو محايث أو داخل أو خارج .فعارضوا أحكام الضرورة والشريعة والفطرة بألفاظ مجملة اصطلحوا عليها لا يعرفها العرب في لغتهم ولا الشرع في أحكامة فعارضهم أمثالهم من أهل الكلام بنفس حججهم العقلية وبينوا لهم بطلان أقوالهم وأثبتوا ان الله سبحانه فوق العرش مباينا للخلق...
وقالوا وإن لزم أن يكون في جهة فنحن نثبت له الجهة ونثبت له الحد ونثبت له الفوقية والمباينة ، فالجهة من لوازم القيام بالنفس فكل قائم بنفسه لابد أن يكون في جهة من غيره بالضرورة والحد من لوازم تميز القائم بنفسه عن غيره فإن قلتم هذا يلزم منه أن يكون الله جسما قلنا هو جسم لا كالأجسام ، وليس في ذلك أي تشبيه أو تمثيل بين الخالق والمخلوق،فيحار هؤلاء النفاة في جوابهم !
وليس لهم جواب إلا أن يقولوا هذا قول شاذ ليس في لغة العرب أن الجسم هو الموجود أو القائم بنفسه ، وتعاموا عن أن هذا اصطلاح كاصطلاحهم !

وهؤلاء هم من احتج بهم شيخ الاسلام رحمه الله على الرازي في بيان التلبيس وبين ظهور حجتهم وعلوها على حججة وقربها للعقل والحق والفطرة حيث أنها مع بدعيتها إلا أنها في النهاية وافقت أحكام الكتاب والسنة من إثبات العلو والفوقية لله سبحانه وتعالى ...

والله الموفق