إن شهر رمضان المبارك قد انقضى ، وانتهت أيامه ، وتصرمت لياليه ، وقد ارتحل عنا ، وطويت صحائفه مُحملةً بأعمال العباد ، فمنهم الرابح ومنهم غير ذلك ، ومنهم من اغتنم أيامه ولياليه في التقرب إلى الله تعالى بما يستطيع ، ومنهم من كان مُقصرًا ومُسرفًا على نفسه ، ومنهم من جمع بين الصالح وغير الصالح من القول والعمل والنية ، وهكذا تتفاوت المستويات بين الناس فيما حصلوه من الأجر والثواب ، وما غنموه من هذا الموسم الرباني العظيم الذي تُفتح فيه أبواب الجنات ، وتنزل الرحمات ، وتُضاعف الحسنات ، وتُرفع الدرجات ، وتُجاب الدعوات ، وتُقال العثرات ، وتُمحى الخطايا والسيئات ؛ فاللهم اكتبنا فيه من الفائزين ، واجعلنا من المقبولين ، و اعتق رقابنا ورقاب آبائنا وأُمهاتنا من النار يا رب العالمين .
عباد الله ، إن شهر الصيام قد انقضى ؛ إلا أن زمن العمل الصالح والنية الصالحة لا ينتهي ، وهذا يعني أن على الإنسان المسلم ذكرًا كان أو أُنثى ، صغيرًا كان أو كبيرًا ، عالمًا أو مُتعلمًا ، أن يجتهد بعد شهر رمضان في طاعة الله تعالى ، والتقرب إليه سبحانه في كل شأنٍ من شؤون حياته ، وكل جزئيةٍ من جزئياتها كما كان يجتهد لذلك في شهر رمضان ، لأن رب الشهور واحد سبحانه ، ولأنه ( جل في عُلاه ) هو الذي فرض الطاعات وشرعها للعباد ، وهو الذي حث على الإتيان بها والمحافظة عليها في شهر رمضان وفي غيره من الشهور ، وهو الذي مع ذلك كله لا يُضيع أجر المُحسنين .
أيها المسلمون : ولئن كان فضل رمضان قد ولى وفاز به من فاز من العباد؛ فإن فضل الله تعالى وكرمه لا يزال باقيًا ومُستمرًا إلى قيام الساعة ، وهو سبحانه يؤتيه من يشاء من عباده ، ويوفق إليه من يُحب ويختار ، وخير دليلٍ على ذلك أنه سبحانه وتعالى قد شرع لنا من الطاعات ما يُقربنا إليه ويُكسبنا ثوابه ويُبلغُنا الدرجات العلا من الجنة ؛ فقد شُرع لنا صيام التطوع في غير شهر رمضان ، لما صحَّ عند الإمام مُسلم عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال كان كصيام الدهر " .
وجاء الحث على صوم ثلاثة أيامٍ من كل شهر ، وصيام يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع ، وصيام عشر ذي الحجة ، ومنها صيام يوم عرفة ، والصيام في شهر الله المُحرم كيوم عاشوراء ويومٍ قبله أو بعده ، وغير ذلك من الأيام على مدار العام .
كما أن تعاليم ديننا الحنيف جاءت مُرغبةً في المحافظة على قيام الليل بالصلاة وبيان فضل ذلك عند الله تعالى ، فعند النسائي أن حميد بن عبد الرحمن قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل " .
وجاء في مسند الإمام أحمد أن أُم المؤمنين عائشة ( رضي الله عنها ) قالت لسائلٍ سألها :
" لا تدع قيام الليل ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يدعه وكان إذا مرض أو كسل صلى قاعدًا " .
وهناك عبادة أُخرى تتمثل في الإكثار من الصدقات ولو بالقليل ، وتفقد أحوال الفقراء من الناس ، والإحسان إلى المحتاجين منهم ولو بالشيء اليسير ، وهي من أفضل الطاعات والقُربات إلى الله تعالى الذي قال في كتابه العظيم : { إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ }( يوسف : من الآية 88 ) . والتي صحّ عن سعيد بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال في فضلها :
" من تصدق بصدقةٍ من كسبٍ طيبٍ ، ولا يقبل الله إلا طيبًا ، كان إنما يضعها في كف الرحمن ، يُربيها كما يُربِّي أحدكم فلُوه أو فصيله حتى تكون مثل الجبل " . ( رواه مالك في الموطأ ) .
كما أن ذكر الله تعالى ( تسبيحًا ، وتهليلاً ، وتكبيرًا ، واستغفارًا ، وحمدًا ، وشُكرًا ، إلى غير ذلك ) ، يُعد من الطاعات التي لا ينبغي للمُسلم أن يغفل عنها في أي وقتٍ من الليل أو النهار ، وأن يحرص على إشغال نفسه بها في السر والعلن ، وأن يجتهد في المحافظة عليها في كل شأنٍ من شؤون حياته ، وتعويد اللسان على الإتيان بها دائمًا لما في ذلك من تعظيم شأن الله تعالى ، وإشغال الجوارح بما فيه الفلاح والصلاح والنجاح ، ولذلك قال تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً _ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } ( الأحزاب : 42 ) .
كما أنه جاء في مصنف ابن أبي شيبة عن معاذ بن جبل t ، أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله " .
وليس هذا فحسب ، فكل عملٍ أو قولٍ أو نيةٍ صالحة ؛ إنما هي من أعمال البر والإحسان والطاعات والقُربات التي يتقبلها الله تعالى من العباد ، ويُكافئ عليها بعظيم الأجر وجزيل الثواب متى توافر فيها شرطان أساسيان هما :
( أولاً ) أن تكون خالصةً لله سبحانه ، ولا يبتغى بها صاحبها إلا وجهه الكريم جل في عُلاه .
( ثانيًا ) أن تكون موافقةً لما جاء به منهج الدين الإسلامي الحنيف ، وهدي الرسول الكريم محمدٍ بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، وغير مخالفةً له أو مُتعارضةً مع سنته المُطهرة .
فيا عباد الله تذّكروا ( بارك الله فيكم ) أن طُرق الخير كثيرة ، وأن سُبل الفلاح مُيسرّة ، وأن أبواب الجنة ثـمانية ، وأن رحمة الله تعالى وسعت كل شيء ، وأنه - جل جلاله - يقول فيما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ، عن ربه سبحانه أنه قال :
" يا عبادي ، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، ثم أوفيكم إياها ؛ فمن وجد خيرًا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه " ( رواه مسلم في صحيحه ) .