مذكرات سحاب(1)
مذكرات سحاب
1
يقولون بأني مازلتُ صغيرة.. أجل أنا كذلك فسنواتي التسع قليلة بالنسبة لسنوات أعمارهم الطويلة كنخلة، ولكنهم يعرفون أيضًا بأني ذكية جدًا، وأفهم الكلام ولو تلميحًا، سمعتهم يقولون: (كونوا حذرين عندما تتكلمون أمام سحاب، فهي شديدة الانتباه، ولاتفوتها كبيرة ولاصغيرة دون أن تفهمها، وتعرف ماوراء القصد منها).
أجل صدقوا، وكم تمنيت ألا أكون كذلك لأنه يسبب لي الكثير من جراح النفس لفرط حساسيتي تجاه ماأسمعه مما يقولون، خاصة أثناء كلامهم عن أمي المطلقة وعن أهلها، وأيضًا عندما يريدون القيام بعملٍ ما، ولايريدونني أن أكون موجودة
، فيضطرون لإخراجي من مجلسهم بحيل لاتنطوي علي، ويرجعون ذلك أحيانا إلى فطنتي المكتسبة من مورثاتي من أمي، فأهلها معروفون بالذكاء والعلم، بينما أهلي لأبي هم متوسطو العلم، لن أقول عنهم جهلة، ولكنَّ الدهاء لاينقصهم فيكون أحيانا في غيرصالحهم لقربه من الخطأ أكثرمنه إلى الصواب، ولكنهم يحسبونه الصحيح دائما خاصة ماتقوله عمتي الكبرى ربيحة، فرأيها أهم من رأي الجميع ..
2
ذات يوم كنت وأختي سها نشاهد برنامج الأطفال في غرفة الجلوس، وكانت (زوجة أبي )ترضع أخي الصغير سامح، بينما جلست أختي هدى تلعب بدميتها الشقراء التي أحضرها لها خالها سعيد في عيد ميلادها أول أمس.
أثناء مشاهدتنا البرنامج، استضافت المذيعة طفلة صغيرة حلوة الضفائر، تزين شعرها شرائط من الساتان الأحمر المزركشة بألوان فستانها المليء بالزهور، والورود الخلابة التي شممت رائحة عبيرها تفوح في أجواء غرفتنا الصغيرة من شدة تأثري بجمال الفستان وشرائط الساتان.
تمنيت أن يكون لي فستان مثله، أوشكت دمعتي أن تنساب فوق خدي الذي تلون بحرقة الأمنية هذه، لكنني أمسكت الدمعة بجفوني وأنا أرى زوجة أبي ترمقني بنطرات غريبة، لحظات صمت مرَّت ثقيلة على نفسي طلبت مني بعدها إغلاق التلفزيون، والذهاب إلى غرفتي مع سها لتحفيظها دروسها بحجة أني أكبر منها بعام، وأسبقها بصفٍّ في المدرسة.
التقطت دمعتي بباطن كفي وأنا أغادر المكان إلى غرفتي بصمت. انتظرت سها طويلا.. لم تحضر إلي.. صوت صاحبة الفستان المزهر يعود.. يعلو.. يخترق أذني، وهي تردد أغنية جعلت دموعي تتدفق ساخنة لم أستطع كبح جماحها المتوتر بالحزن والألم.. تسربت ملوحتها إلى فمي.. ألهبت تشققات شفتَي.. هيجتْ أنين روحي، فقررت كتابة مذكراتي كما تكتب صديقتي تالا مذكراتها.
3
في المساء وبعد أن تأكدت من نوم الجميع، أخذت من حقيبة المدرسة دفترًا صغيرًا كانت المعلمة قد طلبته منا لكتابة الملاحظات على الدروس في البيت والمدرسة، وكان مايزال ممتلئا بالصفحات البيضاء، فقررت الكتابة في النصف الثاني منه، وهذا لن يؤثر على ماأكتبه في النصف الأول، خاصة وأن العام الدراسي أصبح على وشك الانتهاء .
أضأت نور الغرفة الخافت، وجلست على حافة سريري بهدوء كي لاأحدث حركة قد توقظ سها من النوم، وتبدأ بالبكاء فتأتي خالتي وتؤنبني .
بدأت أفكر في كل ماأذكره من أحداث مرت بي منذ أن وعيت الدنيا، وأنا في بيت جدتي لأبي بعد أن أخذوني من أمي عندما رفض أهلها إعادتها لأبي، وتم طلاقها وأنا مازلت جنينًا .
قلبي الآن يرتجف خوفًا من أن تستيقظ خالتي، وتراني أكتب مذكراتي.. أنا لاأعرف ماهي المذكرات ولكن صديقتي تالا أخبرتني بأنها تكتب كل يوم مايحصل معها كي تتذكره في المستقبل، أعجبتني الفكرة، وبدأت الآن بتنفيذها والجميع نائمون ..
بصراحة ما شجعني على الكتابة اليوم هو تصرف زوجة أبي معي وأنا أشاهد صاحبة الفستان المزهَّر في التلفزيون.. لقد شعرت بكسر خاطري من قبلها، فلو كانت هي أمي التي أنجبتني لاختلف الأمر كثيرًا.. كنت سأتدلل عليها كي أبقى أمام الشاشة، وأيضًا كنت سأطلب منها شراء فستان جميل مزهَّر، وشرائط ساتان مزركشة، وسألبس الفستان، وأزين جديلتي بالشرائط، وأغني أمامه، وهي تصفق لي سعيدة. لماذا ياأمي تركتِ ابنتك لزوجة أبيها؟ ماذنبي أنا كي يكون عقابك لأبي وعقابه لك بي؟ هاأنا وحيدة بيني وبين نفسي لاأحد يحس بوجعي.. كانت جدتي أرحم بي من زوجة أبي رغم أنها تخاف منه كثيرًا، فهي تعلم كم هو يحبني، ويغضب إن علم بما يضايقني، ولكنني لاأحب مضايقته، فلا أخبره بما يحدث في البيت أثناء غيابه ..سأنام الآن لأن قلبي يبكي وعيني تحرقني من النعاس.
4
وقفت الليلة على شاطئ الحزن.. كان البحر هائجًا يهاجمني بأمواجه السوداء ذات الأنياب الطويلة، والأظافر الحادة كالذئب الذي افترس جدة ليلى. كنت أرى عينيه الحمراوين يتطاير منهما شررٌ مخيف يقع في قلبي حارقًا، فنوافذه وأبوابه ليست محمية بصاداتٍ من دفء وحنان تحميه من مهاجمة جيوش الألم له بكف الظلم من أقرب الناس لي . في هذه الليلة، وقبل أن أستلقي في فراشي، وألجأ إلى دفتر مذكراتي الصغير كاتم أسراري، كنت في غرفة الجلوس مع خالتي وأخواتي، فنظرت إلي بابتسامة رقيقة، وطلبت مني الذهاب للنوم دون أن تطلب من أختي ذلك.. خرجت من الغرفة دون اعتراض الذي لايحق لي أصلا، ذهبت إلى المطبخ لتناول كأسٍ من الماء، وأنا في طريقي إلى غرفتي سمعت خالتي تهمس لسها قائلة: سنأكل معًا آيس كريم عندما تنام سحاب. دخلت غرفتي حزينة، تخنقني غصة مفاجئة.. هاهي زوجة أبي تطردني من الغرفة بطريقة لبقة لتأكل الآيس كريم مع ابنتها، وهي تعرف مدى شغفي به، دون أن تفكر بالمساواة بيني وبين أختي، وبأنَّ أبي هوالذي يدفع ثمن الآيس كريم وليست هي، ولا أهلها. سامحك الله ياأمي ليتك تحضرين لي آيس كريم، سآكله هنا في غرفتي دون أن تراني زوجة أبي البخيلة.
5
بدأت القصص التي عشتها سابقًا بالهجوم على رأسي الصغير، تطلب مني أن أسجلها في النصف الثاني من دفتر الملاحظات.. ولكنها كثيرة، ومتنوعة، ولكل قصة منها حادثة مختلفة، لذلك سأسجل مايخطر ببالي أولا، وأتمنى أن أكمل كتابة المذكرات كلها، ثمَّ أعطيها بعد ذلك لمدرستي علية في المدرسة، كي تحفظها لي عندها في خزانة الصف..
أنا أحب معلمتي كثيرًا فهي طيبة جدًا وحبوبة، وهي أيضًا تحبني، ودائمًا تناديني في وقت الفرصة، وتعطيني بسكويت بالشوكولا.. وهي دائمًا تقول لطلاب الصف كونوا شاطرين مثل سحاب. قالت لي ذات يوم بأنها تعرف أمي، فهي صديقة خالتي صباح.. وتزور بيت جدي لأمي دائما، فرحت كثيرًا عندما أخبرتني بذلك، وازددت محبة لها، وكثيرًا ما كانت تسامحني عندما أحضر إلى المدرسة دون كتابة وظيفتي بسبب أعمال البيت التي أساعد بها زوجة أبي، فأنا التي أجلي الصحون بعد الطعام، وأنظف البيت عندما تكون هي مشغولة بالطبخ.. كنت صغيرة جدًا عندما بدأت تعلمني كيف أجلي الصحون، فكانت تضع لي كرسيا صغيرًا لأقف فوقه كي أطال الحوض الذي أنظف فيه الصحون والكاسات، ولكن يدي صغيرة لاتستطيع تنظيف الطناجر الكبيرة، فكانت هي التي تنظفها. جلي الصحون والملاعق يؤلم الظهر بسبب الوقوف فوق الكرسي.. قلت لوالدي ذات يوم إن ظهري يؤلمني من تنظيف الصحون كل يوم، فغضب غضبًا شديدًا وقال لزوجته: مازالت سحاب صغيرة على مثل هذا العمل.. اتقي الله فيها، فقد يتعرض أولادك لمثل ماتتعرض له سحاب إن قدَّر الله فطلِّقتِ، أومتِّ بعد عمرٍ طويل.. فصرخت به قائلة: لا يا حبيبي، أنا لست كأم سحاب يأكل القط عشائي.. أنا مهري غالي ياأبا أولادي، وظهري قوي. فصمت والدي ولم يعد يقول شيئًا عندما يراني واقفة فوق الكرسي وأنا أنظف الصحون، فقد سبق له أن أجبرته المحكمة على دفع مهر أمي عندما طلبت منه الطلاق.
بقلم
زاهية بنت البحر
يتبع