أن الطمأنينة والاستقرار النفسي مطلب البشر قاطبة
وإن اختلفوا في تحديد معاييرها وطرق الوصول إليها
بعض النفوس ظنت أنه بالمال وتحصيله
او في الجاه والمنصب او في الأهل والولد
و الواقع المشاهد أن الأمر خلاف ذلك
فكم من غني لم يفارق الشقاء جنبيه
ولم يجد في المال معنى الغنى الحقيقي
وكم من صاحب جاه لم يذق طعم الأنس والاستقرار
ولا لاح له طيفه يوماً ما
وكم من صاحب أهل وولد يتقلب على رمضاء الحزن والقلق
بينما نجد في واقع الحال شخصا لم يحظ بشيء من ذلك البتة
لا مال ولا جاه ولا أهل ولا ولد
غير أن صدره أوسع من الأرض برمتها
وسعادته أبلغ من شقاء أهلها
وطمأنينته أبلج من قلقهم واضطرابهم
لأن تلك الأصناف قد تباينت في تعاملها مع النعمة الكبرى
التي أنعم بها الله على عبده المؤمن.
أنها نعمة إذا وقعت على العبد المؤمن أرته الدنيا واسعة رحبة
ولو كان في جوف حجرة صغيره جدا
ولو نزعت من قلب العبد لضاقت عليه الارض بما رحبت.
أنها نعمة الرضا وهو السلاح الفتاك
الذي يقضي بحده على الأهوال الهائلة
التي ترعب النفس وتضرب أمانها واطمئنانها
بسلاح ضعف اليقين والإيمان
و أنه من أمن عرف طريقه ومن عرف طريقه رضي به
وسلكه أحسن مسلك ليبلغ ويصل ولا يبالي بما يتعرض له
وإن بصره وفكره متعلقان بما هو
أسمى وأنقى من هذه الحظوظ الدنيوية
لقوله صلى الله عليه وسلم
«ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً
وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً»
أن للرضا حلاوة تفوق كل حلاوة وعذوبة
من المذاق النفسي والروحي والقلبي ما يفوق مذاق اللسان للعسل
العمل بالرضا ذكراً وعملاً يمكن النفس من خوض عباب الحياة
دون متاعب او مشاق
لأن الحديث قد تضمن الرضا بربوبية والوهية الله سبحانه
والرضا برسوله صلى الله عليه وسلم
والانقياد له والرضا بدينه والتسليم له
وهذه الدعامات الثلاث مقاصد مشروعة
مضادة لما يخالفها من الهوى والشهوة
التي تعترض المرء ما دام حياً وهي معه
في معركه بين الحق والباطل والرضا والسخط
أن الأمة في هذا العصر التي تموج فيها الفتن
وتتلاقح فيها الشرور والنكبات
أحوج ما تكون إلى إعلان الرضا بالله رباً
وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً
وذلك بلسانها وقلبها وجوارحها لأن ما تعانيه
الأمة المسلمة اليوم يصدق فيها
قول الحسن البصري - رحمه الله
حيما سئل من أين أوتي هذا الخلق؟
فقال: من قلة الرضا عن الله
فقيل له: ومن أين أوتي قلة الرضا عن الله
فقال: من قلة المعرفة بالله.
وأشار إلى أن هذه ليست نهاية المطاف ولا غاية المقصد
بل إننا أحوج ما نكون إليه
في الواقع العملي ليلامس شؤوننا المتنوعة
في المأكل والمشرب والملبس والعلم والعمل والحكم والاقتصاد
والاجتماع والثقافة والاعلام وسائر نواحي الحياة
ان النفوس مشرئبة إلى أن ترى في واقع الناس الرضا
بألوهية الباري جلّ شأنه
والمتضمن الرضا بمحبته وحده وخوفه وحده ورجاءه وحده
وهو الرضا بربوبيته سبحانه والمتضمن الرضا بتدبيره
وأن ما أصاب العبد لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه
واذا رضي العبد بربوبية الله والوهيته فقد رضي عنه ربه
وإذا رضي عنه ربه فقد أرضاه وكفاه وحفظه ورعاه
فقال سبحانه وتعالى: «رضي الله عنهم ورضوا عنه»
أن انتشار الرضا بدين الله في أرضه
هى صفة سعادة المجتمعات برمتها
ومتى عظمت الأمة دينها ورضيت به حكماً عدلاً في جميع شئونها
أفلحت وهديت إلى صراط مستقيم
وأن واقع مجتمع يشد الناس إلى التدين ويذكرهم بحق الله
وتشم رائحة التدين في أروقته لهو المجتمع الرضي حقاً
والمستشعر هذا الدين وضرورته لهم كضرورة الماء والهواء
لأن أمة تهمل أمر دينها وتعطل كلمة الله في مجتمعها
إنما تهمل أعظم طاقاتها وتعطل أسباب فلاحها في الدنيا والآخرة
ما أعظم الأمة الواثقة بنفسها الراضية بربها ودينها
ورسولها صلى الله عليه وسلم
وتردد في سرها وجهرها
رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبيناً ورسولاً
والحذر من الاضطراب والتفرق والذل والخوف والفوضى
فكل ذلك مرهون سلباً وإيجابا بالرضا بالدين وجوداً وعدماً
ومن يبتغي غير الإسلام ديناً
فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين
أن الدين كامل وصالح لكل زمان ومكان
وهو دين الرحمة والرأفة والقوة والصدق والأمانة والاستقامة والعبودية لله
هو دين متين خالد لا يقوض بنيانه ولا تهز أركانه
ولا يشوبه نقص ولا يفتقر إلى زيادة وهو كامل بإكمال الله له
من خطبة الجمعه بالمسجد الحرام بمكه المكرمه
للامام الشيخ الدكتور سعود الشريم
تحيتي للجميع