سادساً: أسباب السعادة وصفات السعداء
:
1- الإيمان بالله، والعمل الصالح:
يقول الله تعالى (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) (النحل: من الآية97) أي فلنحيينه حياة سعيدة.
وكلنا يريد الحياة الطيبة، فعلينا بالعمل الصالح مع الإيمان: (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (المائدة: من الآية69).
وفي حديث أبي يحيى صهيب بن سنان قال رسول الله " عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد، إلا للمؤمن، إن أصابته سراء، شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء، صبر، فكان خيرا له " [رواه مسلم 18/125].
وكان الرسول يجد راحته ولذته في الصلاة والطاعة، كان يقول: " أقم الصلاة يا بلال، أرحنا بالصلاة " [رواه أحمد وأبو داود].
بينما نجد كثيرا من الناس يقول: أرحنا من الصلاة، نحن في غم، في هم، نحن مشغولون عن الصلاة - هكذا يقولون - والرسول يقول: " وجعلت قرة عيني في الصلاة " [رواه أحمد والنسائي].
ولنعرج على مثال حي واقعي، لنرى كيف يفعل الإيمان بأصحابه، كيف يجعلهم يشعرون بالسعادة في كل الأحوال!! ابن تيمية - رحمه الله - عذب وسجن وطرد، ومع هذا نجده يقول، وهو في قلعة دمشق، في آخر مرحلة من مراحل إيذائه وجهاده، يقول: "ما يصنع أعدائي بي، أنا جنتي وبستاني في صدري، أنى رحلت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة".
هكذا نجد شيخ الإسلام يغلق الطرق في وجوه أعدائه بهذه القولة الخالدة، التي تعد نبراسا يضيء الطريق للمؤمنين، ولا يستطيعها إلا عظماء الرجال، وذوو الهمم العالية.
2- الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره:
فكله من الله - سبحانه وتعالى - فاعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك.
وهذه الصفة من أهم صفات السعداء، إذ لا يمكن أن تحصل السعادة إلا لمن يؤمن بالله، ومن الإيمان بالله الإيمان بقضائه وقدره، والرضا بقسمه، لأن الإنسان في هذه الحياة لا بد أن ينتابه شيء من الهموم والمصائب، فإن لم يؤمن بالقضاء والقدر، هلك.
ولنضرب مثلا للإيمان بالقضاء والقدر، وأثره في سعادة الإنسان:
عروة بن الزبير- رحمه الله - أرادوا أن يقطعوا رجله، لأن فيها الآكلة (السرطان) فقالوا له: لابد أن نسقيك خمرا، لكي نستطيع أن نقطع رجلك بدون أن تحس بآلام القطع - خاصة أنهم بعد القطع سيضعونها في الزيت المغلي ليقف الدم - فماذا كان موقفه؟
لقد رفض وقال: لا، أيغفل قلبي عن ذكر الله!! فقالوا: إذن ماذا نفعل؟ قال: سأدلكم إلى طريقة أخرى، إذا قمت إلى الصلاة، فافعلوا ما تشاؤون، لأن قلبه - حينئذ - يتعلق بالله، فلا يحس بما يفعل به.
وفعلا عندما كـبر مصليا، قطعوا رجله من فوق الركبة، ولم يتحرك، ولكن عندما وضعوا رجله في الزيت المغلي سقط مغشيا عليه، وفي الليل أفاق. فإذا بالناس يقولون له: أحسن الله عزاءك في رجلك، وأحسن الله عزاءك في ابنك.
لقد مات ابنه في هذه الأثناء، فماذ قال؟ قال بكل تسليم وإيمان بالقضاء: "الحمد لله، يا رب إن كنت ابتليت فقد عافيت، وإن كنت أخذت فقد أعطيت وأبقيت".
هذا هو الإيمان الصادق بالقضاء والقدر، ولكن أين أمثال هؤلاء التقاة الخاضعين لله، المسلمين لمشيئته، (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت:35).
3- العلم الشرعي:
فالعلماء العارفون بالله هم السعداء.
وإليك يا أخي الكريم قصة تناسب هذا المقام، وهي قصة لأحد العلماء الزهاد، ألا وهو أبو الحسن الزاهد، فما أحداث تلك القصة المثيرة؟
كان أحمد بن طولون - أحد ولاة مصر - من أشد الظلمة، حتى قيل: إنه قتل ثمانية عشر ألف إنسان صبرا (أي يقطع عنه الطعام والشراب حتى يموت) وهذا أشد أنواع القتل، فذهب أبو الحسن الزاهد إلى أحمد بن طولون امتثالا لقول الرسول " أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر " [رواه أحمد والنسائي وابن ماجة] وقال له: "إنك ظلمت الرعية"، وخـوفـه بالله - تعالى - فغضب ابن طولون غضبا شديدا، وأمر بأن يجوع أسد ثم يطلق على أبي الحسن!! يا له من موقف رهيب!! لكن نفس أبي الحسن الممتلئـة بالإيمان والثقة بالله، جعلت موقفه موقفا عجيبا.
عندما أطلقوا عليه الأسد أخذ يزأر، ويتقدم، ويتأخر، وأبو الحسن جالس لا يتحرك، ولا يبالي، والناس ينظرون إلى الموقف، بين باك وخائف على هذا العالم الورع.
وضعوا أمامه أسدا جائعا!! إنها معركة غير متكافئة!! ولكن ما الذي حدث؟ لقد تقدم الأسد وتأخر، وزأر، ثم سكت، ثم طأطأ رأسه، فقرب من أبي الحسن، فشمه، ثم انصرف عنه هادئا، ولم يمسسه بسوء.
وهنا تعجب الناس! وكبروا، وهللوا.
ولكن في القصة ما هو أعجب من ذلك.
لقد استدعى ابن طولون أبا الحسن، وقال له: قل لي بماذا كنت تفكر، والأسد عندك، وأنت لا تلتفت إليه، ولا تكترث به؟
فأجاب قائلا: إني كنت أفكر في لعاب الأسد - إن مسني - أهو طاهر أم نجس؟
قال له: ألم تخف الأسد؟ قال: لا، فإن الله قد كفاني ذلك.
هذه هي السعـادة الحقيقية، التي يورثهـا الإيمان والعلم النافع، هذا هو الانشراح الذي يبحث عنه كل الناس.
هذا الموقف الصلب من أبي الحسن يذكرنا بموقف الصحابي الجـليل خبيب بن عدي - رضي الله عنـه - عنـدمـا أسره المشركون، وقبل أن يقتلوه، سألوه: هل لك حاجة قبل أن تموت؟ فطلب منهم أن يمهلوه حتى يصلي ركعتين، فأمهلوه فصلى ركعتين - وكان أول من سن الركعتين قبل القتل .
وبعد الصلاة قال: والله لولا أني خشيت أن تظنوا أني جزع من القتل، لأطلت الصلاة..
فلما رفعوه ليصلبوه ويقطعوه، سألوه: أتحب أن محمدا مكانك وأنك بين أهلك؟
فقال: "والله إني لا أحب أن يصاب محمد بشوكة بين أهله، وأنا في مكاني هذا"!!
انظر يا أخي إلى قوة اليقين، وصلابة المؤمنين!! ثم قال "اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا".
شجاعة، بطولة! قوة يقين! رسوخ إيمان! يصلي بثبات، يرد عليهم بثبات، يدعو عليهم بثبات، ينشد هذه الأبيات بثبات، هذا هو لب السعادة لمن أرادها.
4- الإكثار من ذكر الله وقراءة القرآن: (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: من الآية28).
إن من داوم على ذكر الله يعش سعيدا مطمئن القلب. أما من أعرض عن ذكر الله، فهو من التعساء البؤساء. (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) (الزخرف:36).
(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طـه:124).
(فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (الزمر: من الآية22).
5- انشراح الصدر وسلامته من الأدغال:
وفي القرآن الكريم آيات عديدة في مقام الانشراح، فقد حكى الله عن موسى - عليه الصلاة والسلام - قوله (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) (طـه: من الآية25).
وقال تعالى - ممتنا على رسوله محمد - (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (الشرح:1).
وقال تعالى: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ) (الأنعام: من الآية125).
ويقول - جل شأنه: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) (الزمر: من الآية22).
فانشراح الصدر وطلبه من علامات السعادة وصفات السعداء.
6- الإحسان إلى الناس:
وهذا أمر مجرب، ومشاهد، فإننا نجد الذي يحسن إلى الناس من أسعد الناس، ومن أكثرهم قبولا في الأرض.
7- النظر إلى من هو دونك في أمور الدنيا وإلى من هو فوقك في أمور الآخرة:
كما ورد في التوجيه النبوي الكريم حين قال " انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله " [رواه مسلم].
هذا في أمور الدنيا، لأنك إذا تذكرت من هو دونك، علمت فضل الله عليك.
أما في أمور الآخرة فانظر إلى من هو أعلى منك، لتدرك تقصيرك وتفريطك، لا تنظر إلى من هلك كيف هلك، ولكن انظر إلى من نجا كيف نجا.
8- قصر الأمل وعدم التعلق بالدنيا، والاستعداد ليوم الرحيل:
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي في كلمة جامعة مع أنها قصيرة: "الحياة قصيرة. فلا تقصرها بالهم والأكدار".
وهاك يا أخي هذه المحاورة القيمة التي دارت بين نفر، من المتخلين عن الدنيا، المتأهبين ليوم الرحيل.
جلس نفر من الصالحين يتذاكرون، ويتساءلون حول قصر الأمل.
فقيل لأحدهم: ما بلغ منك قصر الأمل؟ فقال: بلغ مني قصر الأمـل أنني إذا رفعت اللقمة إلى فمي، لا أدري أأتمكن من أكلها أم لا!!
ووجه السؤال نفسه إلى آخر، فأجاب بقريب من ذلك.
ولما سئل ثالثهم عن مبلغ قصر الأمل في نفسه. قال: بلغ مني قصر الأمل أني إذا خرج مني النفس، لا أدري أيرجع أم لا!!
إن الحياة - يا أخي - قصيرة، فلا تزدها قصرا ومحقا بالهموم والأكدار.
9- اليقين بأن سعادة المؤمن الحقيقية في الآخرة لا في الدنيا: قال تعالى: (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (هود:108).
ويقول الرسول " الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر " .
وهنا قصة عجيبة لابن حجر العسقلاني - رحمه الله - خرج يوما بأبهته - وكان رئيس القضاة بمصر - فإذا برجل يهودي، في حالة رثة، فقال اليهودي: قف. فوقف ابن حجر. فقال له: كيف تفسر قول رسولكم: " الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر " وها أنت تراني في حالة رثة وأنا كافر، وأنت في نعيم وأبهة مع أنك مؤمن؟!.
فقال ابن حجر: أنت مع تعاستك وبؤسك تعد في جنة، لما ينتظرك في الآخرة من عذاب أليم - إن مت كافرا -.
وأنا مع هذه الأبهة - إن أدخلني الله الجنة - فهذا النعيم الدنيوي يعد سجنا بالمقارنة مع النعيم الذي ينتظرني في الجنات.
فقال: أكذلك؟ قال: نعم. فقال: أشهد ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.
10- مصاحبة الأخيار والرفقة الصالحة:
ولا يستطيع أحد أن ينكر أثر القرين على قرينه، فهو مشهود، ومجرب، وواضح من خلال الواقع، ومن خلال التاريخ.