على من يقع اللوم في تدني وانحطاط الشعر العربي ، وما آل اليه من تهريج واسفاف واستخفاف في عقول الناس، هل نضعه على الاعلام الذي فقد رسالته الحقيقية باجهزته المتكاملة وانجرافه نحو قنوات الواقع «المرير» أم نضعه على الشعراء؟ أو بتعبير أصح «أشباه الشعراء» الذين لا يمتون إلى الشعر بصلة سوى بترتيب القصائد على أسهل البحور الشعرية وفرد عضلاتهم فقط في مجاديف القصيدة وابتعادهم عن الخوض في بحورها وتلاطم قوافيها ام انها عملية نسبة وتناسب يتقاسمونها فيما بينهم فاذا اعتبرنا «مجازا» ان الشعراء هم السبب في تدني الشعر، وهم الذين كفنوا الشعر وحملوه على اكتافهم ليعلنوا موته بقصائدهم السطحية ومفرداتهم السوقية واغراقنا بالعامية المفرطة، فنحن هنا لسنا ضد الشعر العامي أو الحر أو غيره من أنواع الشعر، بل نحن ضد الاغراق بالمفردات العامية الضحلة التي تفتقد الكثير من المفردات اللغوية، وضد سيطرتها على اللغة الام واللغة الفصحى التي تزخر بالمعاني والأخيلة والبلاغة، فالشعر كغيره من الفنون الأخرى له تبعات وظواهر، اما ان تكون في صالحه أو ضده مثلها مثل المسرح فهناك المسرح الجاد والمسرح التجاري والشعر أيضا، هناك الشعر الجاد والشعر التجاري وغيره من أنواع الشعر الأخرى، وهذه الظواهر الشعرية، وان كانت سيئة الا انها ظواهر صحية وطبيعية شريطة ان يميز بينهما المتلقي ولا تلوث ذائقته الشعرية وتضيق من أماد خياله ولكن ان يكون الشعر المفكك والركيك هو الطاغي على الأشعار الجزلة التي تمتاز على الصور والبلاغة فهنا تكون الكارثة وهنا تكون المصيبة ويكون الضحية هو الجمهور والجاني هي الجهة المسؤولة التي روجت لهذا النوع من الشعر لتبلوره وتبوبه بصورة جميلة وتنشر هذه التفاهات الشعرية وتعمل على ترويجها وقتل الابداع فيها في موروث الشعر العربي وتركت الشعراء الكبار وحبست البرامج الشعرية الهادفة والمعاجم الأدبية في ادراج مكتبات الاعلام التي اختنقت من غبار الأرشيف الا ما رحم الله من برامج شعرية متواضعة ما زالت تحتفظ في طابعها وتوهجها ولو انها تحتاج الى تطوير أكثر واثرائها بمواد أكبر .
وهنا نستذكر حديث الشاعر الكبير ابي الحيان عندما وجد في المجتمع الذي يعيش فيه عدم تقديره للعلم والأدب قام باحراق كتبه وقال وهو يحرقها لا تظنين انني احرقك طوعا وفرحا، انما حرقتك وانا احترق معك لوعة وأسى، ولكني وجدت اناسا لا يقدرون الكلمة وقيمة الكتاب، فشاعرنا حرق كتبه المليئة بالحكمة والمعرفة، وشعراء آخرون الى الآن لم يجرؤ شاعر واحد على حرق كتبه أو على الأقل توقفه عن اصدار دواوينه الشعرية، بل يفاجئنا بين الحين والآخر بديوان شعري وعندما تقوم بتصفحه لا تجده يحتوي الا على قصاصات شعرية وكلمات أصبحت ماركة مسجلة لهم «حبيبي، نصيبي، مزون، بروق» ناهيك عن دواوينهم الصوتية التي صمت ذائقتنا السمعية فعندما نقرأ اشعار فطاحلة الشعر العربي مثل امرؤ القيس تقشعر ابداننا حزنا مما نسمعه الآن من شعر أو بالأصح من عويل ونعيق وضجيج الشعراء الحاليين الذين اطلقنا عليهم مجازا اسم الشعراء التقليديين الذين وجدوا في الاعلام أرضا خصبة لهم لنشر ما يسمونه شعرا، فالشاعر بعد هذا الزخم الإعلامي ينتشي بنشوة الوقوف على الأطلال وهواية تصوير الفوتوغراف، فيمتدحون أنفسهم في قصائدهم ويضعون لهم قوانين عرفية في قاموس الشعر العربي، وفي المقابل لا يتحملون النقد حتى ان كان نقدا أدبيا صريحا لأنهم يؤمنون بنرجسية الشاعر والمثل القائل «المعنى في بطن الشاعر» حتى ان كان المعنى الذي في بطونهم خاطئا وغير صالح للنشر، فالقضية هنا ليست قضية شعر فقط أو كلام يقال، انما هي قضية اجيال وثقافات شعوب، فالشعر له تأثير على النفس وله وقع السحر على الألباب وله تأثيره في نشأة مجتمع مثقف جدير بالاحترام، ورواج مثل هذه الأشعار المعلبة والمقننة بصورها الهشة ومعانيها الضحلة ومفرداتها التي تثير الاشمئزاز والرغبة في التقيؤ عند سماعها انما لها آثارها السلبية على المجتمع، وهذا ما رفضه الفيلسوف اليوناني افلاطون عندما أقصى الشعراء الشعبيين أمثال هوميروس ومن هم في شاكلته عن مدينته الفاضلة واغلاق ابوابها في وجوههم، وكان هذا شرطا من شروط اقامة المدينة الفاضلة التي تبنى على الصدق والعدل، اما الآن فلا نرى من يخدم الشعر سوى جهود فردية فاقت الاجهزة الإعلامية في خدمتها للشعر مثل سمو الشيخ محمد بن راشد المكتوم وهو من وهب نفسه لخدمة الشعر والشعراء، فالاعلام اذن هو المسؤول أولا وأخيرا عن تدني مستوى الشعر وظهور شعراء درجة سياحية ينشرون قصائدهم التايوانية غير صالحة للاستماع الآدمي.
فاذا قسنا خلال السنين الماضية وبعملية بسيطة عن كم البرامج الشعرية الهادفة أو تسليط الضوء على شاعر كبير نجدها لا شيء.. صفر يبحث عن عدد صحيح ليصبح «كمّا» مقارنة بتسليط الأضواء على شعراء لا يحملون من القصيدة سوى وزنها الهش وتجاوزاتهم المجازية ليصبح هدف الشاعر في النهاية صورة وقصيدة خالية من الجمال والابداع.. اذن هذا هو اعلامنا وهذه هي أقلامنا فلتتحمل الديموقراطية تبعات دستورها.
عذراً على كشف الحقيقة .. !!
أخوكم
فيصل العتـيـبـــــــــــــي