مجنون إلسا



لأنّك كنتَ "مجنون إلسا" بالنّسبة لنا...
تركع على ركبتك أمام كلّ واحدةٍ بيننا، وتصدح بحركةٍ مسرحيّة:

"هاتِ يديكِ ليزولَ القلق
هاتِ يديك اللتين حلمت بهما كثيراً
وحلمت بهما كثيراً في وحدتي
هاتِ يديك لأنجو"*

ولأنّك كنت بسمتنا. والطّمأنينة إلى كتفٍ تسندنا.
ولأنّك كنت تأكل معنا "البْرنغلز" والبيتزا.
ونسمح لك برؤيتنا، ونحن نحشو أفواهنا بالبرنغلز والبيتزا.
ولأنّ الوقت حان بعد ذلك لنضيّع بعضنا. ونضيّع أنفسنا.
ولأنّنا نفتقدك أحياناً، حينما يتسنّى لنا أن نتذكّر...

لأنّ ولأنّ ولأن... لا أدري لماذا، كلّما قرأت "إلسا"، تذكّرتك وأنت تتأبّط الكتب التي لا تفهم لغتها، وتمرّر لي أوراقاً قديمة للتّرجمة، رغم تذمّري من عملٍ لم يطلبه مدرّس ولا أمر به امتحان. لا أدري لماذا، منذ ذلك الحين، كلّما قرأت "إلسا"، ساورني شعورٌ دافىء إلى التّرجمة. علّي، حينذاك، أداهمك، مطأطأ الرّأس، تقرأ بين السّطور...

لأنّك كنت تحبّ "إلسا"، طرقتَ على بالي اليوم... ولم تؤلمني.


أعيد الكتاب المصفرّ إلى مكانه على الرّف. كنت قد سطّرتَ بالأحمر كلّ السّطور. وكتبتَ كلّ الملاحظات. تركتَه يومها على كرسيّ، مع عبارة مخطوطة على عجل: "وحياتك، بليز بليز، ترجمي لي هذه الصّفحات"

تكرم عينك، ولو متأخّرة بضع سنين.




مقتطف من "بكلّ أسف"، إلسا تريوليه**

طال قرع الصبيّ المكلّف بالتّسليم على باب الغرفة المفروشة. ثمّ ما لبث أن حدّث نفسه أنّ رقم الشّقة هو عينه الذي استعلم عنه في أسفل البناية. وفي النهاية، وضع سلة أزهارٍ عند الباب، ومضى متخلّياً عن البقشيش. بدت السّلة أشبه بتلك التي تزيّن مقصورة إحدى الرّاقصات، وقد احتلّت المكان أمام الباب كأنّها نصبٌ تذكاريّ مهمّ، يتعثّر به المستأجرون حين تشتدّ العتمة في الرّواق، ويضيق بهم المسير فيه. ومن خلف أجنحة الظّلام، هبّ عطرٌ ناعمٌ، ملطّفٌ للنّفوس، فملأ المكان بأريج الزّنبق الفوّاح.

قرابة المساء، انتشرت رائحةٌ أخرى أخذت تخترق عبير الزّنبق لتزرع الدّهشة في قلب مستأجر كان يعبر الرّواق. فمن الغرفة حيث تقبع سلّة الأزهار، تناهى إليه فحيحٌ، فبدا المكان وكأنّه مؤئلٌ لمجموعةٍ من الثّعابين. أمّا الرّائحة، فحدّث ولا حرج. وسرعانَ ما اكتشف أنّ الغاز يملأ المكان! فاندفع ينزل السّلم بأقصى سرعة وهرع إلى المديرة يحذّرها، فما كان من هذه إلا أن صرخت: "يا إلهي! يا للمسكينة! لا شكّ في أنّها نسيت أن تقفل قارورة الغاز! أسرع يا سيّد جيودارني، أسرع، هاكَ المفتاح العمومي، إسبقني، فرجلايَ المنتفختان لا تساعدانني على الرّكض".

كانت المديرة تصعد الدّرجات ببطءٍ وهي تلهث وتتأوّه بشدّة، فيما أخذ المستأجرون يغادرون غرفهم الواحد تلو الآخر استطلاعاً للخبر. فبادرتهم المديرة بالتّفسير وهي تنوح وتتوقّف لتلتقط أنفاسها عند كلّ درجةٍ: "ها هو حادثٌ إضافيّ ينتج عن تسرّب الغاز! يجدر بالمسؤولين أن يمنعوا استعمال الغاز! فقد يقتلنا جميعاً يوماً بسبب أنظمته المعقّدة. آه يا للمسكينة... يا للمسكينة، لعلّها ما زالت حيّة..."

لم يكن في المسكينة نفسٌ واحد ينبض بالحياة. تسلّمت الشّرطة بلاغاً، وأقبل طبيبٌ ليعاين الجثّة، فيما الرّواق حركةٌ مستمرّة واضطرابٌ ينذر بالكوارث. أمّا سلّة الأزهار، فارتمت جثّةً هامدة على الأرض، لا يخطر في بال أحدٍ أن ينتشلها، بينما راحت الأقدام تدوس بطاقةً باسم ألكساندر أوليونار، نُقشت عليها العبارة التّالية:

- إلى أجملهنّ...

منسوخ لكم

مع التحية