الأنعام: 76 – 79.نرى في هذه الآيات كيف أن سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ وصل إلى معرفة ربه وأدرك، بالعودة إلى ضميره، أن كل ما حوله إنما هي مخلوقات وأن لهذه المخلوقات خالقاً عظيماً·وإن من يفكر بالاعتماد على ضميره ودون أن يستمع لرغباته وأهوائه، يمكن أن يرى هذا بوضوح حتى لولم يكن ثم من يخبره به فيدرك وجود الله سبحانه وتعالى·التطوّريون: مثال من حاضرنا على إنكار وجود الله على الرغم من اعتراف الضمير بهذه الحقيقة إنّ رفض رؤية هذه الحقائق الجلية وتحويل النظر عنها وتجاهل وجودها، يحطّ من قدر الإنسان على الرغم من ذكائه·إن السبب الذي يجعل الإنسان يرفض الحق الذي يمليه عليه ضميره، هو تعارض ذلك مع مصالحه الشخصية لأنّ تسليم الإنسان بوجود الله عز وجل يعني إقراره بوجود إله عظيم، يستحق أن يكون الإنسان خاضعاً له بكليته، وأن يكون مسؤولاً أمامه عن أفعاله·عندما يصم الإنسان آذانه عن صوت ضميره فإن ذلك يقوده إلى الضلال على الرغم من ذكائه ومعرفته· وسنورد مثالاً معروفاً عن هذه الحالة : ) Francis Crick فرانسيس كريك) هو أحد العالمين اللذين اكتشفا تركيب الحامض النووي في الخمسينيات· وقد كان اكتشافهما هذا واحداً من أهم الاكتشافات في تاريخ العلم الذي اقتضى عملاً دؤوباً وكماً هائلاً من المعرفة، وفوق ذلك ذكاءً شديداً، وتقديراً لذلك كله فقد نال جائزة نوبل· وقد ذهل فرانسيس كريك خلال دراسته بتركيب الخلية وتصميمها الدقيق وعلى الرغم من أنه مؤمن بمذهب النشوء ومتحمس له فقد قال في كتابه:''إن أيّ شخص صادق واستناداً إلى المعرفة المتوفرة الآن لا يمكن له إلا أن يُقرَّ أن أصل الحياة ليس إلا معجزة· فكثيرة هي الشروط التي لا بد من توفرها لاستمـرار هـذه الحيـاة''· ( الحياة: منشؤها وطبيعتها، فرانسيس كريك، نيويورك: 1981.(عندما رأى كريك تفاصيل الخلية كتب تلك الأسطر التي أتينا على ذكرها والتي أقر فيها بأن الخلية لا يمكن أن تكون نتيجة مصادفة، وإنما هي معجزة، على الرغم من كونه مؤمناً بأن الحياة قد وجدت بالمصادفة· إن أصحاب مذهب النشوء لا يؤمنون بأي تفسير غير المصادفة؛ لأن ذلك سيكلفهم أن يقروا بوجود الله عز وجل· كريك الذي تأثّر بما رآه من كمال ودقة في خلق الخلية، حيث اعترف بذهوله على الرغم من تبنيه لنظرية مختلفة، لم يمضِ في اتباع ضميره، ورفض التسليم بوجود الله عز وجل، وعاد إلى القول: إنّ هذا التدبير المتكامل الذي لا يمكن بشكل من الأشكال أن يكون قد وجد بالمصادفة قد أوجدته كائنات من عالم آخر، وهي التي جلبت عيّنة الحامض النووي الأول، وبهذا الشكل بدأت الحياة·هذا مثال حي عما يمكن أن يحدث عندما يتجاهل الإنسان صوت ضميره ويكبحه، فالنتيجة واحدة بغض النظر عن مدى ذكائه ومعرفته، كهذا العالم الحائز على جائزة نوبل حين ألغى عقله لدرجة لم يستطع معها أن يتوقف ليفكر ويسأل نفسه: كيف يمكن لهذه الكائنات المزعومة أن تخلق وهي نفسها مخلوقة ؟وقد شرح عالم الكيمياء الحيوية الأمريكي ميشيل بيهي Michael J.Behe حالة هؤلاء العلماء الذين يتجاهلون صوت ضميرهم دون أن يستعمل كلمة الضمير حين قال:''على امتداد العقود الأربعة الماضية كشفت الكيمياء الحيوية الحديثة أسرار الخلية· وهذا التقدم لم يكن بالأمر السهل، فقد اقتضى أن يكرس عشرات الآلاف من الناس أفضل مراحل عمرهم بالعمل الجاد في المختبر''· ونتيجة تراكم هذه الجهود في دراسة الخلية ودراسة الحياة على المستوى الجزيئي ظهرت صيحة مدوية وحادة تقول '' بالتصميم المبدع''!إنها نتيجة واضحة وهامة ولا بد أن تصنف على أنها واحدة من أعظم الإنجازات في تاريخ العلم، بل إنها نصر علمي كان من المفروض أن تجعل آلاف الحناجر تصرخ ··· وجدتها وجدتها، وتصفق لها آلاف الأكف حتى إنها تستحق يوماً من الراحة بعد هذا الاكتشاف العظيم·ولكن شيئاً من ذلك لم يحصل فلم يصفق أحد لهذه المناسبة، وبدلاً من ذلك أحاط صمت محرج وفضولي اكتشاف هذا التعقيد الشديد للخلية·وعندما طرح الموضوع في العلن بدأت الأرجل ترتجف وتثاقلت الأنفاس وأقر الكثيرون الحقيقة بشكل واضح، ولكنهم لم يفعلوا شيئاً سوى هز رؤوسهم والتحديق في الأرض، ومضى الأمر كما بدأ· فلماذا لم يتبنَّ المجتمع العلمي هذا الاكتشاف المذهل بجشع كعادته؟ ولماذا تمّ التعامل مع حقيقة هذا التدبير بشكل عقلاني صرف بعيداً عن تدخل الخبرة والحس؟المعضلة كلها تكمن في أن ما يمكن تفسيره على أنه تدبير بارع، هو من ناحية أخرى برهان ساطع على وجود الله الخالق، (صندوق داروين الأسود، نيويورك، المطبعة الحرة 1996 ص232 ـ 233.(إن أدلة وجود الله عز وجل جلية وواضحة لكل من يدرك أن من أبدع الكون هو الله، والذين لا يقبلون الاعتراف بوجود الله عز وجل لا يفعلون ذلك بسبب عدم إيمانهم؛ وإنما لأن هذا الإيمان يفرض عليهم قيوداً أخلاقية، فليس من أحد إلا ويعرف ضمنياً بوجود الله عز وجل وقدرته على كل شيء، ولكن هذه المعرفة ترتب عليه أن يكون مسؤولاً أمام الله ويكرس حياته لإطاعة أوامره· وهذا الذي يصر على الإنكار رغم إدراكه لهذه الحقائق إنما يفعل ذلك لأن تسليمه بها لا يتوافق مع مصالحه الشخصية ولا مع شعوره الداخلي بالتفوق· وقد وصف الله تعالى هؤلاء في القرآن في سورة النمل :وَجَحَدوا بها واسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْمَاً وعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عاقِبَةُ المُفْسِدِيْنَ. النمل: 14 .إنّ قصة سيدنا إبراهيم مع قومه كما ذكرت في القرآن الكريم يمكن أن تكون مثالاً جيداً، فقد كان الناس في عهد سيدنا إبراهيم يعبدون الأوثان، ونقصد هنا بالأوثان: كل ما عبد من دون الله تعالى· وعباد الأوثان ليس هؤلاء الذين يعبدون الأصنام فقط··· فأصحاب مذهب النشوء الذين يؤمنون بأن الذرات والزّمن والمصادفة هي العوامل التي أوجدت الحياة يؤلهون هذه العوامل· ومهما يكن فلا الزّمن ولا المصادفة يمكن بشكل من الأشكال أن تكون قادرة على خلق الحياة··· وحده الله عز وجل له تلك القدرة·ونعود: قَالَ بَلْ ربُّكم ربُّ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ الَّذيْ فَطَرَهُنَّ وأَنَا على ذَلِكُمْ من الشَّاهِدِيْنَ , وَتاللهِ لأَكيدَنَّ أصنامَكُم بَعْدَ أَنْ تُوَلُّواْ مُدْبِرِيْنَ , فَجَعَلَهُمْ جُذَاْذاً إلاَّ كَبِيْراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِليهِ يَرجِعُوْنَ ,قَالُوْا مَنْ فَعَلَ هَذَاْ بآلهتِنَا إنَّه لَمِنَ الظَّالمِيْنَ , قَالُوْا سَمِعْنَا فَتىً يذكُرُهم يُقَاْلُ لَهُ إِبْرَاْهِيْمُ , قَاْلُوْا فَأْتُوا بِهِ عَلَىْ أَعْينِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُوْنَ , قَاْلُوْا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَاْ بآلهتِنَاْ يَاْ إِبْراهِيْمُ , قَاْلَ بَلْ فَعَلَه كَبيْرُهُمْ هَذَا فَاْسأَلُوْهُمْ إِنْ كَانُوْا يَنْطِقُونَ. الأنبياء: 56 – 63.ووجد الكافرون أن الأصنام التي يعبدونها لا يمكن أن تجيب على تساؤلاتهم وأن آلهتهم هذه ليست إلا تماثيل عاجزة حتى عن الدفاع عن نفسها، فكيف بالخلق؟!! وعندها عادوا إلى ضمائرهم·فرجَعُواْ إلَىْ أَنفُسِهِمْ فَقَالُوْا إِنَّكُم أنتُمُ الظَّالمِوْنَ , ثم نُكِسُوا عَلَىْ رُؤُوسِهمْ لقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤلاْءِ يَنطِقُونَ. الأنبياء: 64 ـ65.ولم يمض زمن طويل حتى ارتدوا إلى ما كانوا عليه ومنعهم تكبرهم وغطرستهم عن الإقرار بما أملته عليه ضمائرهم، فقال لهم سيدنا إبراهيم:قالَ أَفتعبُدُوْنَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شيئاً وَلا يَضُرُّكُمْ , أُفٍّ لَكُمْ ولمِاْ تَعْبُدُوْنَ مِنْ دُوْنِ اللهِ أَفَلاْ تَعقِلُوْنَ. الأنبياء: 66 ـ67.أصاب الكافرين الفزع فقاوموا بشدة ما كشفته وقبلته ضمائرهم، ولهذا شعروا بكره شديد تجاه هؤلاء الذين كشفوا لهم الحقيقة وخاطروا بأنفسهم حين حاولوا قتل الرّسل من أجل حماية معتقداتهم الباطلة فقالوا:قَاْلُوْا حَرِّقُوْهُ وانصُرُوْا آلِهتَكُمْ إنْ كُنْتُمْ فَاعِلِيْنَ. الأنبياء: 68 .إن هذه القصة ليست محصورة في شريحة معينة من المجتمع وإنما تنطبق على الكثيرين· يمكن لشخص أن يكون عالماً متميزاً له الكثير من الاكتشافات أو رجل أعمال ناجح أو فنان ··· يمكن أن يكون غنياً مثقفاً وذكياً، ولكن بدل أن يستخدم ضميره للتفكر في الله عز وجل وتمجيد قدرته وإبداعه وشكره على منحه نعمة إدراك ما حوله، فإنه يكون مغروراً ومتبجحاً بذكائه واكتشافاته، وربما بأمواله التي جناها متناسياً بأنه لا شيء من ذلك قد يفيده بعد الموت· حتى إن الأسماء التي اشتهرت في وقتها بسبب مكتشفاتهم وثرواتهم أو عروشهم أصبحت منسية تماماً منذ زمن طويل، ولو أنهم ذكروا فإن ذلك لن يفيدهم شيئاً بعد موتهم·هؤلاء لم يعيروا اهتماماً لأوامر الله عز وجل، ولم يدركوا قوته، ولم يقدّروا نعمته عليهم، ختم على قلوبهم وضمائرهم فضلّوا·وصف الله عز وجل هؤلاء الذين تعدوا حدود الله في سعيهم وراء مصالحهم وأهوائهم:أَفَرَأَيْتَ مَن اتَّخدَ إِلهَهُ هَواهُ وأضلَّهُ اللهُ على عِلمٍ وخَتَمَ على سَمْعِهِ وقَلْبِهِ وجَعَلَ على بَصَرِهِ غِشَاوَةً فمَنْ يَهْدِيْه مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرونَ , وقَاُلوْا مَا هِيَ إلا حَيَاتُنا الدُّنْيا نَمُوْتُ ونَحْيا وَمَا يُهلِكُناْ إلا الدَّهْرُ وما لَهُمْ بِذَلكَ مِنْ عِلمٍ إنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ . الجاثية: 23 – 24.يصف الله تعالى هنا هؤلاء الذين تجاهلوا أصوات ضمائرهم وارتكبوا الآثام بسبب الخبائث التي تنطوي عليها نفوسهم بأنّهم صمّ وعمي وقلوبهم غلف، بحيث لم يستطيعوا إدراك الخطأ من الصواب، وقادهم ذلك إلى ما هم فيه من الضّلال·الضمير والقرآنبيّنا إلى حدّ الآن كيف أن من يصغي إلى صوت ضميره يعي وجود الله عزّ وجل حتى إن لم يعلم أحد بذلك··· وهو بذلك يصل إلى حقيقة ثابتة وهي أن الله الذي خلق كوناً متكاملاً ومنح الإنسان الوعي لم يخلقه سدى، بل لا بد أنه خلقه لهدف معين، ولا بد أن تكون هناك صلة ما بين الله عز وجل ومخلوقاته ليخبرهم بهذا الهدف·إذا استعمل الإنسان ضميره بالشكل الصحيح، فإنه سيشعر برغبة شديدة في معرفة خالقه وخالق الكون، وستصبح هذه الرغبة هي الهدف الوحيد في حياته، وسيكتشف أنه بأمسِّ الحاجة إلى الله الذي خلقه من العدم ، وأسبغ عليه نعمة الحياة وأن القوة كلَّها بيد الله تعالى، وسيدرك أيضاً أن الله عز وجل قد خلق كل شيء لهدف··· فالسماء هي الغلاف الذي يحمي كوكبنا··· والخلايا هي منشأ الحياة··· المطر لأجل المحاصيل··· والشمس هي مصدر الضوء والحرارة في عالمنا الذي لم يكن ليوجد من دونها··· وباختصار، كل ما يراه الإنسان حوله مما لا يعد ولا يحصى مخلوق لغاية معينة، وهنا يتوقف الإنسان ليسأل نفسه: إذا كنت مخلوقاً في كون متكامل خال من النقائص والعيوب، وسأموت خلال فترة وجيزة، فما هو الهدف من وجودي؟ ويسعى للحصول على جواب لسؤاله·ولن ترضيه في هذه الحالة المعلومات المتفرقة التي يسمعها من غيره··· يريد أن يعرف الله··· يريد أن يعرف ما هو الهدف من خلقه··· وقد أدرك من خلال ضميره أن المعلومات التي يزوده بها الآخرون يمكن أن تكون مضللة وغير كافية، بل ومتناقضة في معظم الأحيان·ويدرك الإنسان بالفطرة أن خير ما يهديه إلى الله عز وجل هو الكتاب الذي أنزله وحفظه، القرآن الكريم آخر كتب الله عز وجل، ويتخذ منه دليلاً للوصول إليه·إنّ من يهجر القرآن الكريم يكون قد أعرض عن صوت ضميره: كم من الناس في هذا العالم لم يقرؤوه ولم يَدُر في ذهنهم مجرد تساؤل حوله· إن الله عز وجل أنزله هدى للناس، وهم سيُسْألون بعد الموت فيما إذا كانوا قد اهتموا بما فيه أم لا وسيدخلون الجنة أو النار نتيجة لذلك·وإذا افترضنا أن بعضهم لم يدلهم ضميرهم على كتاب الله فلا بد وأنهم قد سمعوا وعلموا بوجوده، ومع ذلك لم يحاولوا قراءته ولا حتى تساءلوا عما يحتويه، مع العلم أنهم سيسألون عن ذلك يوم القيامة·وإذا مثلنا لذلك بشخص استلم رسالة من مكتبه أو مدرسته، وقد كتب عليها أنها ذات أهمية بالغة لمستقبله المهني أو التعليمي، فعليه أن يقرأ هذه الرسالة وينفذ ما فيها خلال وقت معين· فما الذي سيفعله؟ هل يعلقها على الحائط ولا يقرؤها··· يضعها في الجارور أو يقرؤها دون أن يعير اهتماماً لمضمونها، أم أنه سيقرؤها حال وصولها ويتصرف تبعاً لمضمونها؟!إن حس الإنسان وحكمته ستحتم عليه أن يقرأ الرسالة، وهي مجرد رسالة، فكيف بكتاب هو الأهم في الوجود··· الكتاب أنزله الله لعباده··· ولكن الغفلة التي يعيش فيها معظم الناس تجعلهم لا يحركون ساكناً ولا يحاولون قراءة القرآن الكريم· وقد أخبر الله عز وجل هذا في كتابه العزيز حين يشكو الرسول إلى ربه فيقول:وقَاْلَ الرَّسُولُ يارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوْا هَذَا القُرْآنَ مَهْجُوْراً. الفرقان: 30.ولمَّا جاءَهُم رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لما مَعَهُمْ نَبَذَ فريقٌ مِنَ الَّذيْنَ أُوتُوا الكِتَاْبَ كِتَاْبَ اللهِ وراءَ ظُهورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاْ يَعْلَمُوْنَ . البقرة: 101 .إن قول الله تعالى: (كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) يشير بوضوح إلى أنّ هؤلاء الناس يعلمون تماماً ما عليهم فعله، ولكنهم يهملون كتاب الله عز وجل· فما من أحد إلا ويعلم ضمنياً أن عليه قراءة تعاليم الله عز وجل في القرآن الكريم وتطبيقها، ولكن الغالبية العظمى تتجاهل ذلك، والسبب في الأصل هو تجاهلهم لصوت ضميرهم·القرآن والضمير دليلاالإنسان إلى الهد فالحقيقي من الحياةيقول تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ. المؤمنون: 115.إنّ الإنسان الذي يتفكر في وجوده متجاهلاً صوت ضميره لا بّد وأن يتساءل عن الهدف من وجوده، وسيكتشف بفطرته خلال رحلة بحثه عن الإجابة بأن عليه العودة إلى القرآن الكريم ووحي الله عز وجل· وأهم ما يفعله عندما ينوي قراءة القرآن هو أن يبقي ضميره يقضا، ويقرأه مخلصاً النية أن يطبق ويعيش عملياً التعاليم التي وردت فيه·وفي الآيات التالية نجد جواباً للسؤال المطروح، يقول الله عز وجل:وَمَا خَلقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ , مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِن رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ , إِن اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ المْتينُ. الذاريات: 56 - 58 .إنّ الهدف من حياة الإنسان على هذه الأرض هو اختباره :الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ. الملك: 2.إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً. الكهف: 7 .إِنَّا خَلقْنَا الإِنْسَاْنَ مِنْ نطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً , إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وإمَّا كَفُوراً. الإنسان: 2 - 3 .يدرك القارئ لهذه الآيات أن الله عز وجل قد خلق الحياة ليختبر الإنسان، ولهذا سيفكر في حياته وحياة غيره· معظم الناس من حولنا يجرون ويتصارعون في سبيل الحصول على شيء من حطام الحياة الدنيا، ولديهم خطط مفصلة فيما يتعلّق بأمورهم الدنيوية التي يسعون فيها مثل البحث عن عمل··· الزواج··· الأطفال··· المنزل الذي سيعيشون فيه··· السيارة التي سيشترونها· كيف سيحصلون على أعلى الرواتب؟ وأين سيقضون الإجازات ···إلخ ؟وكل واحد قد حدد خططاً وأهدافاً في فكره يسعى لتحقيقها، إلا أنّ أحداً لم يفكر في الهدف الحقيقي لوجوده في هذا العالم، فعندما يشاهد صاحب الضمير الحي هذه التصرفات يدرك بأنّها ليست سوى نتيجة للحمق والغفلة·إنّ الله جل جلاله هو خالق الإنسان وواهب الحياة، وقد أوضح الهدف من خلق الإنسان ألا وهو العبودية· ولا يمكن للإنسان أن يحقق السعادة إلا عندما يعيش وفقاً لهذا الهدف، فيطيع الله ويسخِّر كل ما يملك لنيل مرضاته· ولكن معظم الناس يقضون حياتهم في غفلة وجشع، ويتصرفون كأنهم لا يعلمون حقيقة وجودهم، ولا يعلمون إلاّ أنهم خلقوا في هذا العالم من أجل متعتهم الخاصة·أما الإنسان الذي يُعمل ضميره يرى أن معظم الناس ينحدرون في منزلق خطر من الإهمال، ويدرك أن هؤلاء الناس لا يمكن أن يكونوا مثالاً يتبع، فلا يمكن أن يعلل نفسه بالقول: (كلهم يفعلون ذلك) لأن ذلك سيحول دون اتباعه لهدي كتاب الله عز وجل·الضمير والقرآن يأمران بالإيمانبالآخرة استنادا إلى العلم الثابتعندما يدرك الإنسان أنّ وجوده في هذا العالم إنّما هو اختبار من الله عز وجل فإنّه سيرتقي بأفكاره ··· فإذا كانت الحياة اختباراً فلا بد لهذا الاختبار من نتيجة، ولن تظهر هذه النتيجة في الدنيا، كما أنه لا يمكن أن يكون الموت هو النهاية·كم مرَّ في هذه الحياة من طغاة وفجَّار ومجرمين··· وكذلك رسل وأناس سَخَّروا حياتهم لعبادة الله عز وجل··· ومرّ فيها فقراء وبؤساء قضوا حياتهم مظلومين وكلهم الآن أموات···الصالح والطالح منهم تحت التراب، ولم يبق منهم اليوم سوى الهياكل· ولا يمكن لله عز وجل، واسمه العدل، أن يكون قد خطط لتنتهي الحياة بهذا الشكل·باختصار: إن ضمير الإنسان سيخبره بأن عدالة الله المطلقة ستجزي كل نفس بما كسبت، وبما أنه لم يوفِ كل إنسان أجره في هذه الحياة فلا بد أن الحساب مؤجّل·إنّ الناس الذين يتفكرون في وجودهم دون تجاهلٍ لصوت ضميرهم يجدون الإجابة على هذا في القرآن الكريم حيث يقول الله عز وجل إنه أجَّلَ الحساب إلى ما بعد الموت حيث سيوفى كل إنسان على قدر عمله:إِلَيهِ مَرجِعُكُم جَمِيعًا وَعدَ الله حَقًّا إِنَّه يَبدَأً الخَلقَ ثُمَّ يُعِيدُهً لِيَجزِي الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالقِسطِ وَالذِينَ كَفَرُوا لَهُم شَرَابٌ مِن حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكفُرُونَ.
يونس: 4 .وَإِنَّ كُلا لمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَاْلَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}. هود: 111.إنّ هؤلاء الذين يرجعون إلى ضمائرهم وإلى القرآن في أحكامهم يدركون أن الله عز وجل علم بهم وسيجزيهم بكل حسنة وسيئة، ولا يمكن أن يُغفل أياً من أفعالهم كما يعتقد الكثيرون خطأً· وقد أوضح الله تعالى في كتابه الكريم أن الحياة التي تنتظر الإنسان بعد الحساب هي الحياة الحقيقية؛ فإما الجنة أو النار· فبعد الموت يُسأل كل إنسان عن عمله أمام الله، فالذين قضوا حياتهم في طاعة الله عز وجل سيخلدون في الجنة وهي خير مقر يسعى إليه الإنسان، أما الذين لم يفعلوا ذلك فسيخلدون في جهنم حيث يذوقون أشد أنواع العذاب والكرب·الضمير الحقيقي هو الذي يستيقظ عند رؤية ملك الموت وعذاب جهنمإنّها حقيقة معروفة في القرآن، وبالرجوع إلى الضمير والحكمة فإنَّ الحياة الحقيقية تبدأ بعد الموت، وكل إنسان سيلاقي في الحياة الأخروية مصيراً يناسب سلوكه في الحياة الدنيا·وبالطبع فإنّ إنساناً يقضي حياته في اللهو واللعب ويتجاهل حقيقتها لن ينصاع بسهولة إلى صوت ضميره· كلّ إنسان يسعى وراء أهداف معينة تفيده في حياته الدنيا، ولكنّ أياً من هذه الأهداف لا يتعلق بحياته الأخروية·وفي كل الأحوال فإنّ الموت حقيقة مطلقة تدحض كل ما سواها، ولكنّ الناس لا يعتبرون من الموت حقّ الاعتبار، ويتصرفون كأنهم يعيشون أبداً·فما الذي يجعل معظم الناس يتجاهلون هذه الحقيقة رغم أهميتها؟للإجابة على هذا السؤال عليك أن تفكر ولو للحظة:كم مرّة في حياتك تفكرت في الموت؟ هل فكرت أنك في يوم من الأيام ستموت وسيفارقك الأحبة ويمضون في شؤونهم اليومية؟ وأنك حينها لن تأخذ شيئاً مما جنيت إلى القبر؟ هل تصورت يوماً كيف يكون الموت··· كيف سيبلى جسدك تحت التراب؟ هل فكرت ماذا سيحل بروحك حينها؟إنّ للإنسان روحاً لا يمكن أن تبلى، وحياة الروح إنما تبدأ بموت الجسد، فهل تساءل الإنسان ذات مرة: ماذا ينتظره في هذه الحياة؟ وشأنه شأن معظم الناس قد لا يفكر في هذه الأمور أبداً، لماذا؟ لأنها تسبب الرهبة لذلك فإنه يحاول تجنبها بقدر الإمكان، وإذا حصل وطُرحَ موضوع الموت، فإن الناس يحولونه إلى دعاية ويقللون من شأنه بتعليقاتهم الوقحة وذلك لصرف تأثيره عنهم·فلماذا يحاول الجميع التهرب بشدة من هذه الحقيقة مع أنها واقعة يوماً ما لا محالة؟!إنّ ما يجعل الناس يتجنبون ذكر الموت والآخرة هو أن ذلك يحرك ضمائرهم ويذكرهم بأن الله عز وجل سيسألهم ويحاسبهم عن أفعالهم بعد الموت·وعندما يصحو الضمير، يفقد ما كان في زمن الغفلة أهميته، ويدرك الإنسان عندما يفكر بالموت الأشياء التي تستحق الاهتمام في حياته فعلاً· ما قيمة الحياة الدنيا إذن؟ ربما يكون من الصعب على الإنسان أن يدرك هذه الحقيقة، ولكن التفكير في لحظة الموت بكل تفاصيلها سيساعد الإنسان على تفهم هذه الحقائق· يمكن أن يأتي الموت في اللحظة التي تتوقع فيها أنه أبعد ما يمكن عنك، ولن تكون لديك الفرصة للتحضير له·يمكن أن يأتيك الموت الآن أو بعد عدة دقائق أو في الدقيقة نفسها بعد عدة سنوات·الإنسان لا يستشعر ضميره: إلا في اللحظة التي تأتيه فيها ملائكة الموت ويرى فيها الجحيم بعينه·ربما تكون قد شهدت موت أحدهم لكنك شاهدت موت الجسد··· أما ما يحدث للروح عند الموت فهو أمر لا يعرفه سوى الذي يخوض هذه التجربة·عندما يكون الإنسان متفرجاً فإنه يرى موت الجسد، ويمكن أن يكون هذا الموت هادئاً كما يحدث عندما يموت الإنسان بفعل حادث سير أو مرض·أما ما تمر به الروح عند الموت فهو أمر مختلف تماماً عما يبدو عليه الموت ظاهر الأمر· فإذا كان الإنسان مؤمناً فإن روحه تخرج بسلام، ويبشره ملكان بأنه سيكون خالداً في النعيم لا يصيبه الحزن ولا الخوف، بل يشعر براحة داخلية لا حد لها؛ لأنه على يقين بأنه سيكون في سعادة وسلام أبداً، كما يقول الله عز وجل في كتابه العزيز :الَّذِينَ تَتَوفَّاهُمُ المَلاْئِكةُ طَيبينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
النحل: 32 .لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ وتَتلقَّاهُمُ الملائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ. الأنبياء: 103.أما إذا قضى الإنسان حياته بعيداً عن مرضاة الله عز وجل، فبغض النظر عن ظروف وفاته فإن لحظة موته ستكون بداية العذاب لروحه، ويحذر الله عز وجل هؤلاء الناس فيقول:فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الملاْئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وأَدْبَارَهُمْ . محمد: 27 .وهكذا فإن مجرد تصور الإنسان للحظة الموت وتفكره فيها سيجعله يتصرف بإخلاص مطلق، ويتبع ما يمليه عليه ضميره في كل أفعاله·قد يأتيك الموت وأنت تقود سيارة، أو تقوم بعمل روتيني، وفجأة تتغير الرؤيا أمامك فترى ملكي الموت· الكافر الذي قضى حياته في المعصية متجاهلاً الموت والآخرة يفزع لرؤية الملكين بأبشع صورهما·ويخبرنا الله عز وجل في القرآن الكريم: كيف أن ملكي الموت سيمدان أيديهم إليه ويسحبانه إليهما، ويعلنان له أنه سيقيم من الآن في الجحيم، ويضربونه على وجهه ودبره· ويكون خروج الروح من الجسد كأشد ما يكون من الألم، وعندها يدرك الإنسان ما ينتظره·وقد وصف الله عز وجل هذه اللحظة في سورة القيامة:ووُجُوهٌ يوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ , تظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرةٌ , كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ , وَقِيْلَ مَنْ رَاقٍ , وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ , والْتَفَّتِ السَّاقُ بالَسَّاقِ , إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ , فَلا صَدَّقَ ولا صَلَّى , وَلَكن كَذَّبَ وَتَوَلَّى . القيامة: 24 ـ 32
وأنت أيضاً ستمر حتماً بلحظة الموت· وعندها كيف ستقيّم أمورك؟ ما هو الهام منها وما هو التافه ؟ ما الذي ستندم على فعله··· ما هي النصيحة التي تتمنى لو أنك سمعتها؟ من هو الشخص الذي تتمنى لو أنك لم تعرفه؟ أي أهمية ستبقى لتفاصيل عملك؟ ما أهمية اختيار الثوب المناسب لحضور حفلة ما؟ وما أهمية رأي الآخرين في مظهرك بالمقارنة مع ما سيؤول إليه حالك في الآخرة·إن الذين يجيبون على هذه الأسئلة السابقة بصدق سيحققون حتماً توافقاً مع ما يمليه عليه ضميرهم· أما إذا لم يتبع الإنسان أوامر الله عز وجل في حياته ولم يسعَ لنيل مرضاته، فإن الخوف والندم سيكونان رفيقيه في رحلة الموت يوم لا ينفع الندم ·وسينهك نفسه بأسئلة لا جدوى منها··· ليتني لم أستمع لفلان···ليتني حافظت على الصلاة··· ليتني قضيت حياتي في طاعة الله عز وجل···في هذه الأثناء يكون تأثير لحظة الموت شديداً؛ لأن الملكين سيجرفانه ذليلاً إلى جهنم قبل أن يدخلها، وسيتساءل حينها: ما الذي أوصله إلى جهنم؟! سيشعر الإنسان عندئذ بفزع لا يوصف؛ لأن كل ما فعله أو حتى فكر فيه في حياته سيعرض عليه··· أفكاره التي ظن أنها تخصه وحده ولا يمكن لأحد أن يعلم بها···وستعرض عليه كل أفعاله ما ذكر منها وما نسي:يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوا أَعْمَالَهُم , فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ , وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ. الزلزلة: 6 - 8 .يمكنك أن تفكر وتسأل نفسك منذ الآن وأنت تستعرض شريط حياتك: ما الذي ستندم عليه وما الذي سينفعك في لحظة كتلك ؟عن أي شيء ستقول: ليتني لم أفعل كذا، أو ليتني فعلت كذا··· عبر الله تعالى في القرآن الكريم عن هذا الندم الذي لا طائل منه بقوله :ذَلِكَ الْيَومُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إلَى رَبِّهِ مَأَباً , إنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يا لَيْتَنِيْ كُنْتُ تُرَاباً. النبأ: 39 – 40.علاوة على ذلك فإن الناس سيغضبون ويشعرون بمقت شديد لأنفسهم لما اقترفوه في حياتهم الدنيا· ولكن مقتهم وغيظهم لا يمكن أن يقارن بغضب الله عز وجل عليهم:إِنَّ الذِينَ كَفَرُواْ يُنَاْدَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمانِ فَتَكْفُرُونَ. غافر: 10.ويخبر الله تعالى في كتابه أن الندم وتذكر ما مضى لن يفيد في ذلك اليوم· فذلك اليوم هو نهاية كل شيء، وسوف يكون من المستحيل أن يعوض الإنسان ما مضى؛ لأن أبواب الجحيم ستغلق على داخليها إلى الأبد·وَجِيْءَ يَومَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى , يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي , فَيومَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ , وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ. الفجر: 23 - 26 .باستطاعة كل إنسان مهما كان ضالاً أن يدرك بوضوح كل ما يمليه عليه ضميره في لحظة الموت والحساب· وعندها سوف يستحيل عليه أن يعود ليصلح من أمره ويتبع ضميره؛ لأن عودته إلى الحياة مستحيلة·إنّ الهدف من هذا الكتاب هو حمل الإنسان على استشعار ضميره قبل فوات الأوان، ودعوته إلى العيش حياة يمكنه فيها أن يعوض عن ماضيه ويتجنب الندم في آخرته·إنّ قوة إيمان أصحاب الضمير بالله عز وجل والآخرة هي الفارق بينهم وبين الذين لا يتبعون ضميرهم· فصاحب الضمير الحي يتصرف وكأنه يسأل عن أفعاله على شفير جهنم· يخبرنا الله عز وجل في كتابه عن بعض رسله الذين لم ينسوا آخرتهم:وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي والأبْصَارِ , إنّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَاْلِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ . ص: 45 – 46.الانصياع لصوت الضمير باستمرار يهدي إلى الخلق القرآنيعندما يصل الإنسان إلى اليقين بوجود الله عز وجل واليوم الآخر، يصبح هدفه الأوحد هو أن يسأل الله في كل أفعاله رضاه والجنة، فمن غير المعقول أن يتصرف الإنسان تبعاً لضميره وحكمته، ثم يضع لحياته هدفاً مغايراً لهذا· ويُخطئ إذ يعتقد أن الدين يحتل جزءاً بسيطاً من حياته، ويتمثل في أداء بعض طقوس العبادة في أيام معينة· فعلى العكس من ذلك يقول الله عز وجل في كتابه إن حياة الإنسان التي فرضت عليه يجب أن تكون في مرضاة الله تعالى: ) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ ربِّ العَالَمِيْن( الأنعام: 162 .وعلى الإنسان أن يراقب الله في جميع أقواله وأفعاله وقراراته، فيفعل ما يرضي الله عز وجل، ويتجنب ما لا يرضيه وليس له أي خيار آخر؛ لأنه سيُحاسب على ما فعل في حياته وبناءً على هذا الحساب سيتقرر مصيره الأبدي· فالإنسان إذا كان طائعاً لله عز وجل ففكَّر وتفهم حقيقة وجوده فلن يكون في حياته ما هو أهم من اكتساب رضوان الله عنه، الله الذي خلقه من العدم وأنعم عليه بحياة الخلد في الجنة، لا بد أن يعود مرة أخرى لضميره فيسأله عما يمكن أن يرضي الله تعالى عنه· وقد بيَّن الله جل جلاله في قرآنه الكريم كل أوامره ونواهيه··· ومن هنا يستطيع الإنسان ذو الضمير الحي أن يتقيد بها ويبدي اهتماماً شديداً بذلك مستفيداً من الأمثلة الصالحة التي وردت فيه· وإن قارئ القرآن يعرف أن الله قد فرض على الإنسان طقوساً معينة للعبادة أحدها: هو الصلوات الخمس :فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُواْ اللهَ قِيَامَاً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً. النساء: 103 .تذكرنا هذه الآية بأن الإنسان ملزم بالصلوات الخمس :إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً. هذه الآية تحرك ضمير كل من يقرؤها فيشعر أن عليه القيام إلى الصلاة، وهنا إما أن ينفذ الإنسان ما يمليه عليه ضميره وما يأمره به الله تعالى في القرآن الكريم، أو أن يتجاهل ذلك مختلقاً لنفسه أعذاراً متنوعة، لكن عليه أن لا ينسى أنه لا عذر لتارك الصلاة في الآخرة· وفي آية أخرى يأمر الله عز وجل الإنسان أن يكون عادلاً مهما كانت الظروف المحيطة:يَا أيُّهَا الذِينَ آمنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسطِ شُهَدَاءَ لله وَلَو عَلَى أَنفُسِكُم أَو الوَالِدَينِ وَالأَقرَبِينَ إِن يَكُن غَنِيًّا أَو فَقِيرًا فَالله أَولَى بِهِمَا فَلاَ تَتّبِعُوا الهَوَى أَن تَعدِلُوا وَإِن تَلوُوا أَو تُعرِضُوا فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعمَلُونَ خَبِيرًا. النساء: 135 .هناك طريقة واحدة تجعل الإنسان يتقيد بأوامره تعالى وهي أن يتبع ضميره· لنأخذ موقفاً يمكن أن يواجه الشخص المقصود في الآية السابقة: ربما تؤدي شهادة صدق يدليها إلى إدانة أحد أقاربه بجريمة مثلاً··· هنا إذا كان هذا الإنسان يؤمن بالحساب بعد الموت فإنه سيصغي إلى ضميره؛ لأن خير الدنيا لا يقارن بخير الآخرة ·وفي آية أخرى يقول الله عز وجل:يِا أيها الذِينَ آمَنُوا كُونُواْ قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِاْلقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شنآن قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقوى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ . المائدة: 8 .حتى يستطيع الإنسان أن يتقيد بما ورد في هذه الآية عليه أن يسيطر على غضبه حتى في أشد حالاته، وتكون أحكامه عادلة· فالله عز وجل يأمرنا أن نحكم بالعدل حتى مع الأشخاص الذين نبغضهم لأفعالهم أو أقوالهم، كما يأمرنا الله أن نتجنب الظن والنميمة: يا أيُّها الذِينَ آمنُوا اجْتَنِبُواْ كَثِيراً منَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُواْ وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ واتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رحِيمٌ. الحجرات: 12 .في هذه الآية يحذر الله عز وجل الإنسان من بعض الخصال السيئة، فيذكر ثلاث خصال مرتبط بعضها ببعض، فالذي يغتاب يحكمه الظن السيِّئ، وكذلك فإن الذي يتجسس على غيره يفعل ذلك بدافع الظن أيضاً، وعلى الرغم من كون هذا السلوك شائعاً في المجتمع إلا أنه تصرف مخالف للضمير· وستكون مقارنة جيدة أن يضع الإنسان نفسه في ذات الموقف، فمن المؤكد أنك لا تحب أن يتطفل أحد عليك فيتجسس على أسرارك وأخطائك ويشيعها· ولا تحبّ أيضاً أن ينم أحدهم عليك ويظن فيك ظن السوء، بل إن ذلك سيؤلمك ويشعرك بالظلم··· إذن: لا مبرر لأن تلحق الأذى بغيرك وتعرضه لمثل هذا الموقف، وإنه لدليل على أنك حي الضمير إذا كنت تعامل غيرك كما تحب أن تعامل· للأسباب السابقة يقول الله تعالى: أَيُحِبُّ أَحَدُكُم أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيه مَيْتاً ·يظهر هذا التشبيه كم أن الغيبة والظن أمران مقززان ؛ لذلك يتوعد الله عز وجل من يقوم به بالنار قيقول:وَيْلٌ لكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ , الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ , يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ , كلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الحُطَمَة ,وَمَا أَدْراكَ ما الْحُطَمَةُ , نَارُ اللهِ المُوقَدَةُ , التي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ , إِنَّهَا عَلَيْهِم مؤْصَدَةٌ , فِي عَمَدٍ مُمَدَّدةٍ . الهمزة: 1 - 9 .إن الغيرة والحسد والحقد هي التي تجعل الإنسان يغتاب غيره ويتطفل على أسراره ويتهمهم زوراً، وهذا مخالف تماماً لتعاليم القرآن الكريم· كما أنه لا يتماشى مع الضمير مع أنه غير مستنكر في المجتمع بشدة؛ ولذلك فإن خير ما يفعله الإنسان هو أن يبتعد تماماً عن هذه الأفعال ويثني غيره عن فعلها·إنّ تصرّفات الإنسان الذي أدرك جوهر القرآن وأفكاره تكون قائمة على تعاليم الإسلام الخيرة· وبتعبير آخر: فإنه يلتزم بما يمليه عليه ضميره ويضع الموت والآخرة نصب عينيه فيرجو الدار الآخرة في كل أعماله؛ ولأنه إنسان مميز فإنه يفكر في غيره أيضاً ويوجه كل جهده ليتزود لآخرته فيضعها في حسبانه حتى فيما يتعلق بأبسط الأمور، فعلى سبيل المثال: إذا كان له صديق ثري فإنه يفكر أن هذا الصديق سيموت أيضاً في يوم من الأيام ويخضع للحساب، فيتجنب الخوض معه في أحاديث تزيد من تعلقه بالدنيا، ويذكره دوماً بأن هناك جنة أو ناراً، ويعمل من أجل خيره وسعادته في الدنيا والآخرة، ويدعو الله تعالى أن يجتمع معه في الجنة· ويحاول أن يبعده عن المعاصي ويدله على طريق الخير فيجعله لآخرته، وبذلك يعبر عن محبته له· وقد يبدو الإنسان الذي يتبع ضميره ويرجو مرضاة الله عز وجل للوهلة الأولى مثل غيره··· يذهب إلى العمل··· وإلى المدرسة··· يتسوق ويمتّع نفسه، إلاّ أنه بالإضافة إلى ذلك كله يسعى إلى مرضاة الله عز وجل في كل ما يفعل، وفيه يقول عز وجل:رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تجارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وإِقَامِ الصَّلاةِ وإِيتاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ والأبْصارُ . النور: 37 .ويمكن أن يتساءل بعض الناس: كيف يمكن للإنسان أن يسعى لنيل رضى الله عز وجل في كل أفعاله ويذكر الله في كل لحظة ؟ أولاً: يجب أن تكون العبادات وطاعة أوامر الله عز وجل أهم من كل ما سواها، وللإنسان الذي يتبع ضميره عليه أن لا ينسى مراقبة الله عز وجل له، فلا تلهيه تجارته فيهتم بمنافع الدنيا ويترك خير الآخرة بل يكون أميناً، حتى لو أثر ذلك في دخله فإنه لا يدفعه إلى الغش وارتكاب ·ما لا يستطيع تبريره فيكون سبباً لخزيه في الآخرة· يجب أن يكون محل ثقة، فإذا كان مديناً يقضي دينه، وإذا كان دائناً عليه أن يراعي ظروف غيره فينتظره إذا كان ذا عسرة؛ يقول الله عز وجل: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ . البقرة: 280 .المؤمن لا ينسى أن الخير كله بيد الله عز وجل، فلا تفسده النعم، بل يشكر الله تعالى عليها·هناك الكثير من الأحداث التي تمر بالإنسان في حياته اليومية، ويستطيع من خلالها أن يتذكر الله عز وجل ويطلب رضاه، وذلك بالرجوع إلى القرآن والسنة·وعلى كل من يريد التقيد بتقاليد الدين أن يقرأ القرآن الكريم معملاً ضميره ويطبق ما قرأ أيضاً بالاعتماد على ضميره·الضمير يبحث عن السلوك الذي يرضي الله تعالى :إنّ ضمير الإنسان يتكبد مشقة شديدة في العمل على إرضاء الله، ولا يكترث أبداً بإرضاء الناس أو بنظراتهم إليه بل يتوب إلى الله وحده·بعضهم يعيش الإسلام دون الاعتماد على ضميره بل بطريقة تقليدية اعتيادية تماماً كأسلافهم، ويكفيهم أن يؤدوا طقوس العبادة التي نقلوها عنهم · هؤلاء اختاروا أن تكون عبادتهم بأفواههم لا بقلوبهم، والسبب في ذلك إما أنهم أرادوا تجنب المواجهة مع من حولهم أو ببساطة لأنهم نشؤوا على ذلك·وبدل أن يبحثوا عما يرضي الله تعالى فإنهم يبحثون عن أقل ما يمكن فعله ليقنع الآخرون بأنهم أتقياء·وفي جميع الأحوال يستحيل أن يكون المرء مسلماً بحق دون أن يُعمل ضميره·فالإنسان الذي يتبع ما يمليه عليه ضميره يفكركيف يمكن أن يعبد الله عز وجل على أكمل وجه، ويجاهد ليتجنب كل ما يمكن أن يجعله يقف وقفة مساءلة مربكة يوم الحساب؛ لأنه يعلم أنه في هذا اليوم سيلقى حساب كل ما فعله، وفي ذلك يقول تعالى: وَأَقيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِن خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللهِ إنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ . البقرة: 110 .هناك مثال في القرآن الكريم عن سعي الإنسان لتقديم أفضل ما يستطيعه وبأجمل طريقة حين يأمر الله تعالى عباده أن يقولوا أحسن الكلام فيقول: وَقُلْ لِعبادِي يَقُولُوا التِي هِيَ أحْسَنُ إنَّ الشَّيْطَانَ يَنزغُ بَيْنَهُمْ إنَّ الشَّيْطَانَ كانَ لِلإِنسانِ عَدُوَّاً مُبِيناً . الإسراء: 53 .فالإنسان الذي يتبع أوامر الله عز وجل لايقول إلا الحسن من الكلام، ولا يتبع هواه فيتفوه بكل ما قد يخطر على باله، بل على العكس من ذلك سيقول أجمل الكلام وأحسنه تأثيراً، ويكون همه ألا يحرج أو يؤذي من يخاطب، وسيختار من الحديث ما يرضي الله عز وجل، مستدلاً في نفس الوقت بضميره·وفي آية أخرى يقسم الله عز وجل البشر إلى ثلاثة أقسام من حيث ارتباطهم بالإسلام: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَاْبَ الذينَ اصْطَفَيْنَا منْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُم مقْتَصِدٌ ومِنْهُمْ سَابِقٌ بالخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ . فاطر: 32 .كما تقول الآية الكريمة:من الناس من لا يعيش مطلقاً وفقاً لتقاليد الإسلام ، ومن الناس من يتبع ضميره جزئياً، ويخصص شيئاً من وقته وجهده للإسلام، وذلك عندما لا يتعارض مع مصالحه، كما أنه لا يقوم بجهد حقيقي لنشر الإسلام وتعاليمه الخيرة بين الناس ، معتقداً أنه قد عرف ما هو محرم وما هو مباح، ومُسلِّمْ بأن ما يقوم به من عبادات تجعله أخلاقياً بما فيه الكفاية·وفي الحقيقة: إن ما يتماشى مع الضمير هو أن يختار الإنسان مما هو مباح ومقبول، وتتبع أحسن الحديث وأقومه، وفي هؤلاء يقول الله تعالى : ) الَّذيْنَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُوْنَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِيْنَ هَدَاْهُمُ اللهُ وأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوْا الأَلْبَابِ ( الزمر: 18 .أما القسم الثالث: أي الذين يتسابقون إلى الخيرات فهم يتصرفون وفقاً لما يمليه عليه ضميرهم فيتسابقون ليحصدوا الجائزة الكبرى؛ يندفعون طواعية لأي عمل يخدم الإسلام ولا يسمحون لأحد أن يسبقهم إليه، ولا يرضيهم أن يفعلوا ما هو حسن في وجود ما هو أحسن·وفي سورة النساء يأمرنا الله تعالى بأن نكلف بالأمانة من هو أهل لها، بمعنى أن تسند إلى من تتوفر فيه الشروط التي تؤهله للاضطلاع بها وفي هذا يقول تعالى:إنّ الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إنّ الله كان سميعا بصيرا . النساء: 58.إن الأمانة مهمة خطيرة ووظيفة كبيرة، والأمانة إما أن تكون مسؤولية يتحملها المرء أو الحفاظ على شيء ثمين· وهذه الآية تؤكد على أن الأمانة إذا كانت شيئا مادّيا فإنّه يتوجب إعطاؤها إلى أكثر الناس استقامة وأفضلهم أخلاقا وأرجحهم عقلا، أما إذا كانت هذه الأمانة مسؤولية فالواجب كذلك إسنادها إلى أكثر الناس علما وأوسعهم تجربة·وباختصار ينبغي أن يتم اختار الشخص المناسب للنهوض بهذه المسؤولية· وتكليف من هو أقل علما وكفاءة يعني أن الهوى قد تدخل في موضوع هذا الاختيار، ويتمثل بشكل خاص في اختيار من تكون له قرابة دموية أو من يعتقد أنه قد يقابل هذا الفضل بمثله أو بأحسن منه في المستقبل· وبشكل عام فإن هذا السلوك هو الأكثر شيوعا في أوساط المجتمع، بمعنى أن إيثار المصلحة هو الغالب على نفوس الناس· ولهذا فإن القرآن الكريم يرى أن اختيار الأكثر أمانة و الأفضل أخلاقا أمر ضروري·ومثلما يلاحظ فإنّ موضوع الضمير لا يقتصر فقط على معرفة الله معرفة حقيقية، بل يتعدى ذلك إلى طاعته وإرضائه من خلال القيام بالواجبات الحياتية على أحسن وجه وأفضل صورة· وأغلب الناس يعتقدون أن إدراك وجود الله كاف، وفي بعض الآيات القرآنية يخاطب الله تعالى هذه الفئة بقوله:
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرجُ الحَيَّ مِنَ الميِّتِ ويُخرِجُ الميِّتَ مِنَ الحيِّ وَمَنْ يُدبِّرُ الأَمرَ فَسَيَقُوْلُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلاْ تَتقُونَ , فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الحَقُّ فَمَاذا بَعْدَ الحقِّ إلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ . يونس: 31 - 32 .كما نرى في هذه الآية:إن هؤلاء الناس يؤمنون بوجود الله عز وجل وبأنه رازقهم، وبأنه خالق الموت والحياة، ومالك كل شيء، ولكنهم لا يعملون ضميرهم ليوصلهم إلى أعمق من هذا؛ لأنهم يرون أن هذا كافٍ لإيمانهم·لكن الإنسان الذي يُعمل ضميره حقاً يستشعر رهبة من الله عز وجل؛ لأنه يدرك مقامه جل وعلا··· رهبة تجعله يخشى أن يخسر رضى الله عنه·ولذلك تصبح حياته كلها سعياً متواصلاً في إرضاء الله تعالى ولا يضع لصلته بربه حداً معيناً، )
يـتـبـع