الكيمياء..

دخل عبد الله على طلابه يحمل في يده كشف الدرجات النهائية ، كان يدرس الصف الثالث الثانوي ، وهذه هي آخر الأيام من هذا العام الدراسي ، مرر نظره في وجوه طلابه ، تخيل حالها بعد سنوات ، ورسم في مخيلته هيئة جديدة لكل طالب ، قفز به الفكر إلى الوراء ، تذكر ذلك الطالب وهو يسابق زملائه على باب معمل الكيمياء ، كم كان شغوفا بتلك المركبات و التجارب وتذكر أنه في حينها قرر أن يتخصص في الكيمياء ، عاد مرة أخرى يحدق في الوجوه بدقة أكبر ليحكم على طلابه حكما عادلا لأنه لا يريد أن يخلط بين الأسماء عند وضع الدرجات .
وبينما طلابه مستغرقون في قراءة المراجعة التي أعدها لهم إذ بطارق يطرق بخفة على الباب ، لم يسمع عبدالله الطرق ، نبه الطلاب معلمهم لذلك فجمع عبد الله أوراقه ووضعها على طرف الطاولة ثم اتجه نحو الباب وهو يشير لطلابه بالتزام الهدوء:
-السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
-وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .
-هل أنت الاستاذ عبد الله ؟
-نعم _ حفظك الله _ ؛ بماذا أستطيع أن أخدمك؟
-العفو أيها الكريم ؛ ولكن ولدي يدرس عندك وكما تعلم أن هذه هي السنة الأخيرة ........
وعندما بدأ الرجل يتكلم كان عبدالله قد استغرق في النظر إلى ملامح الرجل ، منذ الوهلة الأولى لم تكن الصورة غريبة ، وحينها بدأت الصورة تتضح شيئا فشيئا ،
يا الله ! إنه معلم مادة الكيمياء !!
مر الشريط أمامه بسرعة كان هو مايزال طالبا وكان هذا الواقف أمامه هو معلم المادة التي أحبها بشغف تذكر محاولاته الجاهدة لإرضائه ، وبينما الرجل يشرح وضع ولده تحولت ابتسامة عبدالله التي كثيرا ما تكون مرتسمة على محياه إلى عبوس كان قد تذكر عندما أحضر بعض الأعمال إلى هذا الواقف لعله يكسب وده وتذكر عندها أنه قال له :
-يا عبد الله والله لو جئت بما لم يأت به أحد من علماء الكيمياء لن تأخذ الدرجة عندي كاملة !!
كانت هذه الذكرى بمثابة الصفعة التي أرجعته إلى حديث الرجل .
_ ...... ولهذا جئت إليك لتنظر في حال ولدي لأنه كما تعلم يبذل جهده لينال أعلى درجة في مادتك .
أراد عبدالله في قرارة نفسه أن يرد عليه بأقسى الكلمات وأن يذكره بكلماته تلك وأن يطرده شر طردة ولكنه مع ذلك وقف عاجزا عن الكلام وأومأ برأسه بالإجابة لطلبه ، فانصرف من عنده شاكرا.
دخل عبد الله الفصل ومشاعر الألم تعتصر فؤاده يخالطها رغبة جامحة بالانتقام مع شيء من الغبطة لما آلت إليه الحال .
أشار عبد الله لطلابه أن عودوا للمراجعة وجلس على كرسيه مادا يديه إلى كشف الدرجات ليجعله أمامه وأخذ يقلب الصفحات حتى وصل إلى الصفحة التي كان يعمل عليها ، واصل التحديق في طلابه واحدا تلو الآخر وهو يرصد لكل طالب ما يستحقه ، وعندما وصل إلى ولد ذلك الزائر وجد أمامه شابا يافعا يتفجر نشاطا وحيوية تغمر وجهه البهجة و تعلو محياه نظرات السعادة والثقة وكل ما يتذكره عنه يوحي بأن المستقبل سيفتح له الباب على مصراعيه لينال أسمى مراتب النجاح تذكره عندما دخل المدرسة وكيف كان حريصا على فهم دروسه والتفاعل مع معلميه وأداء ما يطلب منه في أجمل حلة وكيف كان سباقا للمشاركات اللامنهجية ليشارك فيها بإبداع وتميز ، حينها أيقن أنه يستحق الدرجة الكاملة والتي كانت عشر درجات ، الأمر الوحيد الذي سيحول بينه وبينها هو موقف والده القديم !!
تأجج الصراع في نفس عبدالله بين فضيلة العدل والرغبة الجامحة بالانتقام ووقف غير يسير والقلم يرتجف بين أصابعه ثم في لمحة عين هوى به على المربع المخصص للدرجة ليكتب فيها سبع درجات !!
أكمل عبدالله عمله وعندما انتهى وقت الحصة خرج متأبطا كشف الدرجات وسار في الممر المؤدي إلى غرفة المعلمين وفي نفسه شئ مما حدث ولكنه حاول أن يتناسى الموضوع .وأكمل طريقه وفجأة وعند باب الغرفة وقف وقلب كشف الدرجات وانتزع منه ورقة ورماها في صندوق النفايات بجانب الباب ثم دخل الغرفة ليكمل بقية يومه .