بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً ، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ..
أحيا به الله القلوب ، وأسمع به الآذان ، وأنار به العقول ، وبصّر به العيون ، فصلى الله عليه ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا .
الأمم اليوم تتعلق برموزها ، وتنصب لهم صوراً تذكارية ، تطوف بهم ، وتقدسهم ، وتردد ثناءهم صباح مساء ، ونحن لا رموز لنا ، ولا قداسة أرضية ، ولا طقوس .. عندنا رجل واحد : جعله الله إماماً لنا ، لأنه معصوم ، وقد جعله الله تعالى قدوة لنا .
" لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا " [ الأحزاب : 21 ]
أمِّيُّ : لا يقرأ ولا يكتب ، ما حمل قلماً ، ولا كتاباً ، ولا دفتراً .. لكن أفاض الله على قلبه الوحي ، فحفظ القرآن كله ، والسنة كلها .
عند الناس : رموز ، لكنهم سفكة للدماء ، وطغاة في الأرض ، ومعتدون على الأعراض .
وعندنا : رجل ، يحمل الطهر ، والعفاف ، والنزاهة ، والعدل ، والحق .
تقول أمه : حملته ، ولم أحس بالحمل ، ولما ولدته ، ولدته ساجداً على الأرض ، من أول لحظة وهو يسجد لله الواحد الأحد .
وقبل أن تلده بليلة : رأت كأن نوراً خرج منها ، وأضاءت له قصور الشام ، وقبل أن تلده ، مات أبوه ، فنشأ يتيماً ، واستمرت معه فترة ، ثم ماتت ، فبقي اليتيم في اليُتم والفقر .
لماذا ؟ .. ليتعلق بالله تعالى ، وتُبث فيه همم الأنبياء من نعومة أظفاره .
ذهبت به حليمة السعدية إلى بادية بني سعد .
قالت حليمة : كنا في فقر مدقع ، وكنا في سنة مجدبة ، والله ما أمطرت علينا ذاكـ العام قطرة ، ولا في مرعانا نبتة ، فلما وصل صلى الله عليه وسلم وهو طفل ، وإذا غمامة ملأت السماء فأمطرت ، حتى سالت الأودية ، وامتلأت بعشب أخضر ، وشربوا حتى ملؤوا الآنية ، وكانوا في رغدٍ من العيش .
[poem=font="Simplified Arabic,4,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=2 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
وكذا الكريم إذا أقام ببلدةٍ = سال النظار بها وقام الماء[/poem]
تقول حليمة ، وقد أسلمت رضي الله عنها ، خرج صلى الله عليه وسلم من الخيمة وهو طفل ، عمره سنتان ، يتفكر في السماء والنجوم .
لا إله إلا الله !
طفل ، عمره سنتان ، يتفكر في النجوم والسماء ، وفي الليل ، سبحان من علمه ! .. وسبحان من أحكم إرادته ! .. وسبحان من أنبته نباتاً حسنا !
ترده إلى الخيمة فيخرج من الليل ، فينظر في السماء : من خلق السماء ؟ ومن خلق النجوم ؟ ومن أبدع الكون ؟
تقول : خرج مرةً مع أخيه من الرضاعة ، يرعى البهم ..
وراعي البهم : سوف يرعى الأمم .
وراعي البهم : رعى ثلاثة أرباع الدنيا .
وراعي البهم : دخل قواده فصلوا ، وسبحوا في قرطبة ، والبرتغال ، والسند والهند .
راعي البهم : أخرج الأمة الضعيفة ، المسلوبة المظلومة ، من الجزيرة ، فصلّت في ضفاف دجلة ، والفرات ، وأذنت في جامع اليمن وكابل .
قالت : لما خرج يرعى البهم ، أتاه رجلان ، وطرحاه في الأرض ، وشقا صدره ، وأخذا علقة من قلبه .
من هم الرجلان ؟ .. أرسل الله ملكين أثنين ، فأخذا طستاً من ذهب ، مملوءً ماء من ماء زمزم ، فأتوا إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم فأضجعاه على ظهره ، وشقا صدره الكريم .
فلما شقا صدره ، أخذا العلقة السوداء ، وما منا إلا وفيه علقة سوداء ، يجتمع فيها : الحسد والخيانة والغل ، فأخرجاها ، ثم غسلا قلبه بماء زمزم ، ثم ملآها بإذن الله ، حكمةً وإيمانا .
ثم ردّا صدره وخاطاه ، حتى يقول أنس : كنت أرى أثر الشق ، والرسول صلى الله عليه وسلم في الستين من عمره .
وأتى وهو خائف إلى أمه من الرضاعة : حليمة السعدية ، فأخبرها الخبر ، فأعادته إلى مكة ، وعاد وهو صبي يتدرج في الكرم ، والعزة ، والرفعة ، ما سجد لصنم ، أو وثن ، ولا شرب خمراً ، ولا سرق ، ولا كذب ، ولا غش .
كان يمر كما في صحيح مسلم في وديان مكة فيراه الحجر فيقول الحجر : السلام عليكـ يا رسول الله !
ويراه الشجر ، فيقول الشجر : السلام عليكـ يا رسول الله !
فيخاف وينظر ، ولا يرى شيئاً ، وينشأ صلى الله عليه وسلم يتيماً ، صبوراً ، فقيراً ، محتسباً ، لا يقرأ ولا يكتب .
ويبلغ الخامسة والعشرين من عمره ، فيكون مضرب المثل في مكة : حياء ، وأمانة ، ووقاراً ، وعفافاً ، ولكن بعد أن نُبيء ، خونوه ، وقالوا : ساحر ، وقالوا : شاعر ، وقالوا : كاهن ، ورموه في عرضه .
والله يقول : " وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ " [ التكوير : 22 ]
فما باله بالأمس وفيّ أمين صادق مخلص ، واليوم أصبح خائناً ساحراً كذاباً مجنوناً ؟!
ما باله بالأمس كان مضرب المثل فيكم ، وما له اليوم أصبح عدواً لكم ؟!
سافر صلى الله عليه وسلم ونزل في البصرة في العراق ، فجاءت غمامة تظلله في الشمس ، وهو مع النوق والإبل ، وهناكـ شجرة بجانب صومعة بحيرا ، يقول عنها أهل العلم من أهل الكتاب : لا يجلس تحتها إلا نبي ، فتركـ الشجر كله ، وجلس تحتها .
حكمة بالغة ، وقدرة نافذة !
اختصمت قريش في وضع الحجر ، بعد أن هُدمت الكعبة ، قبل الرسالة .. من يضع الحجر ؟ ومن يحمل الحجر ؟
وكانوا أربع قبائل ، كل قبيلة تقول : هي التي تضع الحجر .
فأتى بنو هاشم ، فوضعوا أيديهم ، وتعاهدوا ، وتعاقدوا ألا يضع الحجر إلا هم ، أو يموتوا عن بكرة أبيهم .
واصطلحوا بعد ذلكـ أن يضعه أول من يدخل الحرم ، وهو الذي يحكم في القضية .
ودخل البشير النذير ، ودخل النبي المعصوم قبل أن يوحي الله إليه ، فوقف عليهم ، وأخبروه ، فوضع الحجر في كساء ، وقال : لتحمل كل قبيلة طرفاً من الكساء ، فلما قربوه من موضعه ، وضعه هو بيده الشريفة ، فهو الذي وضع الحجر الأسود مكانه الآن .
واستمر به الحال صلى الله عليه وسلم فلما بلغ الثلاثين ، أنكر الوضع ، لأن فطرة البشر قد غيرت ، وصُرفت العبادة لغير الله تعالى .
فما هو الصواب ؟ .. سوف يأتي جبريل عليه السلام من رب الأرباب .
كان يخرج من مكة إلى غار حراء ، يتعبد ، ويتوجه بقلبه إلى الله ، يعرف أن للكون خالقاً ، رازقاُ ، وأنه يستحق العبادة ، ولكن .. ما عنده مصحف يقرأ فيه ، ولا يعرف يصلي : " مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا " [ الشورى : 52 ]
ومكث في الغار ، يجلس أربع ليالي يتعبد ، ثم ينزل إلى خديجة ، فيمتار ميراً فيعود ، وفي أثناء ذلكـ أتاه جبريل على صورة رجل عليه ثياب بيض ورائحة جميلة ومظهر بهي ، ولو أتاه بصورته التي خلقه الله عليها لمات رعباً ، ولصعق رعباً ، فدخل عليه وقال : اقرأ .
قال : ما أنا بقاريء .
قال : اقرأ .
قال : ما أنا بقاريء .
قال : اقرأ .
قال : ما أنا بقاريء .
فأخذه ، فألصقه على صدره ، ثم ضغطه ، وقال : " اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ " [ العلق : 1 ـ 3 ] .
فانطلق يقرأ ، ثم أطلقه فذهب ، ونزل من الغار ، فأخذ ينظر في السماء ، كلما نظر في ناحية السماء ، فإذا جبريل على كرسي بين السماء والأرض .
ووصل إلى خديجة الحكيمة ، العاقلة ، إلى الزوجة الصالحة ، وقال : ( زملوني زملوني لقد خشيت على نفسي ) .
وأخبرها الخبر ، فقالت كلمات الصدق ، وكلمات العدل ، والحق : كلا ، والله لا يخزيكـ الله أبداً .
لماذا ؟ .. لمنصبه ؟ لشهرته ؟ لأسرته ؟
لا .. قالت : إنكـ لتصل الرحم ، وتحمل الكلّ ، وتكسب المعدوم ، وتعين على نوائب الحق ، وتقري الضيف .
فانطلق صلى الله عليه وسلم يدعو قومه إلى الله ، انطلق صلى الله عليه وسلم يُخرج الأمة من الظلمات إلى النور .
أتباعه اليوم في الجملة مليار مسلم ، ودينه يعلو ويعلو ، وينتصر وينتصر .
الشيوعية كان لها ملايين الأتباع ، في كل بلاد الدنيا ، فانسحقت قبل سنوات ، ولعنت على ألسنة معتنقيها .
لماذا ؟ .. لأن الحق سوف يبقى : " فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ " [ الرعد : 17 ] .
قال صلى الله عليه وسلم : ( لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم إنما أنا عبد الله ورسوله فقولوا : عبد الله ورسوله ) رواه البخاري .
ونحن لا نطريه ، وإنما نقول : عبد الله ورسوله .
فواجب الجيل والأمة : أن نُلفت أنظارها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
لماذا ؟ .. لأن الأمم والشعوب لم تلفت أنظار الناس إليه ، فكان من مسؤولية العلماء والدعاة : أن يذكروه على المنابر ، وأن يشيروا إلى شيء من عظمته ورسالته ، لأن البشر في العموم استبدلوا بعظمته عظمة أناس لا يساوون الغبار الذي على قدميه .
ويبقى صلى الله عليه وسلم إماماً ، لكن لا يعيش إماماً ، إلا لمن أراد أن يكون إمامه صلى الله عليه وسلم .
إماماً لأهل الصلوات الخمس .
إماماً للصادقين .
إماماً للمخلصين .
إماماً لأولياء الله .
وأما الأشقياء فلهم أئمة ، وأما الأدعياء ، فلهم قادة ، وأما النذلاء فلهم زعماء : " يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ " [ الإسراء : 71 ]
نسأل الله أن يثبتنا على منهجه ، وأن يجعلنا من أتباعه ، وأن يسقينا من حوضه ، وأن يحشرنا تحت لوائه ، وأن يغمرنا في زمرته ، وأن يثبتنا على سيرته ، وأن يهدينا سنته ، وأن يوقظنا من غفلتنا باتباعه صلى الله عليه وسلم .
في المرة القادمة بإذن الله أسرد لكم دروس استفدناها من سيرته صلى الله عليه وسلم قبل البعثة .
[align=right]* رحمة للعالمين / د . عائض القرني . [/align]
[align=left][/align]