أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


بسم الله الرحمن الرحيم

هذه أيها الأحبة مقالة جديدة لشيخنا أبي عبد الله حمزة النايلي ( وفقه الله)، نسأل الله أن ينفعنا وإياكم بها.

التوبة

الحمد لله رب العالمين و الصلاة والسلام على أشرف المرسلين،نبينا محمد و على آله،وصحبه أجمعين.
أما بعد:
إن المعاصي والذنوب هي أصل كل بلاء ومصدر كل شقاء ينزل بالعبد، ،إذا لم يتدارك نفسه بالتوبة والغفران قبل فوات الأوان،فإذا بلغت الروح الحلقوم فلا تنفع توبة ولا تجزي أوبة،قال صلى الله عليه وسلم:" إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ ما لم يُغَرْغِرْ ".رواه الترمذي (3537)من حديث عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما- وصححه الشيخ الألباني–رحمه الله-.
قال المباركفوري –رحمه الله- :" أي ما لم تبلغ الروح إلى الحلقوم ،يعني: ما لم يتيقن بالموت، فإن التوبة بعد التيقن بالموت لم يعتد بها".تحفة الأحوذي( 9/ 365)
وأيضا إذا طلعت الشمس من مغربها، قال صلى الله عليه وسلم:"ولا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حتى تَطْلُعَ الشَّمْسُ من مَغْرِبِهَا ".رواه أبو داود (2479) من حديث معاوية –رضي الله عنه-،وصححه الشيخ الألباني –رحمه الله-.
أيها الأحبة إن التوبة فرض على الأعيان لا يستغني عنها إنسان مهما علت مكانته وارتفعت منزلته ، قال القرطبي –رحمه الله- :" واتفقت الأمة على أن التوبة فرض على المؤمنين لقوله تعالى :(وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون)[ النور :31]".تفسير القرطبي (5/90)
قال الشيخ ابن سعدي–رحمه الله-:"فلا سبيل إلى الفلاح إلا بالتوبة،وهي الرجوع مما يكرهه الله، ظاهرا وباطنا،إلى ما يحبه ظاهرا وباطنا،ودل هذا،أن كل مؤمن ،محتاج إلى التوبة،لأن الله خاطب المؤمنين جميعا، وفيه الحث على الإخلاص بالتوبة ". تفسير السعدي (ص 567)
فعلى العبد المؤمن أن لا تفارقه التوبة النصوح في كل وقت وحين، وفي حلِّه وترحاله ،وهذا ليس عيبا بل هو من هدي الأنبياء و سنن المرسلين،وطريق الصالحين،يقول شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- :"وليست التوبة نقصا بل هي من أفضل الكمالات، وهي واجبة على جميع الخلق".مجموع الفتاوى(15/51)
فيأيها العاصي لا تيأس من رحمة الله جل وعلا ، فإن خالقك ورازقك يفرح بتوبتك أشد من فرح وسعادة الواجد لدابته بعد فقدها ، قال صلى الله عليه وسلم :" والله لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ من أَحَدِكُمْ يَجِدُ ضَالَّتَهُ بِالْفَلَاةِ ".رواه البخاري(5950) ومسلم (2675) واللفظ له من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه-.
يقول الشيخ السعدي –رحمه الله- :"وهذا فرح جود وإحسان؛ لأنه جل جلاله ينوع جوده وكرمه على عباده في جميع الوجوه، ويحب من عباده أن يسلكوا كل طريق يوصلهم إلى رحمة الله وإحسانه، ويكره لهم ضد ذلك، فإنه تعالى جعل لرحمته وكرمه أسبابا بينها لعباده وحثهم على سلوكها،وأعانهم عليها،ونهاهم عما ينافيها ويمنعها،فإذا عصوه وبارزوه بالذنوب فقد تعرضوا لعقوباته التي لا يحب منهم أن يتعرضوا لها،فإذا رجعوا إلى التوبة والإنابة فرح بذلك أعظم فرح يقدر، فإنه ليس في الدنيا نظير فرح هذا الذي في أرض فلاة مهلكة،وقد انفلتت منه راحلته التي عليها مادة حياته من طعام وشراب وركوب، فأيس منها،وجلس ينتظر الموت،فإذا هو بها واقفة على رأسه،فأخذ بخطامها وكاد الفرح أن يقضي عليه،وقال من الدهشة وشدة الفرح: "اللهم أنت عبدي وأنا ربك"، فتبارك الرب الكريم الجواد الذي لا يحصى العباد ثناءًا عليه،بل هو كما أثنى على نفسه،وفوق ما يثني عليه عباده ، وهذا الفرح تبع لغيره من الصفات،كما تقدم أن الكلام على الصفات يتبع الكلام على الذات،فهذا فرح لا يشبه فرح أحد من خلقه لا في ذاته ولا في أسبابه ولا في غاياته، فسببه الرحمة والإحسان،وغايته إتمام نعمته على التائبين المنيبين".التنبيهات اللطيفة(ص53)
ويا أيها المذنب احذر من التسويف وتأخير التوبة فإن هذا من تلبيس إبليس ، وبادر بالتوبة النصوح التي تكون سببا في محبة الباري سبحانه لك، وتقيك من عذاب النار،والتي لا تقبل إلا بعد تحقق شروط، وهي :
-الإخلاص لله تعالى،بأن تكون التوبة صادقة نصوحاً، ابتغاء وجه الله، وطلب مرضاته ومحبته، والخوف من عذابه، لا رياءً، ولا سمعةً، ولا خوفاً من مخلوق، ولا لغرض دنيوي.
- الندم على فعل المعاصي والمنكرات بحيث تشعر بحرقة وحزن وأسى في نفسك على ارتكابها ،وتتمنى أنك لم تفعل ذلك، فالندم على ارتكاب المحرمات من أعظم أركان التوبة،لأن باقي الأركان كترك المعصية، و العزم على عدم العود إليها مترتبة على الندم ولهذا قال صلى الله عليه وسلم :" الندم توبة". رواه ابن ماجة (4252) من حديث عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه-، وصححه الشيخ الألباني–رحمه الله-.
قال المناوي –رحمه الله- :"أي هو معظم أركانها، لأنه متعلق بالقلب والجوارح تبع له، فإذا ندم القلب انقطع عن المعاصي فرجعت برجوعه الجوارح".التيسير بشرح الجامع الصغير ( 2/ 464)
قال الإمام ابن القيم –رحمه الله- :"فأما الندم فإنه لا تتحقق التوبة إلا به، إذ من لم يندم على القبيح، فذلك دليل على رضاه به،وإصراره عليه ".مدارج السالكين ( 1/182)
-الإقلاع عن المعصية، وتركها والبعد عنها، وإن كنت قد ظلمت غيرك فبادر بالتخلص من خطيئتك وإرجاع الحقوق لأهلها في الدنيا قبل أن يُقتص منك يوم القيامة ويؤخذ من حسناتك،فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"من كانت عنده مَظْلِمَةٌ لأخيه فَلْيَتَحَلَّلْهُ منها،فإنه ليس ثَمَّ دينارٌ ولا درهمٌ من قبل أن يُؤْخَذَ لأخيه من حسناته، فإن لم يكن له حسناتٌ أُخِذَ من سيئات أخيه فَطُرِحَتْ عليه". رواه البخاري (6169)
قال الإمام ابن القيم –رحمه الله- :" تستحيل التوبة مع مباشرة الذنب".مدارج السالكين ( 1/ 182)
-العزم الأكيد الصادق في النفس على عدم العود إلى تلك المحرمات،يقول الإمام ابن القيم –رحمه الله- :"فحقيقة التوبة هي الندم على ما سلف منه في الماضي والإقلاع عنه في الحال والعزم على أن لا يعاوده في المستقبل، والثلاثة تجتمع في الوقت الذي تقع فيه التوبة، فإنه في ذلك الوقت يندم ويقلع ويعزم فحينئذ يرجع إلى العبودية التي خلق لها، وهذا الرجوع هو حقيقة التوبة، ولما كان متوقفا على تلك الثلاثة جعلت شرائط له ".مدارج السالكين ( 1/182)
أخي المذنب اعلم أنك لو تبت وعزمت على ألا تعود إلى المعصية لكن غلبك الشيطان ونفسك الأمارة بالسوء فعاودت المعصية مرة ثانية فتوبتك الأولى صحيحة بعون الله، وعليك أن تجدد التوبة من معاودة المعصية، قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-:" ولو تاب العبد، ثم عاد إلى الذنب قبل الله توبته الأولى، ثم إذا عاد استحق العقوبة، فإن تاب تاب الله عليه أيضاً، ولا يجوز للمسلم إذا تاب، ثم عاد، أن يصر، بل يتوب، ولو عاد في اليوم مائة مرة ".مجموع الفتاوى (16/58)
فعلينا جميعا أيها الأحبة الكرام أن نبادر في كل وقت وحين إلى التوبة والاستغفار، فإن هذا هو النجاح والفلاح ،وأن نحذر التسويف والتأخير فإن هذا من تلبيس الشيطان وهو من الخسران و الحرمان،والله المستعان.
فالله أسأل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يجعلنا وإياكم له من التائبين المنيبين في كل وقت وحين،فهو سبحانه ولي الصالحين و المتفضل على الخلق أجمعين.

وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أبو عبد الله حمزة النايلي