أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


حوار نادر مع الشيخ حماد الأنصاري رحمه الله
التاريخ :26/4/1433 هـ أ. جمال سعد حاتم


في المدينة المنورة كانت زيارة وفد أنصار السُّنة لعالِم من العلماء الأفارقة الموحِّدين، حيث حدَّثنا الرجل عن أنصار السُّنة بما لم يحدِّثنا به رجالاتها، وعن قدماء أنصار السُّنة، ابتداءً بالشيخ "حامد الفقي"، والشيخ "عبدالرحمن الوكيل"، وانتهاء بالشيخ "عبدالرزاق عفيفي"، وعن مصر الأزهر، وما يكنُّه الرجل لرجالات مصر وعلمائها، حيث وصفهم بأنهم أساتذة الدنيا، وأن مصر قائدة العالم كله، إن هي أرادت ذلك، وعن رحلة الرجل في طلب العلم، وعن مجلة التوحيد، والكثير، من خلال حديث طويل شائق مع عالم تنساب منه الكلمات في سلاسةً.



وكان حديثنا في جلسة العلماء، حيث سجَّلنا معه الحديث التالي:

التوحيد: فضيلة الشيخ "حماد الأنصاري" - يرحمكم الله - هل لكم أن تحدِّثونا عن أنصار السُّنة، وعَلاقتكم برجالات أنصار السُّنة؟

ج: إنني أعرف أنصار السُّنة منذ أمدٍ بعيد، أعرف رئيسها الأول ورئيسها الثاني، الشيخ "حامد الفقي"، والشيخ "عبدالرحمن الوكيل" - رحمة الله عليهما - والشيخ "عبدالرزاق عفيفي"، والشيخ "جميل غازي"، والكثير من رجالات أنصار السُّنة، وعندما زرتُ المركز العام كان الشيخ "جميل غازي" في استقبالي.

ومن رجالات أنصار السُّنة الذين أذكرهم الآن، والذي كان له باع طويل في الدعوة: الشيخ "محمد خليل هرَّاس"، وعندما كان عندنا هنا كنا نسمِّيه "فيلسوف أهل السنة"، كان عندنا بمنزلة "أبي الحسن الأشعري" متكلم عصره.

وفي زيارتي الثانية للقاهرة، عندما دخلت إلى المركز العام "بعابدين"، كنت قادمًا من إسبانيا، وألقيت محاضرة لمدة ساعتين في المركز العام، وكانت بعنوان: "التوحيد من سورة الفاتحة"، والتقيت بإخوة كثيرين من أنصار السنة أثناء وجودي في مصر، وزرتُ جامعة الأزهر؛ لكي أُلْقِي محاضرة فيها، وكان وقتها على قمة الأزهر الشيخ "عبدالرحمن بيصار" - رحمه الله - وكان معي في هذا الوقت فضيلة الشيخ "الحسيني هاشم"، ومن الطرائف أنني عندما كنت في طريقي لإلقاء محاضرة في الأزهر سمعت اعتراض البعض، عندما قالوا: "إنه إذا ألقَى محاضرة هنا؛ فإنه سيلقي محاضرة وهابية"، قلت لهم: يا عجبًا، هل هناك محاضرات وهابية، ومحاضرات غير وهابية؟! وشدَّدوا على ألاَّ يسمحوا لي بإلقاء محاضرة، وكانت هذه الواقعة من المواقف الطريفة التي قابلتني أثناء زيارتي للقاهرة، فرددتُ عليهم، وقلت لهم: إنكم أنتم علماء الدنيا، ولكن ينقصكم أن تعرفوا كيف توحِّدون الله، هذا هو الذي ينقصكم، وإلا فالعالم كله أنتم أساتذته، حتى أمريكا وأوربا.



أعترف أنني من تلامذة علماء الأزهر:

ويواصل الشيخ حديثه بلا انقطاع قائلاً:

بدايةً، فأنا أعترف أنني من تلامذتكم، بل إنني لست مبالغًا إن قلت: إن كل مَن درس العلم في الآونة الأخيرة منذ أنشِئ الجامع الأزهر هم تلامذته، وكان الشيخ "حامد الفقي" مثلاً من أمثلة العلماء الذين تخرَّجوا في الأزهر.



التوحيد: فضيلة الشيخ - يرحمكم الله - هل لكم أن تحدِّثونا من خلال معايشتكم للشيخ "حامد الفقي" - رحمه الله - عن شيء من حياته أثَّر فيكم، وما زلتم تذكرونه؟

ج: أمَّا عن حياة الشيخ "حامد الفقي"، فعندما اجتمعتُ معه عام 1367 هـ، جئتُه وهو يُدَرِّسُ "تفسير ابن كثير" عند باب عليٍّ بمكة، وعندما سمعتُه، قلت: هذا هو ضالَّتي، فكان يأخذ آيات التوحيد ويسلط عليها الأضواء، وسمعتُه من بعيد فجلستُ في حَلْقته، وكانت أول حَلْقة أجلس فيها في الحرم، وأنا شابٌّ صغير، وكان عمري لا يتعدى الثانية عشرة، وسمعتُ الدرس، وكان الدرس في تفسير آيات التوحيد، وبعدما انتهى الدرس وصلينا العشاء، جاءنا شخص سوري لا أتذكر اسمه الآن، وقال للشيخ: أنا أريدكم أن تشربوا القهوة عندي، فقال له الشيخ: ومن معي؟ قال له الرجل: أَحْضِر معك مَنْ شئت، وكانت هذه أول مرة أرى فيها الشيخ، على الرغم أنني سمعتُ عنه كثيرًا؛ لأن شيخي كان تلميذ الشيخ "حامد الفقي".



الشيخ "حامد الفقي"، وقصته مع الفلاح:

وذهبنا إلى بيت الأخ السوري، وعندما وصلنا إلى البيت وجلسنا، قال لنا: أنا أريد أن أسلِّم لكم سيوفًا من الخشب، وسلَّم الأخ السوري كل واحد منا سيفًا من الخشب، وقال لنا: تعالوا نتسايف أولاً، وبعد ذلك نشرب القهوة؛ حتى نطبق النونين اللتين تركَّز عليهما الإسلام.



وأخذ كل واحد منا سيفه، وأخذ مع صاحبه يتجاولان، حتى انتهينا من المجاولة، جلسنا وشربنا القهوة، وقلت للشيخ "حامد الفقي" - رحمه الله - : يا شيخ، أنا عندي سؤال، فقال: ما هو سؤالك يا ولدي؟ فقلت له: كيف صرت موحِّدًا، وأنت درست في الأزهر؟ وأنا أريد أن أستفيد، والناس يسمعون، فقال الشيخ: والله إن سؤالك وجيهٌ.



قال: أنا درست في جامعة الأزهر، ودرستُ عقيدة المتكلِّمين التي يدرسونها، وأخذتُ شهادة الليسانس، وذهبتُ إلى بلدي؛ لكي يفرحوا بنجاحي، وفي الطريق مررت على فلاح يفلح الأرض، ولما وصلتُ عنده قال: يا ولدي اجلس على الدِّكَّة - وكان عنده دكة إذا انتهى من العمل يجلس عليها - وجلستُ على الدِّكَّة وهو يشتغل، ووجدتُ بجانبي على طرف الدِّكَّة كتابًا، فأخذتُ الكتاب ونظرتُ إليه، فإذا هو كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية" لابن القيم، فأخذت الكتاب أتسلَّى به، ولما رآني أخذتُ الكتاب، وبدأتُ أقرأ فيه، تأخَّر عني، حتى قدر من الوقت الذي آخذ فيه فكرة عن الكتاب، وبعد فترة من الوقت - وهو يعمل في حقله، وأنا أقرأ في الكتاب - جاء الفلاح، وقال: السلام عليك يا ولدي، كيف حالك؟ ومن أين جئتَ؟ فأجبتُه عن سؤاله، فقال لي: والله أنت شاطر؛ لأنك تدرَّجت في طلب العلم، حتى توصلت إلى هذه المرحلة، ولكن يا ولدي أنا عندي وصية، فقلت له: ما هي؟ قال الفلاح: أنت عندك شهادة تعيشك في كل الدنيا، في أوروبا، في أمريكا، في أي مكان، ولكنها ما علَّمَتك الشيء الذي يجب أن تتعلمه أولاً، قلت: ما هو؟ قال: ما علمتك التوحيد، قلتُ له: ما هو التوحيد؟ قال الفلاح: توحيد السلف، قلت له: وما هو توحيد السلف؟

قال له: انظر كيف عَرَف الفلاح الذي أمامك توحيد السلف؟

قال له: هي هذه الكتب:

كتاب "السُّنة" للإمام أحمد الكبير، وكتاب "السُّنة" للإمام أحمد الصغير، وكتاب "التوحيد" لابن خُزَيمة، وكتاب "خلق أفعال العباد" للبخاري، وكتاب "اعتقاد أهل السُّنة" للحافظ اللالكائي، وعدَّ له كثيرًا من كتب التوحيد، وذكر الفلاح كتب التوحيد للمتأخِّرين، وبعد ذلك كتب المتقدِّمين - إنه الفلاح الفقيه - وبعد ذلك ذكر كتب شيخ الإسلام "ابن تيميَّة" و"ابن القيم"، وقال له: أنا أدلُّك على هذه الكتب، إذا وصلت إلى قريتك ورأوك وفرحوا بنجاحك، لا تتأخر، ارجع رأسًا إلى القاهرة، فإذا وصلت إلى القاهرة، ادخل "دار الكتب المصرية"، ستجد كل هذه الكتب التي ذكرتُها كلها فيها، ولكنها مكدَّس عليها الغبار، وأنا أريدك أن تَنْفُض ما عليها من الغبار وتنشرها.



وكانت تلك الكلمات من الفلاح البسيط الفقيه قد أخذت طريقها إلى قلب الشيخ "حامد الفقي"؛ لأنها جاءت من مخلص.



كيف عَرَف الفلاح طريق التوحيد؟

يواصل الشيخ "حماد" حكايته مع الشيخ "حامد الفقي"، فيقول: إنني استوقفت الشيخ، وسألته: كيف عَرَف الفلاح كل ذلك

قال الشيخ حامد: لقد عَرَفه من أستاذه "الرمالي"، هل تسمعون بالرمالي؟ قلت له: أنا لا أعرف "الرمالي" هذا؟ ما هي قصته؟

قال: "الرمالي" كان يفتش عن كتب سلفه، ولما وجد ما وجد منها، بدأ بجمع العُمَّال والكنَّاسين، وقام يدرّس لهم، وكان لا يُسمح له أن يدرّس ذلك علانية، وكان من جملتهم هذا الفلاح، وهذا الفلاح يصلح أن يكون إمامًا من الأئمة، ولكنه هناك في الفلاحة، فمَن الذي يصلح أن يتعلم؟!

ولكن ما زال الخير موجودًا في كل بلد، حتى تقوم الساعة، ولما رجعتُ إلى قريتي في مصر وذهبتُ إلى القاهرة، وقفتُ على الكتب التي ذكرها لي الفلاح الفقيه كلها، ما عدا كتابًا واحدًا ما وقفت عليه إلا بعد فترة كبيرة.

وبعد ذلك انتهينا من الجلسة، وذهب الشيخ "حامد الفقي"، وكان يأتي إلى السعودية، ونستقبله ضمن البعثة المصرية أيام "الملك فاروق" كلَّ عام، وكانت هذه القصة هي إجابة للسؤال الذي سألته للشيخ حامد في مجلس الرجل السوري.



التوحيد: وعندها سألتُ الشيخ "حمادًا": ومن يكون شيخك؟

ج: قال: شيخي أنا في إفريقيا تلميذ الشيخ "حامد الفقي"، اسمه الشيخ "محمد عبدالله المدني التنبكتي".



التوحيد: الشيخ "حماد الأنصاري" - يرحمكم الله - الرحلة في طلب العلم سمة من سمات طلبته، فهل لكم أن تحدِّثونا عن رحلتكم في طلب العلم؟

ج: يقول فضيلة الشيخ "حماد الأنصاري": إن الرحلة في طلب العلم طويلة، وخاصة أنني من إفريقيا، ورحلتي في طلب العلم أقصها لكم، وقد سأل سائل الإمام "مالكًا" في درسه في المدينة المنورة: من أين لك هذا العلم يا أبا عبدالله؟ قال: هذا علمُ ما شاء الله، فقيل له، وما علم ما شاء الله؟ فقال لهم: أنا ما بدأت درسًا إلا وأقول: ما شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهذا معنى علم ما شاء الله.



الأعداء يتربصون بالإسلام:

وأنا كما أخبرتكم أنني من إفريقيا السوداء، فنحن من دولة بني نُصير الذين هم آخر دولة في الأندلس، وقَضَت عليها إسبانيا المجرمة، عندما وجدت بينهم الاختلافات على الرئاسة، ووجدت تلك الفرصة، فهَجَمت على الجميع، وقَضَت على الإسلام، وهكذا العدو؛ فالعدو يتربَّص بالمسلمين، فهنا لما أخذوا البلاد وقضوا على تلك الدولة، وهذه آخر دولة للأنصار، وعَمِلوا محاكم للتفتيش، وكانت محاكم التفتيش هذه يخيِّرون كل من بقي في هذا البلد بين واحد من ثلاث: إما أن يَتَنَصَّر، وإما أن يخرج من البلد لا يحمل شيئًا حتى اللباس، وإما أن يُقْتَل.

وكنا ممن وقع عليهم الاختيار الثاني، وكان ذلك سبب خروجنا من البلاد، وخرجنا حتى وصلنا إلى المغرب وجلسنا فيه، ولكن وجدنا فتنًا كثيرة، لم تكن أقل من الفتن الموجودة في الأندلس، فخرجنا جميعًا إلى السودان والسنغال، ولما وصلنا إلى السنغال، لم نجد استقرارًا أيضًا، فخرجنا حتى وصلنا إلى "تنبكتوا"، والتي يسمونها "مالي" حاليًّا، وهناك وجدنا استقرارًا، ووجدنا بلادًا يحتاجون إلى مَن يوجههم، وكنا نعيش في قرية تابعة "لتنبكتوا"، وكان طلبة العلم يتجمعون في هذه القرية، وكان ذلك في عام 1364 هـ، وبَقِينا في تلك القرية حتى قاتلنا الفرنسيون، فقد هجموا على تلك القرية التي كنا فيها بالدبابات بعد صلاة الفجر في هذه السنة ودكُّوها دكًّا، ولم يَسْلَم إلا مَن هرب برجليه، وكان ذلك آخر وجود لأسرتنا بعد أن جاءت فرنسا إلى تلك البلاد.

وكانت الدراسة عندنا في هذه البلاد حلقاتٍ؛ حيث لا توجد مدارس نظامية، وكان المشايخ يجلسون في المسجد؛ هذا يدرِّس القرآن، وهذا يدرِّس النحو، وهذا يدرِّس اللغة، وهذا يدرِّس الفقه، وهذا يدرِّس الحديث، وهذا يدرِّس المصطلح، فدخلتُ في هذه الحلقات، وكنتُ في ذلك الوقت ابنَ عشر سنوات، دخلت حَلْقة القرآن حتى حفظتُ القرآن، وكنت عند خالي؛ لأنني يَتِيم، فقد توفِّي والدي - رحمه الله - وأنا ابن ثماني سنوات، فأخذني خالي بعد وفاة أبي، وأنا في الحقيقة في إفريقيا درستُ العلوم التي تدرس هناك سنة 1358 هـ.

وفي تلك السنة جاءنا الشيخ "محمد عبدالله التنبكتي المدني"، والذي كان إمامًا في الحرم النبوي؛ لأن أباه "المحمود" - لما جاءت فرنسا إلينا من المغرب والجزائر - هَرَب بعد أن تغلَّب الفرنسيون واحتلُّوا البلاد، إلى الصحراء هو وتلامذته، واجتمع مجموعة من العلماء، من مختلف البلاد: "السيوطي" من القاهرة، "عبدالكريم" من أرتريا، "محمود البغدادي" من العراق، "محمد بن يوسف الأنصاري" من تادا مكة.

كل هؤلاء العلماء جمعهم الله من بلاد متباعدة في بلدتي في "النيجر"، والتي تسمى "آهير"، ولما اجتمعوا في هذه البلدة كانوا لا يعرفون بعضهم من قبل.

المصريون أساتذة الدنيا:

ويواصل الشيخ "حماد الأنصاري" رحلته في طلب العلم فيقول:

كانت العلوم التي تدرس في البلاد في ذلك الوقت كلها قد جاءتنا من القاهرة، وأريد أن أعرِّفكم كيف أقول لإخواني المصريين: أنتم أساتذة الدنيا، وكانت كل العلوم التي تدرس عندنا وتدخل في الحلقات التي ندرسها، كلها قد أخذناها من الأزهر، ولم يكن ينقصنا سوى المدارس النظامية، ولما جاء الشيخ "محمد عبدالله" سنة 1357 هجرية، وكان رجلاً عظيمًا درس التوحيد، وصار يدرس لنا التوحيد، وما كان يتكلم إلا بالقرآن والحديث، وكنتُ ما زلتُ صغيرًا في ذلك الوقت؛ لأنني لم أخرج من البلاد إلا في عام 1364 هـ، فأشارت عليَّ والدتي بالاتصال بهذا الشيخ لعله يعلِّمني شيئًا، وكان الشيخ قد افتتح مدرسة لعلوم التوحيد، ومدرسة لتعليم الحديث؛ لأن البلاد كانت بها كل العلوم تدرس ما عدا هذين العِلْمين، برغم أن البلاد كان بها فُحُول في: النحو، واللغة، والتصريف، والبلاغة، وأصول الفقه، والتجويد، والمنطق، والفلسفة؛ لكنهم كانوا لا يُعَلِّقون على أي كلمة يغنى بها إنسان أمامهم، وكانوا لا يقرؤون الأحاديث إلا للتبرك في رمضان، وفي عام 1963م جمعنا الطلبة حينما قامت فرنسا علينا وقالت: لابد وأن يدخل أولادكم في مدارسنا.



وكل المستعمَرين من "التكارنة" و"البيضان" دخلوا مدارس الفرنسيين إلا نحن.



التوحيد: كيف استمرت رحلتكم في طلب العلم؟

ج: يقول الشيخ "حماد الأنصاري": إن ما سردتُه لكم هي المرحلة الأولى من رحلتي في طلب العلم، وكانت بداية المرحلة الثانية عندما أصرَّ الفرنسيون على إدخالنا مدارسهم، فأشار علينا الشيخ "محمد عبدالله" بقوله: أنا من رأيي أن تأخذوا ما بقي من أولادكم، وتذهبون إلى الحجاز، وكان هذا هو سبب خروجنا من إفريقيا، وفعلاً تركنا البلاد وركبنا الجِمَال حتى وصلنا إلى "كانوا" في "نيجيريا"، ومن هناك ركبنا السيارات بعد أن بِعْنا الجِمَال، ثم توجَّهنا إلى "توشات" التي هي عاصمتها "انجامينا" حاليًّا، وهناك وجدنا أحد العلماء الذين تعلَّموا في الأزهر وجلسنا معه في حلقاته، وقدَّمنا طلبًا إلى الحاكم هناك بأن يسمح لنا بالحجِّ، فرَفَضوا ذلك، وخرجنا متسلِّلين نمشي بالليل ونَكْمُن بالنهار، حتى وصلنا إلى "أم درمان"، ثم "بورسودان".

وهناك كونت مكتبة في "بورسودان" كونتها من مكتبة "إبراهيم المصري" في "بورسودان"، وهي المكتبة الوحيدة التي وجدتها في "بورسودان"، وبها كتب العلم في التوحيد والحديث وغير ذلك، وأخذت منها كمية كبيرة.

وفي اليوم الذي حدَّدته للسفر من "بورسودان" إلى الحجاز كان عندي ثلاث حقائب كبيرة من الكتب، وعندما جئتُ إلى الباخرة، ورآني الإنجليزي المشرف على الرحلة، وطلب مني فتح الحقائب قال لي: أنت تاجر كتب وذاهب إلى الحجاز لتجارة الكتب، فقلتُ له: لا، أنا طالب علم، وأتيت إلى جُدَّة.



مرحلتي الأخيرة في طلب العلم:

أما مرحلتي الأخيرة في طلب العلم - وما زال الحديث على لسان الشيخ "حماد الأنصاري" - فكانت بدايتها عند دخولي مكة في رمضان عام 1367 هـ عام 1948 م، وفي تلك السنة، وأثناء فترة الحج، وأنا أَدُور على المخيَّمات؛ أبحث عن طلبة العلم، حتى جئتُ إلى مخيَّم فلسطين، وكان فيه شيخ يسمَّى "عبدالحفيظ الفلسطيني"، ودخلتُ المخيَّم وبرفقتي أحد الإخوة، وسلَّمت على هذا الشيخ الكبير، فوجدتُه يستمع للراديو، وكانت أول مرة أرى الراديو في حياتي، فقلتُ له: ما هذا الذي تستمع إليه؟ قال: أستمع للمِذْيَاع، أستمع للحرب بين العرب واليهود، فقلتُ له: في أي مكان هذه الحرب؟ قال: في فلسطين، هنا عرفت الأمر، وكان الشيخ يبلغ من العمر سبعين عامًا، وأخذت منه إجازةً في كل العلوم.



وبدأت أَدُور على كل المخيَّمات، ووصلت إلى المدينة في عام 1368 هـ، وبَقِيت بها في طلب العلم إلى يومنا هذا.

ويواصل الشيخ حديثه قائلاً:

إنني أعترف بأن العلم في مصر، وقد كان أحد الأساتذة يقول لنا: لو أَسْلَمت مصر كلُّها، لأسلم العالم كله، ومصر هي قائدة العالم كله، إذا هي أرادت، وقد اعترف العالَم الآن بذلك، وسمِعت ذلك في إذاعة بريطانيا في سنةٍ من السنوات، أن مصر هي قائدة العالم، وقد سمِعت هذا بأذنيَّ هاتين، ولا أحتاج إلى أن أسمعه؛ لأن الواقع يكفي.

مجلة التوحيد جيَّدة ولا ينبغي أن تُتْرك:

التوحيد: فضيلة الشيخ، هل لكم من كلمة توجِّهونها إلى مجلة التوحيد، وقرَّاء مجلة التوحيد في العالم الإسلامي؟

ج: يقول فضيلة الشيخ:

إن مجلة التوحيد جيِّدة ومفيدة، ورغم هذا يجب أن تجعلوا مجلسًا بينكم لدراسة التوحيد ودراسة السنة؛ لأن مجلة التوحيد مجلة جيِّدة جدًّا، ولا ينبغي أن تُتْرك، وإنما كونُها تقرأ أو لا تقرأ، فهذا شيء ليس عليكم، والذي عليكم هو نشرها، أما أن تجعلوا الناس يقبلونها، فهذا ليس عليكم؛ ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾ [القصص: 56]، فالذي يريد منكم العلم علِّموه، فالقوة اثنان: العمل بالقرآن، وإعداد السنان، النونين: القرآن والسنان، فالقرآن بدون السنان لا يسمعه الناس، والسنان بدون قرآن لا تنفع، والقرآن هو العلم، والسنان منفِّذ.

وليس في الإسلام قتل الأبرياء، ولا قتل النساء، ولا قتل الشيوخ، والسلاح الجديد لا يمكن أن يتحاشى هذا؛ لأنه عشوائي لا تستطيع أن تسيطر عليه: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ﴾ [النحل: 125]، أوصي بذلك أبناءنا في مصر وغيرها من بلاد المسلمين.



فاللهم اجعلنا هُدَاة مُهْتَدين، غير ضالِّين ولا مضلِّين، واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه.