أجاب عن سؤالك فضيلة الشيخ محمود شلتوت رحمه الله إجابة مستفيضة قائلا:
الواقع أن هذه الدابَّة قد قيل في شأنها الكثير، وعملتْ فيها الروايات والآثار عمَلها المَعروف في كل أمر غيبيٍّ أخبر به القرآن، ولم يتصل به بيانٌ قاطع عن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ قيل ذلك في حقيقتها، وقيل في صِفَتِهَا، ومن أغرب ما قيل في حقيقتها أنها إنسان، وأنه عليٌّ ـ رضي الله عنه. وقيل: إنها ولد ناقة صالحٍ، فرَّ هاربًا حينمَا عقَر القومُ أُمَّهُ، انفتحت له في طريقه صخرةٌ فدخلها ثم انطبقت عليه، فهو في باطنها إلى أن يخرج قُرب يوم القيامة. وقيل: إنها دابَّة قديمة خُلقت في عهد الأنبياء المُتقدمين، وإنَّ موسى سأل ربه أن يُريه إيَّاها، فأخرجها ثلاثة أيام ولياليهم، تذهب في السماء لا يرى واحدٌ مِن طرَفَيْهَا، فرأى ـ عليه السلام ـ منظرًا فظيعًا، فقال: يا رب رُدَّهَا فَرَدَّهَا أو إنها هي الثعبان الذي كان في جوْف الكعبة، واختطفتْه العُقاب حين أرادت قريش بناء البيت الحرام فمَنَعَهُمْ، فأَلْقَتْهُ العُقاب بالحُجونِ، فالْتَقَمَتْهُ الأرضُ، وهو في باطنها حتى يخرج يوم القيامة. ومِن أغرب ما قيل في صفة الدابَّة أن طولها سُتون ذراعًا بذراع آدمَ ـ عليه السلام ـ لا يُدركها طالبٌ ولا يَفُوتُها هاربٌ، وأن لها مع جميع دوابِّ الأرض مُشابهة تامَّة في عضو من أعضائها، فلَها وجهُ إنسان ورأْس ثورٍ، وعيْن خنزير، وأُذُنُ فِيلٍ "إلى آخر ما سُوِّدت به الصحف، وضاع الوقت في نقْله". وهي (أيْ عبارة: "ما سُودت به الصحف، وضاع الوقت في نقله"). كلمةُ حقٍّ قالها أحدُ المُفسرين ونقلها الألوسي في تفسيره، وأقرَّها، وقال مُعتذرًا عن ذِكْرِه شيئًا من أخبارها: "وإنما نقلتُ بعض ذلك دفعًا لشهْوةِ مَن يُحب الاطلاع على شيء مِن أخبارها صِدْقًا كانَ أو كَذِبًا".
وقال الإمام الرازي بعد أن حكَى هو ـ أيضًا ـ شيئًا من أخبارها: "واعلَمْ أنه لا دلالة في الكتاب على شيء من هذه الأمور؛ فإنْ صحَّ الخبر فيه عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبلُ، وإلَّا لم يُلتفت إليه". وهو يعني أنه لا يصحُّ من أخبارها شيءٌ غير المذكور في القرآن الكريم.هذا وقد فات المُفسرين أن يضعوا حدًّا لِصَوْنِ التفْسِير عن هذه الإسرائيليات التي أظلمتِ الجوَّ على طلاب الهِداية القرآنية، وشغلتْهم على اللُّبِّ والجَوْهر بما ألْصَقَتْهُ بالقرآن، وقَصَرُوا جُهودهم على النَّبْشِ فيما أُلْصق! وليس هذا خاصًّا ـ كما قلنا ـ بالدابَّة، وإنما هو ريحُ السَّموم هبَّتْ على كُتب التفسير من نواحٍ كثيرة في كل أمر غيبيٍّ أخبر به القرآن، ولم يتصل به بيانٌ قاطع عن الرسول ـ عليه السلام ـ فقد قيل مثله في: "يأجوج ومأجوج" وفي "الصُّور" وفي "اللوْح المَحفوظ" وفي غيرها. وقد تتَبَّعَ بعض المفسرين غرائب الأخبار التي ليس لها سندٌ صحيح، وأغدقوا من شرِّها على الناس وعلى القرآن؛ وكان جديرًا بهم أن يُقيموا بينها وبين الناس سَدًّا يَقِيهِمُ البَلْبَلَةَ الفكرية فيما يتصل بالغيْب الذي استأثر الله بعِلْمِهِ، ولم يَرَ فائدةً لعباده في أن يُطلعهم على شيءٍ منه. وإذا كان للناس بطبيعتهم وَلَعٌ بسماع الغرائب وقراءتها، فما أشدَّ أثرها في إلْهائهم عن التفكير النافع فيما تضمَّنه القرآن مِن آيات العقائد والأخلاق وصالِح الأعمال! والذي أُحبُّ أن أُقَرِّرَهُ هنا ـ بهذه المناسبة فيما أَخبر الله به من شُئون الغيب التي لم يتصل بها بيانٌ قاطع عن الرسول مِن الدابَّة، والصُّور، ونحوهما ـ هو: أنَّا نُؤمن به على القدْر الذي أخبر اللهُ به دون صَرْفٍ للفظ عن معناه، ودون زيادة عمَّا تضمَّنه الخبر الصادق وبالنسبة للدابَّة ـ نؤمن بأنه حينما يقع أمر الله، وتَحِقُّ كلمته، ويأتي اليوم الذي لا ينفع فيه نفسًا إيمانُها لم تكنْ آمنتْ مِن قبلُ ـ ستظهر للناس دابَّة، ولكن: هل تتولد مِن الأرض، أم هي مِن دوابِّها؟ ذلك يعلمه الله. وهل هي صغيرة أم كبيرة، وعرْضها كذا وطولها كذا. وهل تحمل معها عصا موسى، وخاتم سليمان أم لا تحمل شيئًا؟ ذلك يعلمه الله؛ نُؤمن فقط أن دابةً ستخرج وتُكلم الناس، هل تكلمهم بلسان عربي ذلق، أو بغيره؟ كذلك هذا يعمله الله؛ نؤمن بها وبكلامها دون استبعاد أو إنكار. وقد قصَّ الله علينا في السورة نفسها أن عصا موسى وهي جماد تحرَّكت واهتزَّت كأنها جانٌّ، وأنها تلَقَّفَتْ ما كانوا يأفِكون، وقصَّ علينا أن الحيوان الذي ليس من شأنه أن ينطق ولا أن يعبر عن الإيمان والكُفر، كالهدهد، نطق وعبَّر عن الإيمان والكفر، نعم. يجب الوقوف في الإيمان عند الحدِّ الذي جاء به الخبر الصادق، ولا ينبغي التصرُّف فيه بالحمل على التمثيل، أو الزيادة عليه، وضمِّ شيءٍ إليه، فضلًا عن استبعاده أو إنْكاره؛ وهذا هو شأن المُؤمنين بالله، وبكتابه وغيْبه. والله أعلم