المقدمة- الواقع التربوى
محمد نور الفرادي
الملاحظ لكل متتبع للواقع التربوى فى البلاد العربية و الاسلامية انها تشهد عملية تطوير و تحديث للمناهج و للبرامج التعليمية لمواكبة التطورات البيداغوجية المعتمدة فى البلدان الاوروبية خاصة... مثل الاعتماد على بيداغوجيا الادماج و التدريس بالكفايات واعتماد التدريس بالوضعيات و قد تم تبنى عدة نظريات تربوية حديثة كالبنائية او السلوكية بعدما ثبت نجاحها فى البلدان الممارسة لها منذ سنوات عديدة
و تبين نجاحها من خلال تمكينها المتعلم من اكتساب مهارات اساسية كالمبادرة الذاتية و القدرة
على الابداع و تمكين المتعلم من انجاز مشروعه اثناء الدراسة لتعويده التعويل على الذات عند مغادرته مقاعد الدراسة فلا يبقى عاطلا لانه سيعمل على بعث مشروعه الخاص و سيشغل معه عددا آخر من الافرادو النجاح الملاحظ فى البلدان الاروبية و الغربية عموما هو انها لا تستهين بقدرات الطفل على الابتكار و الابداع منذ سن الطفولة بل ان التعليم يساعد بقسط كبير فى تنمية هذه القدرات الفردية من خلال الاعتماد على حل المشكلات فى الدراسة و تمكين الطفل من الاعتماد على نفسه فى حلها دون اسقاط الحلول جاهزة او املائها عليه دون ان يكتشفها بنفسه
و قد ادركت الدول المتقدمة ان تواصل تقدمها رهين بتربية جيدة لاجيالها القادمة و ادراكها ان الطفل يحتاج الى امتلاك الثقة فى النفس و الاستقلالية فى التفكير و العمل حتى يتمكن من حل مشاكل واقعه بكل كفاءة و اقتدار لانه يمتلك القدرات الذهنية الازمة لذلك و يبقى دور المربى فى المدرسة او البيت ان ان يمكنه من اكتشاف قدراته بنفسه بالممارس و اكتساب التجارب مما يتعلمه فى القسم او البيت
ان الواقع الذى سيعيشه الطفل لن يكون مشابها للواقع الذى يدرسه اليوم فى القسم لان الواقع يتطور بسرعة اكبر مما نتصور لذلك ادرك خبراء التربية ان اهم وظائف المدرسة و المربين عموما هو تمكين الطفل من الادوات الازمة للتعامل مع المحيط للتاثير فيه و تطويره وهذه الادوات او الاسلحة الازمة للمواجهة انما هى من اهم حاجيات الطفل كامتلاك قوة الارادة و الثقة فى النفس و المثابرة على العمل و الاعتماد على الذات و حب المعرفة و الترب المتواصل على حل قضايا الواقع و الشعور بان لكل فرد دوره الاساسى فى المجتمع
وكل هذه الحاجيات كامنة ومتصلة فى ذات كل فرد و لكنها تتطلب تربية طويلة وصعبة لابرازها لكى تصبح سلوكا راسخا لدى الطفل يمارسه بتلقائية و اقتناع و يتغلب على عوامل الكسل و الاتكال و التهاون و الاستكانة للواقع او العجز عن حل قضاياه ...ان دور المربى يشبه الساعة المنبهة بان الوقت قد حان للاستيقاظ و الذهاب الى العمل و لم يبقى للمتعلم سوى الاقبال على العمل و المبادرةو المثابرة بلا كلل لانه يدرك ان توفر هذه الشروط سيحقق له كل ما يرغب فيه مهما كان صعب المنال
المحور الاول- اسس التربية الجيدة
التربية فى المدرسة والبيت
الباب الاول -
يرمى اعداد هذه البحوث لكسب التحديات القادمة فى المجال التكنولوجى و العلمى وهى بحوث مستمدة من مراجع مختصة و تجارب عملية... وهى بحوث موجهة الى العاملين فى القطاع التربوى من اولياء او مدرسين او مؤطرين... لضمان تطور التعليم و تجديد مناهجه حتى لا نفقد التحكم فى المقود و للتفوق على البلدان المتقدمة... خاصة و اننا اصحاب حضارة تاسست على العلم و المعرفة و لعل اول آية قرآنية اكبر دليل على ذلك وهى "اقرا" و قال الله تعالى فى محكم تنزيله ان الله يرفع الذين آمنوا و الذين اوتوا العلم درجات
ان المناهج المعتمدة فى البلدان المتقدمة و المستمدة من بيداغوجيا الكفايات و التدريس بالوضعيات و بيداغوجيا المشروع كلها نظريات متطورة ثبت نجاحها فى البلدان الاروبية و تسعى البلدان العربية الى اخذها و انجازها على مراحل من خلال تغيير البرامج تدريجيا او تكوين المدرسين على اعتماد هذه الطرق الجديدة باشراف الاطار البيداغوجى و المتفقدين و تكثيف عددهم لتمكينهم من الحرص على متابعة تطبيق هذه المناهج الجديدة بكل دقة و نجاعة
و لكن الجدير بالملاحظة ان هذه التجارب البيداغوجية المعتمدة انما ظهرت منذ زمن اى حوالى ستينات القرن العشرين و قد تطورت المجتمعات و تبين ان هذه النظريات رغم انها آخر ما توصل اليه الخبراء فى علوم التربية و البيداغوجيا لم تعد مسايرة للتطور السريع الذى يشهده العصر الحديث و لم تستطع هذه النظريات التربوية وضع حد لعدة ازمات اقتصادية و مالية و لم تقدم الحلول لظواهر اجتماعية سلبية متفاقمة كالعنف فى الملاعب الرياضية او ارتفاع نسبة الجرائم بكل انواعها فى المجتمعات المتقدمة كالمخدرات او الاغتصاب او التهرب من الضرائب و الاعتماد على الاستهلاك اكثر من الانتاج حتى اصبحت توصف بانها مجتمعات استهلاكية...
ان التربية هى اساس كل اصلاح اجتماعى او اقتصادى و كل خلل فى المجتمع انما يعود اساسا الى الافراد و بما ان التربية موجهة الى الفرد فان فشلها فى حسن توجيه الافراد يؤكد انها لم تعد صالحة لتطور المجتمع و ينبغى تطويرها بمناهج اكثر حداثة و نجاعة لتنعكس ايجابا على الافراد و بالتالى على المجتمع باسره ...ان المناهج التربوية المقتبسة من الدول المتقدمة تتطلب مراجعةو تحديثا... و هذا البحث يدرس اسس الفكر التربوى من كل جوانبه عند علماء التربية فى الغرب ثم يقدم نقدا لها مع اقتراح البدائل الممكنة لضمان نجاعة العمل التربوى اجتماعيا و اقتصاديا و ثقافيا...
1- الدور الاساسى للمدرسة
يميل الطفل منذ الولادة الى اللعب و المرح يجد الطفل فى اللعب حرية... وهو اثناء اللعب انما يفكر و يجتهد لان منهج اللعب و النشا ط لذلك علينا ان نفسح المجال للطفل لابراز مواهبه و قدراته الابداعية و ان يمكنه من التفاعل مع المحيط و التاثير فيه
و قد اثبت العلماء ان التعليم الجيد يكتسب بالممارسة و الاختبارات العملية و اكد الباحث الامريكى "جون ديوى "فى هذا المجال ان افضل اساليب التعليم يكون بالتجربة لانه ليس المهم ما يقدمه المعلم من معارف جديدة بل الاهم هو الاصغاء للطفل و تمكينه من اختبار معارفه و التوصل الى المعرفة بمفرده حتى يمتلها عبر الممارسة الفعلية
ان الرسول الاعظم محمد (ص) علمنا هذا منذ آلاف السنين حين قال "علموا الاطفال و هم يلعبون " و لما سئلت السيدة عائشة عن خلق الرسول (ص) قالت كان خلقه القرآن مما يثبت ان الرسول كان يربى اصحابه و قومه بالممارسة اولا حتى ان عمر بن الخطاب لما سئل عن حفظه للقرآن قال انه بقى عشر سنوات لحفظ سورة البقرة لاته لا يحفظ آية الا بعد ان يطبقها
ان الطفل لم يات للمدرسة مجردا من كل شىء و انما له عدة مهارات اكتسبها من الممارسة كالاكل او الكلام او المشى بمساعدة المحيط العائلى و بالمثابرة و تكرار المحاولة و تحدى الفشل فلا بد من استثمار هذه المهارات و الملكات المكتسبة لمساعدة الطفل على تنمية شخصيته لتكون اكثر كفاءة و مهارة فى فهم الواقع و حل مشكلاته
ان التربية انما ترمى الى تحقيق ما يصبو اليه الطفل من رغبات و حاجيات اساسية و تعديلها لتتلاءم مع حاجيات المجتمع كالحاجة الى التعاون مع الآخرين او ضرورة العمل وبذل الجهد لتحقيق ما يريده و المثابرة على الاجتهاد لتحدى المصاعب و تحليل الظواهر و فهم الحقائق و التحكم فى القدرات الذهنية لبناء مواقف متوازنة و متلائمة مع تطور المجتمع
ان الواقع المفترض فى الدروس المقدمة يمكن الطفل من التوصل مع محيطه الاجتماعى عبر التدرب على حل المشكلات المعقدة لان الواقع اكثر تعقيدا مما يكسبه القدرة على كسب التحديات و امتلاك قوة الارادة و الثقة بالنفس و امتلاك اسباب النجاح (*1)
2- التربية على الابداع
تسعى التربية لصنع الفكر الابداعى لانها اصبحت تعتمد على وسائل و تقنيات و نظريات بيداغوجية متطورة ترمى الى اعداد جيل من المبدعين قادرين على صناعة الابداع عبر اكتساب مهارات و خبرات تمكنهم من بناء اقتصاد الخبرة وهو اقتصاد المستقبل الذى سيحل محل اقتصاد المعلومات
ان رغبة الطفل فى التعلم الذاتى و كسب المعارف تبدو للملاحظ منذ الولادة من خلال بحث المولود عن امه و الرضاعة من ثديها ثم تتطور هذه الحاجة من خلال طرح الاسئلة المتكررة على كل من يحيط به ان حب المعرفة يحتاج الى تربية طويلة الامد لتنميتها و لتكون عاملا على بلوغ الابداع ليصبح الطفل مغرما بالعلم و مؤسسا لنظريات جديدة و يمتلك القدرة على البحث و النقد و التحليل
ان اهم شروط الابداع تحقيق الاستقلالية فى التفكير و العمل و افضل خدمة تقدمها المدرسة لافرادها هى التمرس بالعمل حتى يصبح عادة متجذرة فى سلوك الطفل و ان يوظف عمله الابداعى لصالح المجتمع و الانسانية قاطبة لان الدول تحتاج الى المبدعين لحل مشاكلها و ازماتها لذلك يعتبر تكوين المبدعين و المتميزين ضرورة حتمية لكل مجتمع
ان الوسائل البرامج و التقنيات الموظفة فى التعليم تهدف كلها الى تكوين الفرد المبدع لانه اولوية لمواجهة تحديات العصر الجديد فالمدرسة تعلم الفرد الاعتماد على الذات و تمده بالوسائل المساعدة على العمل و الحرص على النجاح و التفوق بطرق مرنة فى التدريس و الحث على المبادرة و تنمية حب المعرفة دون الشعور بالغرور و غرس حب العمل بصفته قيمة انسانية يكافؤ عليها الافراد المبدعون اكثر من غيرهم (*2)
3- البيداغوجيا*
ان البيداغوجيا هى كل تفكير منظم فى تربية الطفل و تهتم بالغايات التى تسعى الى تحقيقها و الوسائل التى يجب توظيفها لبلوغ هذه الغايات و تهتم بنوعية المعارف التى ينبغى نقلها و تنظيم طرق ووضعيات التعلم
اما الكفايات فهى كيفية معالجة موضوع معين. و تهدف البيداغوجيا الى تحقيق الكفايات المستوجبة و تعمل على تحقيقها بالاعتماد على مقاربة اجتماعية تدرس المحتوى المعرفى و تعد التصورات و المناهج الواجب اتباعها لبلوغ هذه الاهداف كالتحليل او التواصل او الاستكشاف...
وتعمل البيداغوجيا كذلك على نقل المفاهيم و المهارات المرتبطة بالكفايات ضمن نسق معرفى و فى اطار وضعيات و و فق مخطط اجرائى من اجل التوصل الى وضع مهمة مشكل و حلها باداء ملائم ...وتهدف المعارف و المواقف و الكفايات و المهارات كلها الى تعبئة مجهود المتعلم ليقبل على التعلم الذاتى بطرق مستنبطة قصد امتلاك القدرة على حل الوضعيات المستنبطة و الملائمة لحاجياته وهى التواصل مع الواقع المعاش ليكون الطفل مهيئا لما ينتظره فى المجتمع من اعغمال و تحديات تتطلب التمكن من المهارات و الخبرات المساهمة فى خدمة المجتمع (*3)
4- التربية الحديثة افضل من التربية التقليدية
كانت التربية قديما تعتمد على التلقين الجاف للمعارف و المعلومات وهى طرق ماخوذة عن التربية اليونانية المسيحية القائمة على العنف الشدة و ممارسة القمع لانها تعتبر الطفل بمثابة الكهل و كانوا يضربون الاطفال بالسيط و العصى ليصبحوا جنودا اقوياء
و اعتمد الرومان كذلك على التربية القاسية و تدريب الاطفال على محاربة الوحوش الضارية لابراز قوتهم و كان الاعتقاد السائد لديهم ان الاقوياء وحدهم يسيطرون على العالم فكانوا يدربون الاطفال على استخدام الاسلحة و تحمل المشاق ليكونوا مستعدين للحروب المتوصلة للهيمنة على العالم
و يعتقد الرومان و اليونانيون ان النفس تولد شريرة و فاسدة يجب قمعها عبر الرهبنة و الزهد و يعتبرون ان المدرسة هى سجن للطبيعة السيئة من خلال تعويد الطفل على الطاعة و الخضوع لاسيادهم و يرون ان الطفل يملك صفات الرجل الكهل فكانوا يعتمدون على حشو الادمغة بكل المعارف الممكنة دون مراعاة ميولهم او قدراتهم الذهنية فالمدرس يهتم بالمادة المراد تبليغها بكاملها دون ان يهتم بتجاوب الاطفال او مراعاة شخصيتهم الغضة لانهم يعتبرون ان الطفل يملك استعدادات البالغين
و كانت التربية التقليدية تلزم الطفل بالحفظ عن ظهر قلب سواء وافقت هذه المعارف حاجياته و طباعه ام لم توافق فعلى الاطفال ان يتعلموا الطاعة العمياء دون ابداء آرائهم لان النقاش او النقد يعتبر تعديا على السلطة. و كانت البرامج تكرس سيطرة طبقة معينة على بقية المجتمع ليبقى العبيد خاضعين لاسيادهم ...و كانت الفئة الثرية تعلم ابناءها العلوم النظرية و الفلسفة ليبقوا اسيادا اما العبيد فيتعلمون الحرف اليدوية لخدمة اسيادهم (*4)
الباب الثانى- التربية عند الفلاسفة
1-التربية امانة و مسؤولية
ان للمربى العديد من الواجبات التى تحملها الانبياء و الرسل قبله و اشفقت عن حملها الارض والسماوات و الجبال لصعوبتها و جسامة المسؤولية و الامانة الملقاة على عاتق المربى لانه يصنع العقول و يغير الانفس و يعدل السلوك و ينعكس عمله على المجتمع فى اسرع مما كان يعتقد فالتربية تؤثر فى الفرد على الفور لتحدد نوع سلوكه فى المجتمع و كيف سيتعامل مع المحيطين به و اذا ادرك المربى سواء كان ابا او معلما او استاذا او مرشدا هذا الامر ...عندها سيكون المجتمع فاضلا و سيحقق كل ما يرغب فيه من تقدم و ازدهار اما اذا حدث اقل تقصير فان الكارثة ستحل على المجتمع باسره و العياذ بالله لان المهام الموكولة الى المربين جسيمة و لان المجتمعات لا تتقدم و لا تستطيع ان تحافظ على استقرارها الا بفضل التربية التى يتلقاها افرادها فى المدرسة او البيت او المحيط الاجتماعى بكل مؤثراته كالاعلام و المؤسسات و الجمعيات و غيرها من هياكل المجتمع المدنى