موضوع هذا المقال يشغل بالي باستمرار لأنه يتعلق بمصير شعوب بأكملها أدمنت الاستهلاك واستمرأت الكسل والخمول وأعني بها شعوبنا الخليجية.
المتأمل في واقع هذه الشعوب يخرج بانطباع عام مفاده أنها شعوب مستهلكة وليس لها نصيب في سوق الانتاج العالمي إلا تلك المنتجات التي تقوم في الأساس على سواعد العمالة الوافدة. وحتى في شؤونها الخاصة والعامة سوف يجد هذا المتأمل أنها شعوب تعتمد على العمالة الوافدة في انجاز الكثير من تلك الشؤون. وقد ساهمت الظاهرة البترولية في تشكيل هذه المجتمعات على هذه الصورة الاستهلاكية والاتكالية. وبما أن البترول سلعة ناضبة فإنه يجوز لنا السؤال عن مدى متانة هذه المجتمعات وعن مدى امتلاكها لمقومات البقاء والاستمرار إذا ما جفت منابع البترول أو إذا ما استطاع العلم الوصول إلى بدائل للبترول وهو افتراض قد يصبح حقيقة مستقبلية قريبة في ظل الطفرة والاكتشافات العلمية الهائلة والمستمرة. ثم ماذا لو بدأت العمالة الوافدة رحلة العودة إلى أوطانها الأصلية لافتقاد مجتمعات الخليج لجاذبيتها الاقتصادية نتيجة نضوب البترول أو اكتشاف بدائل وظيفية له؟.
الحقيقة التي لا مراء فيها أن نهضة دول الخليج وشعوبها إنما قامت في الأصل على سواعد العمالة الوافدة، وما زالت المعطيات التنموية والعمرانية والصناعية والزراعية والاقتصادية والخدماتية حكرا على تلك السواعد حتى اللحظة.
ترى هل فكرت النخب والقيادات السياسية والفكرية في الخليج بمستقبل هذه الشعوب لو حدث – لا سمح الله – ما ذكرناه آنفا من مستجدات وهي مستجدات من الممكن، بل من المتوقع، حدوثها. فالبترول لازال السلعة الوحيدة التي تعتمد عليها اقتصادات دول الخليج رغم قابليته للنضوب أو اكتشاف بدائل له ... والنظم التعليمية في هذه الدول لا زالت تشكل ترفا معرفيا لا يؤهل الانسان الخليجي لبناء المعطيات التنموية في بلده. إذن أي مستقبل ينتظر دول الخليج وشعوبها إذا ما استمرت الحال على ما هي عليه؟
لابد من طرح مثل هذه الأسئلة الصعبة والمؤلمة على مسامع القيادات والنخب السياسية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية في منطقة الخليج. فهذه الأسئلة رغم مرارتها إلا أنها أسئلة مشروعة وتحتاج إلى إجابات علمية ومنطقية وواقعية إذا ما أردنا صياغة مستقبل مشرق أو على الأقل مستقبل أقل ضررا للشعوب الخليجية فيما لو حدث ما نخشى حدوثه في المستقبل.
الأسئلة المطروحة هنا ليست من باب الترف الفكري أو من باب التشاؤم بقدر ما هي أسئلة واقعية تحتم على المعنيين من الساسة والنخب الفكرية المختلفة في مجتمعات الخليج البحث فيها قبل أن تفرض نفسها فجأة علينا لتأتي النتائج وخيمة على هذه المجتمعات.
يجب أولا البحث في مصادر بديلة للبترول مادام البترول سلعة ناضبة. وهذا يتطلب العمل الجاد والمخلص لتنويع مصادر الدخل الوطني لدول الخليج. فنحن لا نعيش الحاضر فحسب، وإنما من حق أجيال المستقبل أن تضمن لنفسها العيش الكريم وإلا فلن نكون بمنأى عن لعنة تلك الأجيال لنا إذا لم نمهد الطريق أمامها كي تعيش بسلام. لذلك لابد بداية من تكثيف الحوار حول هذه القضية من خلال عقد الندوات والمحاضرات والمؤتمرات الكفيلة بالاجابة عن هذا السؤال الجوهري واتخاذ الخطوات العملية نحو توفير البدائل غير البترولية للدخل الوطني.
أما الخطوة الأخرى والمرتبطة بسابقتها فتتمثل في إعادة صياغة الواقع التعليمي في هذه الدول لمواكبة المتطلبات التنموية بتخريج الكوادر الانتاجية المؤهلة والمدربة لتحل محل العمالة الوافدة التي يعتمد بقاؤها بيننا على جاذبيتنا الاقتصادية في الوقت الراهن لكنها بالتأكيد سوف تشد الرحال إلى أوطانها الأصلية بمجرد أن نفقد هذه الجاذبية، وحينئذ من سيقوم على قطاعاتنا الانتاجية؟ من سيقوم بالتشييد والبناء؟ ومن سيقوم بأعمال الصيانة والنظافة؟ ومن سيقوم بأعمال الرعي والصيد والزراعة والصناعة والتجارة؟ فهذه النشاطات تشكل عصب الحياة في كافة المجتمعات ولابد من تهيئة الكوادر الوطنية للانخراط فيها والا ستكون مجتمعاتنا الخليجية في مهب الريح، ولن تملك مقومات البقاء والاستمرار في عالم يستمد مقومات بقائه واستمراره على القدرة الانتاجية لسواعده الوطنية.
إنه لأمر محير فعلا أن تتغافل القيادات والنخب السياسية والفكرية في مجتمعاتنا الخليجية وتنام مليء جفونها وتستسلم لهذا الواقع المحتمل الذي يهدد مستقبل هذه المجتمعات وكأن الأمر لا يعنيها لا من قريب ولا من بعيد مع أنها هي المؤتمنة على حاضر ومستقبل شعوبها ... فهل تهب هذه القيادات والنخب الخليجية لانقاذ ما يمكن انقاذه قبل فوات الآن؟ أرجو ذلك ... هذا وللجميع أطيب تحياتي؟