أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


مطلب من كتابي: المبتكر المرغوب الجامع لمسائل المندوب
الفرق بين سنة الكفاية وفرض الكفاية.
الفرق بين فرض الكفاية وسنة الكفاية راجع إلى نوع الطلب فيهما، فإنه في الفرض جازم، وفي السنة غير جازم، وهذا الفرق يبين أثره في وجهين:
الوجه الأول: إذا فعله الجميع أو تركه الجميع دفعة واحدة.
ففي سنة الكفاية تسقط الإساءة عن الباقين بفعل البعض، ويسيء كل واحد منهم إساءة تارك السنة إذا تركوه جميعا، وفي فرض الكفاية يسقط الإثم عن الباقين بفعل البعض، ويأثم الجميع إثم تارك الفرض إن تركوه جميعا.
قال المطيعي: «وهذا الفرق إنما نشأ من الفرق بين كون الطلب في الفرض طلبا جازما يوجب الثواب لفاعله والإثم لتاركه، ومن كون الطلب في السنة طلبا غير جازم يوجب الثواب لفاعله والإساءة لتاركه، وفي الحالين لا يتحقق ترك الفرض على الكفاية والسنة على الكفاية إلا بترك الجميع»( ).
الوجه الثاني: إذا تعاقبوا على فعله.
قال ابن دقيق العيد: «ويفارق فرض الكفاية سنة الكفاية في أن فرض الكفاية لا ينافيه الاستحباب في حق من زاد على القدر الذي سقط به الفرض، والسنة على الكفاية لا استحباب فيما زاد من ذلك الوجه الذي اقتضى الاستحباب»( ).
قلتُ: قد لا يطرد هذا التأصيل في كل حال، بل فيه تفصيل، وبيانه: أنه لا بد أن ينظر عند التعاقب على الفعل هل لحقوا بهم قبل تحصيل مصلحته أم لا؟
فإن لحقوا بهم قبل تحصيل مصلحته وقع ما فعلوه فرضًا، في فرض الكفاية، وسنة في سنة الكفاية، مع حصول الكفاية بفعل الأولين.
ومثاله في فرض الكفاية: أن يخرج إلى العدو من يستقل بدفعهم ، ثم يلحق بهم آخرون قبل انقضاء القتال، فيكتب لهم أجر الفرض؛ لأن المصلحة لم تكتمل بعد وما حصلت إلا بفعل الجميع، فوجب أن يكون فعل الجميع واجبًا، لأن الواجب يتبع المصالح( ).
ومثاله في سنة الكفاية ــ وإن كان فيه بعد ــ: أن يشرع أحد الجماعة المارة في السلام، فيلحقه آخر قبل إتمام سلامه.
قال العز بن عبد السلام رحمه الله: «فإذا خاض في فرض الكفاية من يستقل به ثم لحقه آخرون قبل تحصيل مصلحته كان ما فعلوه فرضًا وإن حصلت الكفاية بغيرهم ، لأن مصلحته لم تحصل بعد»( ).
وقد أورد القرافي رحمه الله سؤالا يثير إشكالا في هذه المسألة فقال: «سؤال: هذه المسألة نقض كبير على حد الواجب بأي حد حددتموه؟ فإن هذا اللاحق بالمجاهدين أو غيرهم كان له الترك إجماعًا من غير ذم ولا لوم ولا استحقاق عقاب، ومع ذلك فقد وصفتم فعله بالوجوب، فقد اجتمع الواجب وعدم الذم على تركه، وذلك يناقض حدود الواجب كلها، وهذا سؤال صعب فيلزم: إما بطلان تلك الحدود ، أو بطلان هذه القاعدة والكل صعب جدًّا» .
ثم أجاب عن هذا السؤال فقال: «والجواب عن هذا السؤال أن نقول: الوجوب في هذه الصور مشروط بلا اتصال والاجتماع مع الفاعلين، فلا جرم إن ترك مع الاجتماع أثم، والترك مع الاجتماع لا يتصور إلا إذا ترك الجميع والعقاب حينئذ متحقق، والقاعدة : أن الوجوب المشروط بشرط ينتفي عند انتفاء ذلك الشرط، فإذا كان منفردًا عنهم يكون شرط الوجوب مفقودًا فيذهب الوجوب، ولا عجب أن يكون الوجوب مشروطًا بشرط الاتصال ومفقودًا عند الانفصال، كما تقول لزيد: إن اتصلت بعصمة امرأتك أو بقرابة وجبت عليك النفقة، وإن انفصلت منها لا تجب النفقة ، فإن عاودتها وجبت، وإن فارقتها سقطت، كذلك أيضًا هاهنا متى اجتمع مع القوم الخارجين للجهاد تقرر الواجب، فإذا أراد أن يفارقهم قلنا: لك ذلك، فإذا فارقهم بطل الوجوب كذلك أبدًا، فاندفع السؤال ، فتأمل ذلك فالسؤال جيد والجواب جيد»( ).
وإن لحقوا بهم بعد تحصيل مصلحته فيختلف فرض الكفاية عن سنة الكفاية هنا ــ والله أعلم ــ، وبيان ذلك فيما يلي:
أما فرض الكفاية فالمستحق لثواب الفرض من تحققت المصلحة على أيديهم، وهم السابقون دون اللاحقين فإنهم لا يستحقون ثواب الفرض ، بل يثابون على فعلهم ثواب الندب.
وهذا سبقت الإشارة إليه في كلام ابن دقيق رحمه الله، وقال القرافي رحمة الله عليه: «الوجوب يتبع المصلحة ، فإذا لم تحصل المصلحة بقي الخطاب بالوجب ومن أوقع مصلحة الوجوب استحق ثواب الواجب، والجميع موقع لمصلحة الوجوب ، فوجب اشتراكهم في ثواب الواجب، والكلام حيث لم يتحقق المصلحة ، أما من جاء بعد تحققها فلا»( ).
وأما سنة الكفاية فلا يستقيم ما قاله ابن دقيق العيد من أن الاستحباب ينقطع إذا تحققت مصلحته وينتقل إلى الفعل إلى الإباحة بل في كثير من صور سنة الكفاية يبقى الفعل مستحبا بعد تحقق مصلحته، وهذا الذي دعا بعضهم إلى إنكار سنة الكفاية أصلا، وقد تقدم الجواب عليه.
ومن هذه الصور: ما لو سلم أحد الجماعة ثم سلم أحد بعده، هل يقال: التسليم الثاني مباح، فيه بعد، ولو قيل: ثوابه دون ثواب الأول، لكان له وجه.
ومن وصوره أيضا: التضحية عن أهل البيت بأضحية ثانية من آخر، هل يقال: التضحية الثانية مباحة، فيه بعد أبعد من الأول.