فصل في النهي عن سب الدهر
في كتاب زاد المعاد لابن قيم الجوزية الجزء :الثاني الصفحة :323 قوله :
وأما القسم الثاني وهو أن تطلق ألفاظ الذم على من ليس من أهلها ، فمثل نهيه صلى الله عليه وسلم عن سب الدهر، وقال : ( إن الله هو الدهر ) وفي حديث آخر : { يقول الله على عز وجل : يؤذيني ابن آدم فيسب الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر اقلب الليل والنهار} وفي حديث آخر { لا يقولن أحدكم : يا خيبة الدهر }.
في هذا ثلاث مفاسد عظيمة :
إحداها : سبه من ليس بأهل أن يسب ، فإن الدهر خلق مسخر من خلق الله ، منقاد لأمره ، مذلل لتسخيره ، فسابه أولى بالذم والسب منه .
الثانية : أن سبه متضمن للشرك ، فإنه إنما سبه لظنه أنه يضر وينفع ، وأنه مع ذلك ظالم قد ضر من لا يستحق الضرر ، وأعطى من لا يستحق العطاء ، ورفع من لا يستحق العطاء ، ورفع من لا يستحق الرفعة ، وحرم من لا يستحق الحرمان ، وهو عند شاتميه من أظلم الظلمة ، وأشعار هؤلاء الظلمة الخونة في سبه كثيرة جداً . وكثير من الجهال يصرح بلعنه وتقبيحه .
الثالثة : أن السب منهم إنما يقع على من فعل هذه الأفعال التي لو أتبع الحق فيها أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ، وإذا وقعت أهواؤهم ، حمدوا الدهر وأثنوا عليه . وفي حقيقة الأمر، فرب الدهر تعالى هو المعطي المانع ، الخافض الرافع ، المعز المذل ، والدهر ليس له من الأمر شيء ، فمسبتهم للدهر مسبة لله عز وجل ، ولهذا كانت مؤذية للرب تعالى، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { قال الله تعالى : يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر } فساب الدهر دائر بين أمرين لا بد له من أحدهما . إما سبه لله ، أو الشرك به ، فإنه إذا اعتقد أن الدهر فاعل مع الله فهو مشرك ، وإن اعتقد أن الله وحده فإنه إذا اعتقد أن الدهر فاعل مع الله فهو مشرك ، وإن اعتقد أن الله وحده هو الذي فعل ذلك وهو يسب من فعله ، فقد سب الله .
ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يقولن أحدكم : تعس الشيطان فإنه يتعاظم حتى يكون مثل البيت ، فيقول : بقوتي صرعتة ، ولكن ليقل : بسم الله ، فإنه يتصاغر حتى يكون مثل الذباب ).
وفي حديث آخر ( إن العبد إذا لعن الشيطان يقول : إنك لتلعن ملعناً ) .
ومثل هذا قول القائل : أخزى الله الشيطان ، وقبح الله الشيطان ، فإن ذلك كله يفرحه ويقول : علم ابن ادم أني قد نلته بقوتي ، وذلك مما يعينه على إغوائه . ولا يفيده شيئاً ، فأرشد النبي صلى الله عليه وسلم من مسه شيء من الشيطان أن يذكر الله تعالى ، ويذكر اسمه ، ويستعيذ بالله منه ، فإن ذلك أنفع له ، وأغيظ للشيطان