توقفت الحافلة لأول مرة أمام (دار الكولون) ونزل رجل يتجاوز الستين من العمر ، يجمع سيم الموقح ، بادية عليه علامات الانصهار في آتون المحن ، مفرطح الرأس موخوط ، مسطح الأنف ، مسترخ الجفون ، يضع نظارات يعتليها جبين كتبت عليه سطور الغبن ورسمت على خدوده آثار التعب ، حالق الذقن والشوارب ، يشد بأنيابه شبكا هولنديا ، يرتدي بذلة (شانقاي أزرق) بيده اليمنى عصا ويحمل بالأخرى قبعة مرسيلية ، شد بمظهره الغريب أنظار جميع الركاب ، وأخذ التساؤل بمجامع ظنونهم ، وبدا الاستغراب بكل جرأة في ملامح وجوههم .. انطلقت الحافلة بكل صعوبة بعد أن قطعت حبال الفضول ، كأنها ستار وانزاح عن وجه العجوز ، امتدت اللوحات من قدميه الى الأفق .. عن يساره قرية في حركة بطيئة ، كأنها ملجأ العجزة ، سلبت منها المدينة حيويتها ونشاطها ، جرداء ، ترتدي لباس الاسمنت الذي أكلت عوامل الفصول ألوان طلائه ، بجانبها مقبرة للعتاد الفلاحي الروسي الغموس ، كأنها ورشة للعب الأطفال ، أمامه سهل المسيو(ف) الذي أوقف امتداده جبل أولاد الشيخ (فلان) دار مزرعة الرومي لازالت قائمة يسكنها الرعاة بعد أن هجرها الفلاحون ؛ لم تفقد سوى جمالها ونظافتها ، لا شك أن التجارب هي السبب في هذا الاهمال الفظيع ، فمن التعاونيات الى التسيير الذاتي الى الثورة الزراعية الى المجموعات ، ومن يدري لعل عودة الاقطاع قاب قوسين أو أدنى وتصبح ألف قرية وقرية أسطورة بومدينية عاشها الفلاحون في النوم ، تنسج حولها الحكايات ويحكمها خبر كان يا ما كان ، ألم تكن خرافة قبل وجودها ؟ وقال الفلاحون عن مشروعها " الدولة تعطينا الأرض والجرار والحاصدة والسكن .. والماء والكهرباء وتدفع لنا الأجور دون أي مقابل (هدي في السليما وما لعبتش) لكن لعبت وانتهى الشريط بسرعة وصدق من قال " دوام الحال من المحال " عن يمينه المقبرة ، لا تختلف كثيرا عن مقابر مرسيليا ، السرو وأشياء أخرى ، قبورها مرتبة كأنها حديقة تزخر بمظاهر المدنية المتذوقة لجماليات الهندسة المعمارية ، قبور قديمة استوت مع البسيطة وقبور حديثة مجصصة كأنها عروش ، توقف عند بعضها ، سلم على الدار البيضاء (قبة سيدي) وانصرف .
هنا كانت خيم بني فلان ، حتى الأطلال طمست ، كانت طريقهم رخاء وكلابهم مكممة ، وجيادهم مسروجة ونارهم جارية فارسية ، وعراصهم مفروشة .. هكذا كانوا واستكانوا ، اندثروا ، كأن ما جمعته القبيلة في قرون شتتته المدنية الكاذبة في عشرية واحدة ، هي وحدها مخلصة ولا تزال ، وعساء واثنة تجود بطيبات دخيلتها وتجزل العطاء مقابل حبيبات ندى الكادحين التي تعتصرها من الجبين الهرم ، تستخرجها أجاجا وتستخلص من خامها حلاوة الكرامة وذهب الشرف والتعفف ، يزينها الوادس الزاهي ويطربها البرقش على ايقاع وكوف بواسق السحاب التي رسمتها لمسات أبريل الأخيرة ، تتخللها بسمات سمائه الصبوح ، يغسل ذلك الغيث بكل لطف تباريج الغناء الممتدة على وثار بدوة الوادي الوسنى الى الضاجع الغضبان .. يا سبحان الله ، تغير كل شيء هنا ، حتى البثوق التي كان يقف عليها البوم الأحمق كل ليلة ، يعكس بعيونه البجاء ضوء القمر ، غطتها الأغصان التي تفرعت وورقت ، والوشل الذي كان يطرب النفوس وكانت جداوله مسقاة لليرقاء والوراشين الأليفة أصبح مشربا للذئاب والخنازير ، تتمتع وحدها بوهيج الربوة الذي كان مرتعا لهواجس الشعر الملحون ، يهيج غرائز القارحة فتظهر عليها بوادر هذيان الحسناء اللطيف في مقامات الوصال ، يغتصب في الخفاء البراعم المتطفلة باسم الحفاظ على الوزن والتوازن في الطبيعة التي لا تريد أن تخالف السنن .
لما بلغ المنعطف ، امتد أمامه المسلك ثانية ، تحفه من الجانبين أنواع مختلفة من النباتات الطفيلية اليافعة ، تغني على وشوشتها ورقصاتها الأوابد وغردت عليها القواطع ، وعزف العبير الرطب سمفونيته الخالدة على أغصان الصفصاف التي انحنت وتدنت ، تحي الثعالب التي قضت على السناجب ، تعاتب بكل تواضع القادم بعد جفاء وغياب طويل .. الأوراق التي سقطت وتراكمت على الدرب ، عبر السنين الماضية تئن تحت وطأته بخشخشتها الحزينة ، أثارت في نفسه الشجون وهسهاس الحنين الذي حركه من جديد اغتراب الهجرة ووحدة النزوح ، حركته هذه الربوع الخالية التي تشكو العقوق بكل أشكاله ، هضلاء ، ضرعاء ، غناء تعمرها الصراصير في الصيف والثعالب في الشتاء .
وقف كاليفن وسط البهو ، يجتلي ما حوله ، يجتر بعد تخمة وضيمة التروي الذي وأدته في أعماقه آنذاك الأراجيف ، يستعيد في وجم ذكرى ذلك اليوم العاق الذي هزمته فيه نزعة مدنية الفرانسيس فكفر بأرضه ، بهذه الأرض في وطنه ، وكفر بالسماء في غربته ، فكتب القلم عليه سنوات المهانة المزخرفة برماق العدل والرحمة ، وها هو ذا يعود الى دياره اليوم مدؤوما مدحورا ، يتجول بنظر استورد بصيرته ، كأنه في متحف فلاحي عرضت فيه أدوات فلاحي العقود البعيدة ، جلس على أسكفة الباب ، لمط بلسانه زبد الغيظ الذي تشكل حول تلك الشفاه التي تورمت من تناول المشروبات الروحية ، الآن فقط أحس بمرارة كؤوس الحنظل المتموجة التي كانت تتلألأ على الضفة الأخرى من النهر الأبيض الذي كان يفصل بيننا وبينهم ، وعرف أن الجسر الذي وضعوه آنذاك كان للسلب والنهب ، والنفق الذي حفروه أخيرا لتمرير الأبهرين هو تأكيد لنظرية امتداد أرضهم تحت البحر وتوثيق رابطة التبعية وتمرير أدوات الانسلاخ فوق الماء وتحت الماء وما بين الأرض والسماء ، ولما رفضت الأرض الملقحة بالثوابت والثورات الخالدة ، انصاع الانسان الذي فقد المناعة ،فنزل من الجبل الى أدغال المدن يعيش مع الطفيليين على فضلات الشرق والغرب ، تأود به سبيل المبتغى الحالم وهلكت على قارعته كل الأصول وسقط السطاع ، الكل يعاني اليوم رسيس الفوز الذي بناه النزوح على الرسيلة يحسبه سرمديا ..
مكظظ ينظر الى نفس مغرورة أهلكتها المتالب وأرهقتها ، وصدق عليه المثل القائل " أراد الغراب أن يمشي مشي الحمامة ففقد مشيته " أخرج من جيبه أوراقا نقدية (من العملة الصعبة) وبدأ يقلبها ، لم يحس هذه المرة بالنشوة والسعادة التي كانت تغمره ، لأن هذه الفرنكات لا تكفي لشراء العدس المستورد ، فشمر على سواعده الهرمة ليتوضأ ويصلي صلاة المتقاعدين على شباب أفناه في خدمة أمة بنت حضارتها ومدنيتها بدم وعرق الشعوب المستضعفة ، وهو يقول في قرارة نفسه " خدعونا مرتين " فاذا لم تكن للنقود رائحة كما يقولون ، فان للدم والعرق في هذه الأرض روائح وألوانا ، يا حسرتي ، وهل يأتي اليوم الذي يتغلب فيه مد البحر على جزرنا فنستعيد الجبال الطارقة ، ونصنع للتاريخ مقام (المسيو فرج) على الضفة الأخرى من البحر ؟ .. هكذا نشهد بالعدل للرب الذي يؤمنون به وبالصدق للابن الذي يقدسونه وبالنزاهة للروح التي يطهرونها . وبدأت دموعه تتساقط لأول مرة كأنها بردادة قلب كساه الحديد ،تصقله جنايات السوابق ويسحقه الندم بين ضرتيه ...
هوامش
-(دار الكولون les colons معني نادي المعمرون او المستوطنين
-(شانقاي أزرق bleue shanghai بدلة لونها ازرق من صنع شنغهاي
-المسيو monsieur بمعنى السيد
-الرومي تعني الفرنسي اطلقها الجزائريون على الفرنسيس
-التعاونيات الى التسيير الذاتي الى الثورة الزراعية الى المجموعات هي مؤسساتانبثقت عن مناهج واساليب تسير القطاع الفلاحي انتهجتها الحكومات الجزائرية منذ الاستقلال الى يومنا هذا
-أسطورة بومدينية نسبة الى فترة رئاسة هواري بومدين للجزائر
-(هدي في السليما وما لعبتش) معناة "حتى افلام السينما لم تأتي به" يقال للتعبير عن حدوث امر لا يصدق
-(قبة سيدي)وتعني ضريح سيدي . انتشرت ظاهرة بناء القبب على اضرحة الشيوخ والاولياء بالجزائر وقد كانت من بين المظاهر التي حاربها الشيخ عبد الحميد بن باديس