جرعة ضياع
فتحت الباب الضخم.. ذلك الباب الحديدي الذي طالما توجست منه خيفة.. بيد واثقة جذبته صوبي.. بقلب مرتعد نحيته من طريقي.. بنفس مرتعشة اقتحمت ما يخفيه.. فتحته.. فانهالت علي خباياه.. كنت قبلا أرتدي تياب الطمأنينة.. حد الوحدة.. كنت سالفا أتقمص أدوار الأيام حد الفراغ..
قسى علي الصمت.. فتمنيت أصوات البشر حتى لو وصلت حد الضجيج
خنقني السكون.. فحلمت بالحركة ولو كانت معارك
تملكني الفراغ ففضلت المشاغل حتى لو أثمرت فشل دريع ومنيت بخيبات
انتشرت في عروقي الوحدة.. انسابت كالجليد.. تمكنت من الذرات.. فتمنيت رفقة ولو وصلت للزحام.. ولو وقفت في شارع يعمه الزحام .. كتف يدفعني.. آخر يرجعني.. اختلالات السير.. أفضل بكثير من السير الجارف وسط الخواء..
سابقا منيت نفسي بالتفكير العميق.. هربت من الجموع.. تحررت من الناس وارتقيت .. عاليا.. خلقت لنفسي عالما عاجيا.. أصيل.. عالم مختلف.. مارست به طقوسي المأثورة.. احتميت داخله.. تنفست التفرد.. اكتويت ونار الإختلاف..
سابقا.. انتابني الإشمئزاز من عادات المجتمع الغريبة.. دمار.. عنف.. خيانة.. غدر.. خداع.. تملق.. كذب... فتمردت على كل شيء.. تمردت على نفسي.. أدخلتها معارك خاسرة.. لن ينبها منها سوى الإنهاك والحسرة.. لو كنت أدري هل يا ترى كنت سأفعل.. المفارقة العجيبة.. أكيد نعم..
اعتليت القمة.. تسلقت الصخور.. تعلمت اختبار موضع قدمي قبل أن أقدم على .. خطوة.. وبعد جهد جهيد.. وبوقت قياسي وصلت.. ويالفرحتي بالوصول.. يالبهجتي بالانتصار.. بأقدام واثقة اعتليت القمة.. تنفست السعادة.. شهقت اللذة.. انتشيت ومذاق الفوز.. هبت نسمات هواء باردة.. أنعشت قلبي المنهك.. أراحت روحي المتعبة.. ياالله ما أمتعها من لحظات.. أخيرا انتصرت لنفسي .. انتقمت من المجتمع.. البشر .. وبلغت عالم مثالي .. صافي.. لاتنغصه أيادي تبطش.. لا تجول به لصوص الظلام.. بعيدا عن منطق الغاب.. القوي يأكل الضعيف.. أخيرا رممت عالمي العاجي..
يا الله ما أروعها المثالية.. ما أصفاها.. ما أحلاها.. بها تتلاشى جميع الألوان.. ويستقر الأبيض .. يكتسح جميع المجال.. قلب أبيض.. لا يعرف السواد..أو الرمادي.. بعيد عن الاصفرار الباهت .. نائي عن جميع درجات الألوان.. فقط أبيض في أبيض..
هكذا تلك القمة.. هو هذا ذاك العالم العاجي..
لكن مهلا.. لا أرى أحدا.. أنا وحدي هنا.. منفردة على القمة.. أين الناس.. أين الوجود.. أين من سيعيش هنا.. ويرمم البيوت..
أحسست بالقمة .. تتحول لبؤرة صغيرة .. شعرت بالبرد المنعش ... يتحول ثلج.. جليد.. يتسرب لنفسي.. يتآكلها.. يمتص دفئها بأنيابه الجامدة .. هل يا ترى أخطأت؟؟
هل يا ترى تسرعت.. حين تسابقت والريح..
أيا ترى هذا ندم؟.. نزوة ضياع؟.. أم أنه نتيجة.. لعديد خيبات؟
حقا .. لا أدري.. كل ما أدريه الآن أن ذاك العالم العاجي الذي آسرني طوال دهر.. فقد بعض بريقه.. ضاع جزء من لمعانه.. خبا طرف من سحره..
للحق معضلة كبيرة.. ما الحل؟ ما العمل؟..
هل من المحتمل أن أتعايش معه.. عادي وكأن شيئا لم يكن.. أم يا ترى علي أنتظار أجيال وأجيال لأعاود بناء عالم آخر.. أنتظر دهرا آخر.. لأرمم اللبنات تلو اللبنات
ياالله.. عجيب كيف تنقلب الأمور .. في لحظة.. في ثانية.. يهدم ما استغرق بناؤه أعمار.. يتلاشى.. قاب برهة..
أخيرا ياالحياة.. بعد مسيرة صعبة .. انتقمت لنفسي.. منها.. يالسخافة.. ياللنهاية..
[align=left]من مذكراتي المغلقة[/align]