[align=justify][align=center]جريدة الرياض الخميس 23 رجب 1427هـ - 17 أغسطس 2006م - العدد 13933
العقـــــــــــــــــل ومقـــــــــــــود السيــــــــــــارة
د. عبد الملك بن يوسف المطلق

إن هذا العقل البشري بطبعه يعتبر الثقل الإنساني بلا شك؛ إذ به يسمو الإنسان ويرتفع، وبه يزن الأمور فيما بينها، فيعرف الصحيح من القبيح ، والحسن من الرديء. والعقل هو: هبة ونعمة من أعظم النعم التي من الله بها على الإنسان فهو القوة المتهيئة لقبول العلم ، وهو الملكة التي بها يفهم الخطاب، وبها يتحقق جلب المصالح ودرء المفاسد، و بها يقبل الحق ويرد الباطل و يعرف الحلال من الحرام وهكذا. والعقل في الأصل غريزي ومكتسب بلا شك، فالقراءة والإدراك والتمعن والتفكر والتدبر كل هذا من أساسيات العقل المكتسب لدى الإنسان مما ينتج عنه تحكم في الحياة المثمرة والناجحة، وهو النور الذي بموجبه يمشي الإنسان، فكل ما قوي نوره سهل مشيه وأدرك مقصده وكل ما قل نوره وضعف، صعب هذا المشي وتعثر وربما توقف إلى الأبد .
ويتوجب سطوع النور وقوته في كثير من الأحداث الراهنة والمؤثرات الفاعلة وما ظهر خلف السطور؛؟ فيتنبه لها، فلا يخلط بين الأماكن وما يناسبها، ولا بين الرجال وأشباه الرجال، قال تعالى: {وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} ولا يخلط بين النساء الصالحات وبين من خلعن الحياء مسرعات كالفراش، متأثرات بالضوء الداعي إلى السراب وقتل العفاف. بل يتراءى له فضل الصبر على الخير وقصر النفس على ذلك حيث قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}
ولهذا : جاء تعريف العقل - كما في لسان العرب- بمعنى الحِجْر والنُّهى وهو ضِدُّ الحُمق ، وجمعه عقول والرجل العاقل هو الجامع لأمره ورأيه . والمعقول : ما تعقله بقلبك . والعقل :التثبت في الأمور . والعقل : القلب ، والقلب العقل ، وسمي العقل عقلاً: لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك، أي يحبسه فهو مشتق من عقله بمعنى ربط وثاقه ليحفظه عن الإفلات.
وقيل:العقل هو التميز الذي به يتميز الإنسان عن سائر المخلوقات الأخرى .
أقول: من هذا المنطلق يتضح أن الشخص مع نفسه ومع أسرته ومع مجتمعه وبالأحرى من تولى منصباً ينظر إليه من تحته بالرجاء تارة، وبالخوف تارة أخرى، هو كالعقل مع الجسد وسائر الأعضاء؛ و كمن يقود سيارة قد أعطاه من ركب فيها التصرف الكامل بفن القيادة؛ فإن كان لا يحسنها فبالطبع سوف يتسبب على نفسه وعلى من ركب معه إلى كثير من المتاعب التي ربما تصل إلى الهلاك!! وإن أحسن قيادتها فهو بلا شك ينجو بنفسه ومن تولاه حيث قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}
لذلك نجد:
1) أن من خوله ولي أمرنا بالتصرف في شأن من شئون الدولة مثلا نجد أنه يتصرف بما يراه مناسباً للصالح العام - وهذا هو الأصل والمطلوب - إلا أنه يوجد من بعض من تولى هذه المناصب من الخفايا الشيء الكثير؛ والتي عانى منها أيضاً الكثير؛ وهذه الفئة من صناع القرار لا يقبلونه لأنفسهم لو كان من عند غيرهم!! فهل تعقلوا وتذكروا الحساب الأكبر عند الله عزوجل وعند وقوفهم بين يديه؟ قال تعالى: {..... وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}
2) أن من يكتب ويتكلم عن الأدب والخلق الرفيع ثم يغمس نفسه ومن تحته بالأخلاق السيئة لهو شخص عطل عقله عن العمل المثمر؛ سواء كان هذا العطل ناتج عن رعونة في عقله، أم هو جهل واعتداد بالرأي؛ قال تعالى {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ}. وبالمقابل نجد من أفاء الله عليه بالعقل السليم وهيأه لإعماله في الحق تظهر نتائجه على نفسه ومن تحت يده، بل على المجتمع برمته، فكم نرى فكرة جليلة القدر راجت فانتفع منها الآخرون، وسطعت حتى بلغت الآفاق، فنال بها الأجر في الدنيا قبل الآخرة. ولهذا نجد الآيات الكثيرات تحض على إعمال العقل وتدبره في الخير.
3) أن بعض الأمراض النفسية والوجدانية التي تصيب الشخص مثلاً سببها عدم إعمال العقل بما هو مطلوب! فالتنازع بين عقله وشهوته – المحرمة- كالتنازع بين الحق والباطل؛ وأيهما غلب انجرفت الجوارح تبعاً له ، لذلك أنظر إلى الإرشاد الإلهي في قوله تعالى: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ) وكذلك الآيات التي تنشد صحوة العقل وهمته، والذي هو مناط الحكم والتكليف قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ } وقال تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور"
4) أن بعض من له حق القوامة من الرجال يظن أن هذه القوامة اختيارية!! إن شاء أخذ بها وإن شاء تركها لزوجته حتى ولو لم تحسن الاختيار في الأمور!! وما نشاهده في الوقت الحاضر من تفاقم المشاكل وضعف السلوك السوي لدى بعض النساء، وابتذالهن المشين في الأسواق والملاهي، لهو دليل واضح على تخلي الرجال عن القوامة الشرعية؛ وما ينتج عن ذلك من تربية خاطئة بلا شك للأبناء؛ وأدهى من ذلك أن بعضاً من هذه الفئة تنادي بحرية المرأة – العبودية للرجال في الحقيقة - ومساواتها مع الرجل بما يستحيل عادة الجمع بين النقيضين!!
5) أن من ينادي لتجريم التعدد وبالمقابل نجده مطلقا لنفسه العنان في الشهوات المحرمة ليعد أمراً متناقضاًً وخطيراً يعصف بالأمة إن لم يستأصل هذا الخبث وينفى عن الأرض؛ وكذلك من ترفض من النساء قبول الزوج المعدد ثم تكتب آلام العنوسة أو تتأثر بها !
6) أن من يتزوج المرأة المطلقة أو الأرملة مثلاً ثم يتبرم من ذكر زوجها السابق أو أهله، وخاصة إذا كان لها منه أولاد وقد علم بذلك – طبعاً- قبل الزواج؛ واطلع على سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم مع أزواجه الثيبات ليعد أمراً عجيباً؛ وأعجب منه من يمنعها من زيارة أهله – أهل زوجها السابق- أو ذكرهم، ويقطع صلتها بهم تماماً؛ وكأنها قد اقترفت فعلاً مشيناً وقد سترها تفضلاً منه! فلا يريد أحداً يذكره في هذا الفعل!؟ فسبحان الله ما أضعف عقله!. وأذكر قصة لأحد الإخوة - نحسبه والله حسيبه- تزوج امرأة كانت تحت زوج صالح – رحمه الله- فلما ولدت منه أسماه على زوجها السابق مع معارضتها هي وأهلها له وبشدة! وكان قوله: وهل إحياء ذكر الصالحين يعد أمراً هيناً؟ إني أحتسب ذلك عند الله أن يجمعنا به مع النبيين وحسن أولئك رفيقا
ولكي نصنع العقل الجيد والعقل الرشيد فلا بد من تغذيته التغذية السليمة والبعيدة عن كل الشبهات ويتم ذلك بعدة أمور منها:
* التبصر والتأمل بعظمة الله وبقدرته جل شأنه، ثم أخذ العبرة من الأمم السابقة، وما ذكر من القصص في القرآن الكريم خير دراية في هذا، حيث قال تعالى: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا}
* مخالفة الهوى وشهوة النفس؛ فهذا يعد من أنجع الحلول في تقوية العقل وعدم بلادته؛ قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}
*القراءة المستمرة والمتنوعة، مع استخلاص النتائج والعبر منها، وإنزالها على الأمور الحياتية، لتتجدد حياته وتتنوع آراءه وأفكاره، ثم تتنور بصيرته بأنواع العلوم والمعارف؛ حتى إذا ما صادفه أمر أو خطب وإذا بعقله قد استدرك حلا لها بما يشابهها من الحوادث التي قرأ عنها وعن حلولها الصحيحة.
ولكي يحمد قولك وفعلك أخي القارئ الكريم يجب ضبط ذلك بمعاير هامة منها:
*عدم مخالفة أمر الله عزوجل ولا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
*أن يكون هذا القول أو الفعل له ثمرة مرجوة؛ سواء كانت خاصة أو عامة.
*الجدية في الطرح وإكمال المهمة حيث يقول: الشاعر
فلم أرى في عيوب الناس عيبًا كنقص القادرين على الكمال
*عدم الاستئثار بالرأي؛ وبمشورة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم لأصحابه خير شاهد وأبلغ دليل.
*عدم مخالفة الذوق العام والعرف والعادة؛ فقد يسلب عقلك من قبل نظرات الناس وأنت لا تعلم!!
*الاستفادة من تجارب الآخرين، وما خلصت إليه من نتائج طيبة
قال الشاعر ألم تر أن العقل زين لأهله ولكن تمام العقل طول التجارب
*عدم التسرع في إطلاق الأحكام؛ وخاصة من هم بعيدون عن الواقع وأحواله؟ والسلامة لا يعدلها شي.
* حب الصالحين الأخيار، وكثرة مجالساتهم، وعلى رأسهم علماؤنا وقدوتنا الذين بذلوا أوقاتهم وجهدهم في تنوير الناس وتبصيرهم بأمور دينهم ودنياهم وبما يصلح به الفرد والمجتمع.
هـذا وإن روح البصيرة ولب العقل هو التفكر والمناجاة مع الخلوة الذاتية؛ ثم التأمل بما يتصف به عقلك من صفات تميزه وما يستجيب الجسد لتلك الصفات، مع محاسبة النفس على ذلك وليس الظروف المحيطة بك! ويتضح هذا: فيما إذا أردت استرجاع حق لك سلب فإنك تقاضي صاحب الشأن نفسه وليس الأداة التي استعملت في أخذ الحق منك! فلم نرى يوماً من الأيام شخصاًًًً صفعه آخر فطلب القصاص من يده!! وإلا لختل المعنى ولختل القصاص أيضاً!! قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه " ليس العاقل من يعرف الخير من الشر، ولكنه الذي يعرف خير الشرين" وقالت عائشة رضي الله عنها " قد أفلح من جعل الله له عقلاً" ( )
أخيراً أقول يا أخي الفاضل: ما هي صفات عقلك التي تميزك؟ وما هو مقدار تجاوب جسدك معها؟[/align][/align]