أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


بسم الله الرحمن الرحيم

هذه أيها الأحبة مقالة جديدة لشيخنا أبي عبد الله حمزة النايلي (وفقه الله)، نفعنا الله وإياكم بها.

الابتلاء هو طريق النصر والتمكين بإذن رب العالمين

الحمد لله رب العالمين و الصلاة والسلام على أشرف المرسلين،نبينا محمد و على آله،وصحبه أجمعين.
أما بعد:
إن مما كتبه الرحمن على أهل الصلاح والإيمان في هذه الدنيا الفانية أنهم يُصابون بأنواع البلايا والامتحان، لكن من عدله سبحانه ورحمته بعباده أن كلا منهم يُبتلى على حسب إيمانه، وقوة يقينه،فعن سعد بن أبي وقاص –رضي الله عنه- قال: يا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الناس أَشَدُّ بَلَاءً؟ قال :الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ على حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كان دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ،وَإِنْ كان في دِينِهِ رِقَّةٌ، ابتلي على حَسَبِ دِينِهِ،فما يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حتى يَتْرُكَهُ يمشى على الأرض ما عليه خَطِيئَةٌ".رواه الترمذي(2398)،وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله-.
قال الإمام النووي –رحمه الله-:"قال العلماء :والحكمة في كون الأنبياء أشد بلاء ثم الأمثل فالأمثل،أنهم مخصوصون بكمال الصبر،وصحة الاحتساب،ومعرفة أن ذلك نعمة من الله تعالى،ليتم لهم الخير ويضاعف لهم الأجر ويظهر صبرهم ورضاهم". الشرح على صحيح مسلم(16/129)
ويقول المناوي –رحمه الله- :"لأن البلاء في مقابلة النعمة، فمن كانت نعمة الله عليه أكثر، فبلاؤه أشد ،ولهذا ضوعف حد الحر على العبد، فهم معرضون للمحن والمصائب وطروق المنغصات والمتاعب".فيض القدير(1/518)
أيها الأحبة الكرام إن مما يجب علينا أن نعلمه أن المؤمن مبتلى في هذه الدنيا الفانية،وقد يكون ذلك في أمور دنياه،كأن يُصاب بالأمراض و الأوباء، وفقدان الأقارب والأصدقاء، وكذلك بالنقص في الأموال وعدم الرزق بالأبناء، وغير ذلك من أنواع الابتلاءات التي تصيب المؤمن في دار الممر لا المستقر.
وما أصاب المؤمن من هذه الأمور هو في الحقيقة تهذيب له من المعاصي والذنوب وليست تعذيب، لأن له بها رفعة في الدرجات عند رب البريات، فعن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ في نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حتى يَلْقَى اللَّهَ وما عليه خَطِيئَةٌ". رواه الترمذي (2399)، وصححه الشيخ الألباني –رحمه الله-.
يقول الإمام ابن القيم –رحمه الله-:"فلولا أنه سبحانه يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء لطغوا وبغوا وعتوا، والله سبحانه إذا أراد بعبد خيرا سقاه دواء من الابتلاء والامتحان على قدر حاله ،يستفرغ به من الأدواء المهلكة، حتى إذا هذبه ونقاه وصفاه، أهله لأشرف مراتب الدنيا وهي عبوديته، وأرفع ثواب الآخرة وهو رؤيته وقربه".زاد المعاد(4/195)
إن الله جل جلاله أيها الأحبة خلق عباده في هذه الدنيا الفانية لأمر عظيم وغاية حميدة ألا وهي عبادته سبحانه وحده لا شريك له، قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)[الذاريات:56].
قال الإمام النووي -رحمه الله-:"وهذا تصريح بأنهم خلقوا للعبادة فحق عليهم الاعتناء بما خلقوا له، والإعراض عن حظوظ الدنيا بالزهادة، فإنها دار نفاد لا محل إخلاد، ومركب عبور لا منزل حبور، ومشروع انفصام لا موطن دوام، فلهذا كان الأيقاظ من أهلها هم العبَّاد، وأعقل الناس فيها هم الزُّهاد".رياض الصالحين(ص3)
وإن المؤمن ليبتلى في دينه الذي هو عصمة أمره،ومن صور امتحانه في دينه أيها الكرام أن يُساوم العبد على تركه أو تبديله أو تحريفه، وقد يكون ذلك من الكفار، أو المنافقين، أو ممن له سلطة من أهل البدع المارقين، كما حصل لأنبيائنا والمرسلين،وكذلك لبعض أئمة المسلمين ومن تبعهم بإحسان من الصالحين.
فينبغي على كل من وفقه الله جل جلاله للتمسك بدينه،واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتيقن أنه سلك طريق العبودية الذي يُرضي رب البرية،وهو الموصل في النهاية إلى السعادة الحقيقية،فليقوي يقينه وثقته بربه جل جلاله،وليُخلص في أعماله لخالقه سبحانه،وليعلم أن هذا السبيل ليس مفروشا بالأشجار والورود،وليُوطن نفسه على أنواع الامتحان والابتلاء التي سيتعرض لها بسبب سلوكه إياه من الغرباء بل حتى من نفسه والأقرباء.
يقول الإمام ابن القيم –رحمه الله-:"يا مخنَّث العزم! أين أنت والطريق؟! طريق تعب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورُمي في النار الخليل، وأُضجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بثمن بخس ولبث في السجن بضع سنين، ونُشر بالمنشار زكريا، وذبح السيد الحصور يحيى،وقاسى الضر أيوب، وزاد على المقدار بكاء داود وسار مع الوحش عيسى وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد صلى الله عليه وسلم، تزها أنت باللهو واللعب!!". الفوائد (ص 42)
فاصبر- ثبتك الله-على ما يُصيبك فيه من أنواع المصائب والخطوب وأسأل الثبات من علام الغيوب،وكن كالجبل الشامخ أمام ما نزل بك من الكروب،وإياك أن تُبدل أو تُميع دينك الذي يوصلك يوم القيامة بإذن الله جل وعلا إلى جنات قطوفها دانية بلذات وشهوات زائلة في هذه الدنيا الفانية،فمهما اشتد بك الحال فاعلم أن لك المآل بإذن الكبير المتعال.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-:"فإنه لابد من أذى لكل من كان في الدنيا، فإن لم يصبر على الأذى في طاعة الله، بل اختار المعصية، كان ما يحصل له من الشر أعظم مما فر منه بكثير (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا)[التوبة:49]،ومن احتمل الهوان والأذى في طاعة الله على الكرامة والعز في معصية الله،كما فعل يوسف عليه السلام وغيره من الأنبياء والصالحين،كانت العاقبة له في الدنيا والآخرة، وكان ما حصل له من الأذى قد انقلب نعيما وسرورا،كما أن ما يحصل لأرباب الذنوب من التنعم بالذنوب ينقلب حزنا وثبورا".مجموع الفتاوى (15/ 132)
ويقول الإمام ابن القيم –رحمه الله- :"مرارة الدنيا هي بعينها حلاوة الآخرة يقلبها الله سبحانه،كذلك وحلاوة الدنيا بعينها مرارة الآخرة،ولأن ينتقل من مرارة منقطعة إلى حلاوة دائمة خير له من عكس ذلك،فإن خفي عليك هذا فانظر إلى قول الصادق المصدوق:(حُفَّت الجنة بالمكارة وحُفَّت النار بالشهوات)- رواه مسلم (2822) من حديث أنس –رضي الله عنه-". زاد المعاد(4/195)
ولتتيقن أيها المؤمن أن ما أصابك هو سبب بإذن أرحم الراحمين لنيل العزة والتمكين، التي لا تُكتسب إلا بالتمسك بأوامر رب العالمين، وبذل التضحية في سبيل نشر هذا الدين,قيل للإمام الشافعي –رحمه الله- أيما أفضل الصبر أو المحنة أو التمكين؟ فقال-رحمه الله- :"التمكين درجة الأنبياء،ولا يكون التمكين إلا بعد المحنة،فإذا امتحن صبر،وإذا صبر مكن، ألا ترى أن الله عز وجل امتحن إبراهيم عليه السلام ثم مكنه،وامتحن موسى عليه السلام ثم مكنه، وامتحن أيوب عليه السلام ثم مكنه، وامتحن سليمان عليه السلام ثم مكنه، وآتاه ملكا، والتمكين أفضل الدرجات قال الله عز وجل:(وكذلك مكنا ليوسف في الأرض)[يوسف :21] وأيوب عليه السلام بعد المحنة العظيمة مُكن، قال الله تعالى:( وآتيناه أهله ومثلهم معهم...) [الأنبياء:84]".إحياء علوم الدين (1/26)
واعلم أيها المبتلى في دينه أن ما أصابك هو في الحقيقة منحة من خالقك وليس محنة،وأن البلية التي نزلت بك ستتحول بإذن رب البرية إلى عطية.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-:"وإذا عَظُمت المحنة كان ذلك للمؤمن الصالح سببا لعلو الدرجة وعظيم الأجر". الاستقامة (2/260)
ويقول الإمام ابن القيم –رحمه الله-:" سبحانه لم يرسل إليه – أي العبد -البلاء ليهلكه به ولا ليعذبه به ولا ليجتاحه، وإنما افتقده به ليمتحن صبره ورضاه عنه وإيمانه، وليسمع تضرعه وابتهاله وليراه طريحا ببابه لائذا بجنابه مكسور القلب بين يديه، رافعا قصص الشكوى إليه".زاد المعاد(4/194)
وابتلائك هو أمر كتبه الله جل جلاله عليك قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، وذلك لحكمة منه سبحانه،قال تعالى:(ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم)[آل عمران:179 ].
قال الشيخ السعدي–رحمه الله-:" أي:ما كان في حكمة الله أن يترك المؤمنين على ما أنتم عليه من الاختلاط وعدم التمييز حتى يميز الخبيث من الطيب، والمؤمن من المنافق والصادق من الكاذب،ولم يكن في حكمته أيضا أن يطلع عباده على الغيب الذي يعلمه من عباده،فاقتضت حكمته الباهرة أن يبتلي عباده، ويفتنهم بما به يتميز الخبيث من الطيب من أنواع الابتلاء والامتحان،فأرسل الله رسله وأمر بطاعتهم،والانقياد لهم والإيمان بهم،ووعدهم على الإيمان والتقوى الأجر العظيم، فانقسم الناس بحسب اتباعهم للرسل قسمين:مطيعين وعاصين ومؤمنين ومنافقين ومسلمين وكافرين، ليرتب على ذلك الثواب والعقاب،وليظهر عدله وفضله وحكمته لخلقه". تفسير السعدي(ص 158)
فلا تظهر لك حقائق الناس وتتبين أحوالهم،إلا في أوقات الفتن والمحن، ففيها يَبرز أهل الإيمان ويظهر أولياء الرحمن الذين يذبون عن دينه وينصرون أولياءه،وكذلك ينكشف أولياء الشيطان الذين يسعون لإفساد المسلمين، وإبعادهم عن دين رب العالمين.
يقول الحسن البصري –رحمه الله-:" الناس ما داموا في عافية مستورون فإذا نزل بهم بلاء صاروا إلى حقائقهم فصار المؤمن إلى إيمانه والمنافق إلى نفاقه".البيان والتبيين للجاحظ (ص 453)
فيا أيها المتمسك بدينه المتبع لنهج سلفه الصالح رغم تكالب الأعداء، وقلة الأعوان الأوفياء، اصبر وصابر ولا تحزن لقلة الأتقياء ،ولا تغتر بكثرة الأشقياء.
يقول الإمام الفضيل بن عياض-رحمه الله-:"اتبع طرق الهدى ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين". الاعتصام للشاطبي ( 1/83)
ويقول الإمام ابن القيم–رحمه الله-:"وإياك أن تغتر بما يغتر به الجاهلون،فإنهم يقولون لو كان هؤلاء على حق لم يكونوا أقل الناس عددا،والناس على خلافهم فاعلم أن هؤلاء هم الناس ومن خالفهم فمشبهون بالناس وليسوا بناس، فما الناس إلا أهل الحق وإن كانوا أقلهم عددا ". مفتاح دار السعادة (1/147)
فالله أسأل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يثبتنا وإياكم على دينه القويم ،وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم الكريم ، وأن يجعلنا ممن يبذل الغالي والنفيس من أجل نصرة الحق وأهله في كل الأقطار، ورفع رايته في الأوطان والأمصار، وأن يحفظ أهل الحق والإتباع في كل مكان وزمان من شر الكائدين من الكفار والمنافقين وأهل البدع المارقين، ويثبتهم على الحق وينفع بهم الإسلام والمسلمين،فهو سبحانه رب العالمين وولي الصالحين المتقين.

وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أبو عبد الله حمزة النايلي