أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


اقتضاء النهي الفساد
(عرض رأي ابن رجب)

قال ابن رجب: (من عمل عملا أصله مشروع وقربة، ثم أدخل فيه ما ليس بمشروع، أو أخل فيه بمشروع، فهذا مخالف أيضا للشريعة بقدر إخلاله بما أخل به، أو إدخاله ما أدخل فيه، وهل يكون عمله من أصله مردودا عليه أم لا؟ فهذا لا يطلق القول فيه برد ولا قبول، بل ينظر فيه: فإن كان ما أخل به من أجزاء العمل أو شروطه موجبا لبطلانه في الشريعة، فهذا عمله مردود عليه، وإن كان ما أخل به لا يوجب بطلان العمل، فهذا لا يقال: إن عمله مردود من أصله، بل هو ناقص) .

ما كان عن أمر خارج العبادة، كمن ستر عورته في الصلاة بثوب محرم، أو تؤضأ للصلاة بماء مغصوب، أو صلى في بقعة غصب، فأكثر الفقهاء على أنه ليس بمردود من أصله .

ويشبه هذا: الحج بمال حرام، وقريب من ذلك الذبح بآلة محرمة، أو ذبح من لا يجوز له الذبح، كالسارق، فأكثر العلماء قالوا: إنه تباح الذبيحة بذلك ومنهم من قال: هي محرمة.

ولهذا: فرَّق من فرق من العلماء بين أن يكون النهي لمعنى يختص بالعبادة فيبطلها، وبين أن لا يكون مختصا بها فلا يبطلها، فالصلاة بالنجاسة، أو بغير طهارة، أو بغير ستارة، أو إلى غير القبلة يبطلها، لاختصاص النهي بالصلاة بخلاف الصلاة في الغصب، ويشهد لهذا أن الصيام لا يبطله إلا ارتكاب ما نهي عنه فيه بخصوصه، وهو جنس الأكل والشرب والجماع، بخلاف ما نهي عنه الصائم، لا بخصوص الصيام، كالكذب والغيبة عند الجمهور، وكذلك الحج لا يبطله إلا ما نهي عنه في الإحرام، وهو الجماع، ولا يبطله ما لا يختص بالإحرام من المحرمات، كالقتل والسرقة وشرب الخمر، وكذلك الاعتكاف: إنما يبطل بما نهي عنه فيه بخصوصه، وهو الجماع، وإنما يبطل بالسكر عندنا وعند الأكثرين، لنهي السكران عن قربان المسجد ودخوله .

المعاملات كالعقود والفسوخ ونحوهما:

فما كان منها تغييرا للأوضاع الشرعية: كجعل حد الزنى عقوبة مالية، وما أشبه ذلك، فإنه مردود من أصله، لا ينتقل به الملك؛ لأن هذا غير معهود في أحكام الإسلام، ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذي سأله: إن ابني كان عسيفا على فلان، فزنى بامرأته، فافتديت، منه بمئة شاة وخادم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم -: ((المئة شاة والخادم رد عليك، وعلى ابنك جلد مئة، وتغريب عام)).

وما كان منها عقدا منهيا عنه في الشرع: إما لكون المعقود عليه ليس محلا للعقد، أو لفوات شرط فيه، أو لظلم يحصل به للمعقود معه أو عليه، أو لكون العقد يشغل عن ذكر الله الواجب عند تضايق وقته، أو غير ذلك، فهذا العقد: هل هو مردود بالكلية، لا ينتقل به الملك، أم لا؟ هذا الموضع قد اضطرب الناس فيه اضطرابا كثيرا، وذلك أنه ورد في بعض الصور أنه مردود لا يفيد الملك، وفي بعضها أنه يفيده، فحصل الاضطراب فيه بسبب ذلك.

والأقرب إن شاء الله تعالى أنه:
إن كان النهي عنه لحق لله عز وجل: فإنه لا يفيد الملك بالكلية: ونعني بكون الحق لله: أنه لا يسقط برضا المتعاقدين عليه (نكاح المحارم، نكاح المعتدة، النكاح بدون ولي، عقود الربا، بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام والكلب، وسائر ما نهي عن بيعه مما لا يجوز التراضي ببيعه).
إن كان النهي عنه لحق آدمي معين: بحيث يسقط برضاه به، فإنه يقف على رضاه به، فإن رضي لزم العقد، واستمر الملك، وإن لم يرض به فله الفسخ (إنكاح الولي من لا يجوز له إنكاحها إلا بإذنها بغير إذنها ).

فإن كان الذي يلحقه الضرر لا يعتبر رضاه بالكلية: كالزوجة والعبد في الطلاق والعتاق، فلا عبرة برضاه ولا بسخطه.

وإن كان النهي رفقا بالمنهي خاصة: لما يلحقه من المشقة، فخالف وارتكب المشقة، لم يبطل بذلك عمله .

وقد ذهب طائفة من العلماء: إلى أن من تصرف لغيره في ماله بغير إذنه، لم يكن تصرفه باطلا من أصله، بل يقف على إجازته، فإن أجازه جاز، وإن رده بطل، واستدلوا بحديث عروة بن الجعد في شرائه للنبي صلى الله عليه وسلم شاتين، وإنما كان أمره بشراء شاة واحدة، ثم باع إحداهما، وقبل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وخص ذلك الإمام أحمد في المشهور عنه بمن كان يتصرف لغيره في ماله بإذن إذا خالف الإذن.

ومنها: تصرف المريض في ماله كله: هل يقع باطلا من أصله أم يقف تصرفه في الثلثين على إجازة الورثة؟ فيه اختلاف مشهور للفقهاء .

وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع إليه: أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته، لا مال له غيرهم، فدعا بهم، فجزأهم ثلاثة أجزاء، فأعتق اثنين وأرق أربعة، وقال له قولا شديدا، ولعل الورثة لم يجيزوا عتق الجميع، والله أعلم .

ومنها: بيع المدلس ونحوه كالمصراة، وبيع النجش، وتلقي الركبان ونحو ذلك، وفي صحته كله اختلاف.
والصحيح: أنه يصح ويقف على إجازة من حصل له ظلم بذلك، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل مشتري المصراة بالخيار، وأنه جعل للركبان الخيار إذا هبطوا السوق، وهذا كله يدل على أنه غير مردود من أصله، وقد أورد على بعض من قال بالبطلان حديث المصراة، فلم يذكر عنه جوابا.

وأما بيع الحاضر للبادي: فمن صححه، جعله من هذا القبيل، ومن أبطله، جعل الحق فيه
لأهل البلد كلهم، وهم غير منحصرين، فلا يتصور إسقاط حقوقهم، فصار كحق الله عز وجل.
ومنها: لو باع رقيقا يحرم التفريق بينهم، وفرق بينهم كالأم وولدها، فهل يقع باطلا مردودا، أم يقف على رضاهم بذلك؟

ومنها: لو خص بعض أولاده بالعطية دون بعض، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بشير بن سعد لما خص ولده النعمان بالعطية أن يرده، ولم يدل ذلك على أنه لم ينتقل الملك بذلك إلى الولد، فإن هذه العطية تصح وتقع مراعاة، فإن سوى بين الأولاد في العطية، أو استرد ما أعطي الولد، جاز، وإن مات ولم يفعل شيئا من ذلك، فقيل تبطل، والجمهور على أنها لا تبطل، وهل للورثة الرجوع فيها أم لا؟ فيه قولان مشهوران .

ومنها الطلاق المنهي عنه، كالطلاق في زمن الحيض:
فإنه قد قيل: إنه قد نهي عنه لحق الزوج، حيث كان يخشى عليه أن يعقبه فيه الندم، ومن نهي عن شيء رفقا به، فلم ينته عنه، بل فعله وتجشم مشقته، فإنه لا يحكم ببطلان ما أتى به، كمن صام في المرض أو السفر، أو واصل في الصيام، أو أخرج ماله كله وجلس يتكفف الناس، أو صلى قائما مع تضرره بالقيام للمرض، أو اغتسل وهو يخشى على نفسه الضرر، أو التلف ولم يتيمم، أو صام الدهر، ولم يفطر، أو قام الليل ولم ينم، وكذلك إذا جمع الطلاق الثلاث على القول بتحريمه.

وقيل: إنما نهي عن طلاق الحائض، لحق المرأة لما فيه من الإضرار بها بتطويل العدة، ولو رضيت بذلك بأن سألته الطلاق بعوض في الحيض، فهل يزول بذلك تحريمه؟ فيه قولان مشهوران للعلماء، والمشهور من مذهبنا ومذهب الشافعي أنه يزول التحريم بذلك.

فإن قيل: إن التحريم فيه لحق الزوج خاصة، فإذا أقدم عليه، فقد أسقط حقه فسقط.
وإن علل: بأنه لحق المرأة، لم يمنع نفوذه ووقوعه أيضا، فإن رضا المرأة بالطلاق غير معتبر لوقوعه عند جميع المسلمين، لم يخالف فيه سوى شرذمة يسيرة من الروافض ونحوهم، كما أن رضا الرقيق بالعتق غير معتبر، ولو تضرر به، واستنكار ابن سيرين لرواية الثلاث يدل على أنه لم يعرف قائلا معتبرا يقول: إن الطلاق المحرم غير واقع، وإن هذا القول لا وجه له، قال الإمام أحمد في رواية أبي الحارث، وسئل عمن قال: لا يقع الطلاق المحرم؛ لأنه يخالف ما أمر به، فقال: هذا قول سوء رديء.

تلخيص رأي ابن رجب:
العبادات:
من عمل عملا أصله مشروع، ثم أدخل فيه ما ليس بمشروع، أو أخل فيه بمشروع، فهذا مخالف للشريعة بقدر إخلاله بما أخل به، أو إدخاله ما أدخل فيه، فهذا لا يطلق القول فيه برد ولا قبول، بل ينظر فيه: فإن كان ما أخل به من أجزاء العمل أو شروطه موجبا لبطلانه في الشريعة، فهذا عمله مردود عليه، وإلا لم يبطل وكان ناقصا، فإن كان عن أمر خارج العبادة (أن يكون النهي لمعنى لا يختص بالعبادة) فأكثر الفقهاء على أنه ليس بمردود من أصله .

المعاملات كالعقود والفسوخ ونحوهما:ما كان منها تغييرا للأوضاع الشرعية: كجعل حد الزنى عقوبة مالية، وما أشبه ذلك، فإنه مردود من أصله، لا ينتقل به الملك؛ لأن هذا غير معهود في أحكام الإسلام.

وما كان منها عقدا منهيا عنه في الشرع: فإن كان النهي عنه لحق لله: فإنه لا يفيد الملك بالكلية، ونعني بكون الحق لله: أنه لا يسقط برضا المتعاقدين عليه.
وإن كان النهي عنه لحق آدمي معين: بحيث يعتبر رضاه أو كان النهي رفقا به، فإنه لا يقتضي فساد المنهي عنه.

وخلاصة رأي ابن رجب:
العبادة: إن كان الإخلال في جزئها أو شرطها فإنه يقتضي الفساد وإلا لم يبطل.
المعاملة: النهي يقتضي الفساد إلا إن كان حقا لآدمي معين يعتبر رضاه أو كان رفقا به.