أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


بسم الله الرحمن الرحيم
ترقَّبُوا المُحلَّى يوم زِينَتِه بتعليقاتِي
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وبعد:
بين يَدَيْ الناشِر
فقد ظلَلْتُ سنوات أهاب العمل في «مُحلَّى أبي محمد ابن حزم»(1) طاوِيًا عنه كَشْحِي، مُعْرِضًا دونه بنفسي وفِكري، لا إعراض الجاهل بمقامه، الغافل بمنزلته وعظيم مكانه، ولكنه الإعراض المُتولِّد مِن هَيْبة الكتاب وجلالته في نفوس العارفين، والرهبة مِن التقحُّم بالجَوْس في حَرِيم مؤلفه رَوَّحَ اللهُ رُوحه بالوَرْد والرياحين.
وقد كان اسم الكتاب يجْرِي أمامي في مجالس بعض دور النشر؛ فأجدُني محصورَ الجَنان عن التفكير فيه، مُنْعَقِدَ اللسان عن التعلق بِقَوَادِمِه أو خَوَافِيه، خشية أن ينجذب ذلك الناشرُ إلى فكرة إخراج الكتاب عن دارِه في حُلَّة قَشِيبة، فيضعها بين يدَيَّ بادِيَ الرأي؛ راغبًا قيامي عليه بما يتفِق ومراد الناشر مِن أوصاف إخراجه التي لا يُمْكن الخروج عنها لديه (2).
بين يَدَيْ المُحلَّى.
إلى أن شاء الله أن تتعلق الفكرة بخاطر ذلك الناشر؛ فيَعْمِد إلى ذلك السائر العاثر ( لِحُسْن ظنِّه به في ذلك القِيام) ويَرْمِي بأعباء النهوض بهذا السفر العظيم بين كتفِيْه مرة واحدة! ولا يدري أن كاهِل مثلي يَنُوء بذلك العِبء الثقيل، ويَضِيق ذَرْعُه عن التخوُّض في غَمَرات هذا الأمر الجليل.
لا سيما وقد صرَّح لي أنه لن يستعين في إخراجه بأصل مخطوط، وأنه يكتفِي بنسخة الشيخ شاكر وما فيها مِن المنقوط والمضبوط.
فقلتُ في خاطري: لا بأس عليَّ إنْ لَوَيْتُ عِذَارِي عن هذا السبيل، وجَارَيْتُ ظِلَّ رَأْسي في التنكب عن جُمُوع هذا القبيل؛ لا سيما مع التعنُّت في إخراج الكتاب عن أصل ليس بالقديم، وأنا خبير بما اعترَى الجديد (المطبوع) مِن العِلَل وما يحتاجه مِن الإصلاح والتقويم.
وأبَيْتُ إلا مكاشفته بهذا، وقلت في نفْسي: فلْيَعرضه على سُوَاي، وليُغْرِ به مَن شاء إلا إيَّاي، وربما يطوف به على مَن لا يزال يزعم (وأجناسُه كُثُر) أنه رَبُّ المعارِف وهادِيها، ومُجِيبُ صارِخها ومُناديها، وَوُسْطَى سِلْكِها ومُدير فَلَكِها؛ ذلك الذي حاز مملكة العلوم بأسْرِها، وتَحَكَّم في طَيِّها ونَشْرها، وصار ينادِي بكونه: قُطْبَ مَدارِها، وجُهَيْنَةَ أخْبارِها، وسِرَّ اختيارها واخْتِبارها، ومُظْهِر مجْدِها وفَخارِها (3)!
النهضة بِتَوْشِية المحلَّى
ومع الأخْذ مع الناشر والرَّدّ، والهَجْر دون ذلك العمل والصَّدّ؛ بُلِيتُ بالنهضة بالكتاب وحْدِي، وأخبرني أنه حرامٌ على أحدٍ يَمَسَّه مِن بَعْدِي!
فاهتديْتُ إلى حيلة محمودة أتخلَّص بها من هذا العَوار وتلك التَبِعات؛ جرَّاء ما قد يكون بالنص من بعض أخطاء ويَسِِير تحريفات؛ وذلك بإقامة تعليقاتي عليه مقام الحاشية والتوْشِية لا التحقيق المُطْلَق (4).
فنشطْتُ لمناقشة المؤلف فيما يأتِي ويَذر مِن المسائل الفقهية، والقضايا الحديثية (5)، وتركْتُ أصل كلامه كما هو مسطورًا في الطبعة المُنِيريَّة، التي هي أقدم وأصح طبعاته مع تعليقاتها الشاكِرِيَّة المُنِيرية الجُزَيْرِيَّة.
على أني استدرَكْتُ من التحريفات في الأسانيد وأسماء الرجال، ما يَغْبِطُنا عليه كلُّ منُصِف عليه من ألوان المعرفة رداءٌ وسِرْبال.
ولا أكون مجازفًا إذا ادعيْتُ أنني كشفْتُ مِن أوهام مؤلفه (فيما يتعلق بأسماء النقلَة والخلْطِ بينهم) ما لَم تكتحِل به عَيْنٌ، ولَم يَطْرِف بمثله جَفْنٌ، وذلك في جميع طبعاته السابقة ولا أستثنِي!
وقد ارتأيْتُ أن أسوق هنا مَجامِعَ عَمَلِي في هذا الكتاب، ومَعاقِد تَطْرِيزي على أرْدَانِه بما آمَلُ به العَوْدَ على الراقِم بالأجر والثواب؛ طالبًا أن يَبلُغَ الله بنا، ويُرْهِصَ الخير لنا، ويجعل مرادنا بين يَدَيْنا، وينْشُر سحائب فضائله علينا ودوننا وحَواليْنا.

----- حاشية -------
(1) وما كنت قديمًا إلا مُغْرمًا بتَطْرِيز حاشية كبْرَى عليه؛ أحِلُّ بها مسائله ومُشْكلاتِه، وأنْقُضُ بها أقْفَالَه ومعْضِلاتِه، مُحقِّقا أحاديثه وآثارَه، مُجَلّي عَرائِس أبكارِه وكاشِفًا أنوارَه، وكنت وسَمْتُ هذه الحاشية بهذا الاسم المُبْتَكر: «ياقُوتُ البِحار، على شَوَاطِئ المُحَلَّى بالآثار»، وسيأتي الإشارة إليها في أواخر عملي بالكتاب.
(2) وهذه الأوصاف متعلقة بجملة من التعللات كلها عائدة إلى التقلل من الإنفاق على الكتاب قدْر الجهد! وما تكون حيلتي وقد ابتُلِيتُ بطوائف مِن الناشرين هذا مقدارهم مِن احترام كتب الأسْلاف! على أني لا أبيع معهم دِينِي، ولا آكُلُ دنيا دابرة بأخرى قائمة ولو قطعوا وَتِينِي، ولقد اتقيتُ الله ربي ما استطعتُ فيما آتي وأذَرُ مِن العمل على تراث الأجداد، وكم تركْتُ من المصنفات الكبار (مع شدة عَوَزِي إلى عائدِها المالِي ولا أزال) خشية أن لا أنهض بأقل ما يجب من المعروف إزاءها، أغنانا الله من فضْلِه، وكفانا التردد إلى أبواب أهل الجَشَع والنَّزَقِ بِمَنِّه وكرَمِه.
(3) وهذا الطِّراز قد وقفتُ عليه عند الناشر نفسه، ووقع لي مع بعضهم مواقف تَحْكي ما إليه أُشِير، وعوذًا بالله مِن التجنِّي على هذا وذاك مِن أفناء الناس، أو إلباسهم رِداءَ مقْتٍ لَمْ يكن لهم مِن الأساس، بل ما تكلمْتُ إلا بما علمْتُ، وما حكَمْتُ إلا بما شاهدتُ، وقد سكتُّ عن التعيين في هذا المقام، أمَّا عموم متعالِمَة الزمان، والباغين العبَث بكتب الأسلاف بالبغي والعدوان، فلا يخفى على العارف حالُهم، ولا يذهب دونه وَصْفُهم ورَسْمُهم.
(4) وهذه عادتي في أكثر الكتب التي خرَج عليها اسمي مرسومًا. متى عجَزْتُ عن الاستعانة بأصل من الكتاب معتمد؛ تنكَّبْتُ عن التحقيق (بمعناه القديم) إلى التعليق والمناقشة، ريثما يكون كلامي إلى الحواشي أشبه به من غيره.
(5) وسأُفْرِد موضوعين يكون أحدهما موسومًا بـ: «مُنْتَخبات فقهية من مقدمتي على المحلى لابن حزم». والثاني: «منتخبات حديثية من مقدمتي على المحلى لابن حزم». أضعهما للمدارسة بين الإخوان.