أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


(وقوع الطلاق في الحيض: إجماع قديم)
الخلاصة
 شكل البحث:
المحور الأول: الإجماع القديم: (إيرادا ومناقشة).
سنورد فيه بعون الله الإجماع المحكي في المسألة، ومرتبته، وما أورده الطاعنون في صحته، ثم ننتقل إلى محاولة استكشافية للبحث عن: "القول بعدم الوقوع":
أين نشأ؟ وكيف؟ ومتى اشتد عوده؟
المحور الثاني: القاعدة الأصولية (اقتضاء النهي الفساد):
محاولة نظم القاعدة الأصولية في اقتضاء النهي الفساد في مسار الإجماع، والإشارة إلى كيفية استفاد كل طرف منها في تقرير قوله أو الاحتراس له.
المحور الثالث: أسباب الوهم:
أوردت فيها سبعة أسباب ولَّدت القول بعدم وقوع الطلاق في الحيض.
المحور الرابع: إضافات:
ذكر بعض الأدلة وما فيها من إيراد ومناقشة.


أولا: قوة الإجماع:
من خلال الحكايات والأحوال التي سيقت في الإجماع، ومن خلال ما أورده المخالفون، نجد أن الإجماع المحكي في هذه المسألة من أقوى ما يحكى من الإجماع، وهو أقوى بكثير من الإجماعات التي يعتمد عليها كثير من المخالفين له هاهنا.
وتبرز قوة الإجماع في المظاهر التالية:
1) أنه إجماع قديم، وقد نص القاضي شريح، وهو من فقهاء التابعين: أنه هو الذي عليه الناس، وذلك في بعض المسائل المتفرعة عن القول بوقوع الطلاق في الحيض.
2) أن الإجماع في المسألة محكي عن فقهاء الأمصار، فهو قول فقهاء الحجاز، وفقهاء تهامة، وفقهاء اليمن، وفقهاء العراق، وفقهاء الشام، وفقهاء مصر، وهو أيضا قول أهل الحديث، وقول أهل الرأي.
3) أطبقت على تقريره كمسلَّمة فقهية: مدارس الفقهاء الأربعة: (الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة)، وعلى إثرهم مشى عامة أهل العلم، وترجمت به الأبواب.
4) أن هذا الإجماع ينسجم تماما مع الروايات الكثيرة المحكية عن الفقهاء المتقدمين (التابعين ومن كان في طبقتهم)، فإن المنقول عنهم بحسب اطلاعي هو إيقاع الطلاق في الحيض من غير إثارة أي إشارة إلى خلاف في المسألة، وإنما يوردون الخلاف في بعض فروع القول بوقوع الطلاق في الحيض، كاحتساب الحيضة التي وقع فيها الطلاق من العدة، وكمن يطلق في كل حيضة زمن عدتها، كيف يحتسب ذلك، ونحو ذلك من المسائل، وعلى أساس ذلك صيغت تراجم الأبواب في المصنفات، ومنها (مصنف عبد الرزاق، مصنف ابن أبي شيبة، صحيح البخاري).
ومن هؤلاء المنقول عنهم وقوع الطلاق في الحيض: أبو قلابة، وشريح، وطاووس، والزهري، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن خلاس، وإبراهيم النخعي، وعطاء بن أبي رباح، وجابر بن زيد، وخلاس بن عمرو، وابن سيرين، والثوري، والحسن البصري.
وهذه الآثار عنهم: هي فقط من مصنفي عبد الرزاق وابن أبي شيبة، من غير استقصاء.
وبه يتبين: وهم ما حكي عن بعض هؤلاء من القول بعدم الوقوع، وستأتي الإشارة إلى سببه.
5) أن ابن عمر الذي عرضت له القضية احتسب تلك التطليقة وأفتى بذلك وهو مما لا يدفع علمه بقصة عرضت له .
6) أن قصة ابن عمر -وهي دليل الباب - قد رواها عنه كثير من تلامذته، وحدثت فيها نقاشات مشهورة، تفيد في أكثرها وقوع طلاق الحيض، وأنها حسبت تطليقة، مع ذكر تعليل ذلك، ولم يثر أي خلاف بين الصحابة والتابعين بما يخالف المنقول عنه بما يدل على انتظامها في الإجماع المنضبط في المسألة.
7) أن الإجماع المحكي في المسألة، وحكاية الخلاف عن أهل الشذوذ والأهواء، قد قرره الخبراء المتخصصون في حكاية الإجماع والخلاف: (أبو عبيد، وابن نصر المروزي (أعلم الناس بالإجماع والخلاف)، وابن المنذر، والخطابي وابن عبد البر، والقطان، وابن قدامة، والنووي)، وغيرهم كثير، لا يحصون كثرة، فنقْل الإجماع متصل الوثاق بحكم المسألة، فلا يكاد يذكر أحد طرفا من المسالة إلا وحكى فيها الإجماع.
8) أن المسألة مما تعم بها البلوى، فإن الإنسان يطلق إذا غضب، وكون المرأة حائضا نسبته نحو 25% إذ هي تحيض سبعة أيام في الشهر، فاحتمال كونها حائضا عند طلاقها ¼، وقد ثارت المسألة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة ابن عمر رضي الله عنه، ثم في زمن الصحابة والتابعين، وهم على كلمة واحدة لا تختلف أن الطلاق يقع في الحيض، وإنما ثار الخلاف واشتهر في بعض فروع القول بطلاق الحائض، ثم دونت هذه المعلومة في كتب الفقهاء المذهبية وشروح الأحاديث، ولم ينتصر له أحد، ولا يعرف له قائل صريح، ثم يحوز الحق ويحرزه ابن حزم المتوفى في منتصف القرن الخامس، وابن تيمية في القرن الثامن؟ أين ظهور الحق وبيانه؟ وقد قال ابن رجب في مواضع من كتبه، أن هذه الأمة لا تزال ظاهرة بالحق وبالحجج والبينات، ويتعذر أن يخفى عنها الحق حقبا مديدة، ثم يظفر بها المتأخرون.


ما الجواب عن الخلاف المحكي في المسألة؟
أولا: الخلاف الثابت والمتحقق، هو خلاف متأخر جدا؛ فإن ابن حزم الظاهري المتوفى في منتصف القرن الخامس، هو أول من أظهر هذا القول ونصره وبالغ، وهذا يمكن الجزم به، فلا توجد كتابة بحسب ما اطلعت عليه تفيد الانتصار لهذا القول قبل ابن حزم، فهذا يدل على مدى ندرة هذا القول، وأنه لم يحظ حتى بعناية المتأخرين، أما ابن حزم فهو كعادته في التفرد، وعدم المبالاة بمخالفة الإجماع إذا صح عنده النص، إضافة إلى أن قوله في المسألة يندرج في القاعدة الأصولية التي أصَّلها في كتابه الإحكام من اقتضاء النهي فساد المنهي عنه مطلقا.
والمقصود أن خلاف ابن حزم في مثل هذه المسألة لا يضر، لتأخره وللمفارقة المنهجية بين مسلك الفقهاء وبين مسلكه في اعتبار الإجماع.
ثم لم يزل هذا القول خاملا، ليس له نصير ولا صاحب، حتى جاء ابن تيمية الحنبلي المتوفى في النصف الأول من الثامن، فانتصر له وأظهره.
فلك أن تتخيل قولا يخالف المدون في كتب فقهاء الإسلام بشتى مذاهبهم وخلاف المدون في الكتب التي اعتنت بأقوال المتقدمين كالمصنفات، ثم لا يذيع هذا القول ولا ينتشر إلى مرتين، مرة في منتصف القرن الخامس! ومرة في النصف الأول من القرن الثامن!
ومن هنا فقد عدَّ هذه المسألة: برهان الدين إبراهيم بن محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية من القسم الأول من المسائل التي قال بها شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو (ما يستغرب جدا فينسب إليه أنه خالف الإجماع لندور القائل به وخفائه على كثير من الناس، ولحكاية بعضهم الإجماع على خلافه).
ثم تابع ابن تيمية على قوله: ابن القيم، ثم ابن الوزير، ثم الصنعاني والشوكاني وصديق حسن خان، ثم أحمد شاكر وابن باز وابن عثيمين وجماعات كثيرة من المعاصرين.
- أما الخلاف القديم المحكي في المسألة فهو على وجوه:
الوجه الأول: نقل مجمل: فيحكون القول بعدم الوقوع عن بعض السلف، ويذكرون أسماءهم، ولم تحك رواياتهم، وعند الرجوع إلى بعض ما نقل عنهم يتبين أنهم من ضمن القائلين بوقوع الطلاق في الحيض.
وقد انتقد ابن تيمية نفسه في بعض المواضع مخالفة الإجماع بحكاية بعض الأقوال المجملة، وأنهم لا يسوقون الروايات عنهم لقصور علمهم، وهذا ما يرد عليه هاهنا شبرا بشبر وذراعا بذراع.
- الوجه الثاني: عبارة محتملة:
كالمنقول عن طاووس، بـ: (أنه كان لا يرى طلاقاً ما خالف وجه الطلاق ووجه العدة، وكان يقول: وجه الطلاق بأن يطلق طاهراً من غير جماع، وإذا استبان حملها) أخرجه ابن حزم في المحلى.
فهل يمكن لأحد أن يجيز لنفسه اعتبار مثل هذه الرواية المجملة المحتملة في خرق إجماع قديم ومحفوظ في المسألة؟ بل عن طاووس نفسه ما يفيد نصا وقوع الطلاق في الحيض!
الوجه الثالث: الفهم المعكوس للروايات الكثيرة عن السلف في عدم الاعتداد بالحيضة التي وقع فيها الطلاق، وعدم احتسابها في العدة، وقد يختصر بعضهم الفتوى أو النقل عنه: بأنه لم يعتد بها، فتوهم المتأخرون كابن حزم وابن تيمية ومن بعدهم، أنها تفيد عدم الاعتداد بوقوع الطلاق في الحيض.
والناظر في الروايات الكثيرة عنهم، وهي بالعشرات، يجزم بأن هذا هو مرادهم، فهذه المسألة كانت عندهم مثار خلاف، ويكثر فيها الاستفتاء، فمن المسلم عندهم وعند عامتهم أن الطلاق يقع في الحيض، فيسأل المستفتون وطلاب العلم، هل إذا طلق في الحيض، تحتسب هذه الحيضة وهي القرء، ضمن العدة التي حدها الشارع بثلاثة قروء؟ فكان أكثرهم يجيب بأنها لا تحتسب، وإنما تحتسب من الحيضة التي تليها.
ويؤكد صحة هذا الوهم أمران:
الأول: أن ابن حزم الظاهري، ساق هذه الروايات في معرض حكاية أقوال السلف في عدم وقوع الطلاق في الحيض.
الثاني: أن ابن تيمية ساق أقوال بعض هؤلاء ضمن القائلين بعدم وقوع الطلاق في الحيض.
والحقيقة: هي العكس، وأن هذه النقول عنهم تفيد ضمنا وقوع الطلاق في الحيض، وإنما لا تحتسب الحيضة التي وقع فيها الطلاق ضمن القروء الثلاثة التي حدها الشارع للمطلقة.
وهذا تجده في المنقول عن طاووس، وسعيد بن المسيب، وكذا خلاس بن عمرو، وغيرهم، ولذا فالأولى إدراج هؤلاء ضمن القائلين بوقوع الطلاق في الحيض بما يتفق مع الإجماع المحكي في المسألة لا بما يناقضه.
الوجه الرابع: خلاف أهل الأهواء:
فهذا القول حكاه الخلافيون عن الرافضة والخوارج، وقد سمى بعضهم: هشام بن الحكم، وإبراهيم ابن علية، الذي قال الشافعي في حقه: إبراهيم ضال، جلس في باب الضوال يضل الناس، وكان بمصر وله مسائل ينفرد بها، وكان من فقهاء المعتزلة، وقد غلط فيه من ظن أن المنقول عنه المسائل الشاذة أبوه وحاشاه، فإنه من كبار أهل السنة، هذا كلام الحافظ في الفتح.
وهذا يفسر قول الإمام أحمد في رواية أبي الحارث، عندما سئل عمن قال: (لا يقع الطلاق المحرم؛ لأنه يخالف ما أمر به، فقال: هذا قول سوء رديء) .
 الخلاصة:
- أجمع أهل العلم: على تحريم الطلاق في الحيض أو في طهر جامعها فيه.
- ذهب عامة أهل العلم: إلى أن الطلاق في الحيض يقع، وهذا مذهب الفقهاء الأربعة، وحكي فيه إجماعات كثيرة، وأن المخالف طائفة من أهل الأهواء.
- اختار عدم وقوع الطلاق ونصره: ابن حزم وابن تيمية وابن القيم وابن الوزير، والصنعاني، والشوكاني، وصديق حسن خان، وأحمد شاكر، وابن سعدي، وابن باز، وابن عثيمين.
حكي عن طائفة من أهل الأهواء كالخوارج والرافضة، وعن إبراهيم ابن علية، وهو معتزلي معروف بالشذوذ، وحكي كذلك عن طائفة من المتقدمين، ولم تنقل نصوصهم، أو أنها غير صريحة في المراد أو أنها غلط، أو أنها تفيد الوقوع لا عدم الوقوع.



 المحور الثاني: المسألة الأصولية:
من المسائل الشهيرة في أصول الفقه: هل النهي يقتضي فساد المنهي عنه؟ ومتى؟
المستفيد المباشر من القاعدة في مسألتنا: هو القائل بأن الطلاق لا يقع في الحيض؛ لأنه منهي عنه، والنهي يقتضي فساد المنهي، وفي تصحيحه تقرير للمفسدة، وفي إفساده إعدام لها، والله لا يصلح عمل المفسدين.
والمستفيد الأول: هم الظاهرية؛ إذ النهي عندهم يقتضي فساد المنهي عنه مطلقا.
المستفيد الثاني: ابن تيمية: إذ النهي عنده يقتضي الفساد، واستثنى صورة ما إذا كان النهي يتعلق بحق مخلوق يمكن تداركه.
ومن هنا ندرك تفسير قولهم في هذه المسألة، ومخالفتهم لعامة أهل العلم.
 أجوبة الجمهور عن القاعدة الأصولية:
الجواب الأول: أن الطلاق ليس من الأعمال التي يتقرب بها إلى الله عز وجل، كالصلاة والصيام، فيعتبر لوقوعه موافقة السنة، بل هو إزالة عصمة، وقطع ملك، فيها حق لآدمي فكيفما أوقعه على سنته أو على غير سنته وقع إلا أنه إن أوقعه على غير سنته أثم ولزمه ما أوقع منه.
الجواب الثاني: القياس على الظهار: فإنه منكر من القول وزور، وهو محرم بلا شك، وترتب أثره عليه وهو تحريم الزوجة إلى أن يكفر، فهكذا الطلاق البدعي محرم، ويترتب عليه أثره إلى أن يراجع، ولا فرق بينهما، وكذلك القذف محرم، وترتب عليه أثره من الحد، ورد الشهادة وغيرهما.
الجواب الثالث: أن النهي عن الطلاق في زمن الحيض أو في طهر جامعها فيه ليس لذات الطلاق، بل لأمر خارج موضوع الطلاق وماهيته، وهو حق آدمي معين:
إما لحق المرأة:
- لما فيه من الإضرار بتطويل العدة عليها؛ لأن الحيضة التي طلق فيها لا تحسب من عدتها، ولو رضيت بذلك بأن سألته الطلاق بعوض في الحيض، فهل يزول بذلك تحريمه؟ فيه قولان مشهوران للعلماء، والمشهور من مذهب الشافعي وأحمد أنه يزول التحريم بذلك
- أو لأنها ستكون مرتابة إذا كان الطلاق في طهر جامعها فيه، لا تدري أتعتد بالحمل أو بالأقراء.
وإما لحق الزوج: لئلا يندم على طلاقه لأن الرجل في العادة يبعد عن امرأته في زمن الحيض، كما أنه لا يأمن أن تكون حاملا، فيندم، ومن نهي عن شيء رفقا به، فلم ينته عنه، بل فعله وتجشم مشقته، فإنه لا يحكم ببطلان ما أتى به، كمن صام في المرض أو السفر، أو واصل في الصيام، أو أخرج ماله كله وجلس يتكفف الناس، أو صلى قائما مع تضرره بالقيام للمرض، أو اغتسل وهو يخشى على نفسه الضرر، أو التلف ولم يتيمم، أو صام الدهر، ولم يفطر، أو قام الليل ولم ينم.
فالتحريم فيه إن كان لحق الزوج خاصة: فإذا أقدم عليه، فقد أسقط حقه فسقط.
وإن علل بأنه لحق المرأة: لم يمنع نفوذه ووقوعه أيضا، فإن رضا المرأة بالطلاق غير معتبر لوقوعه عند جميع المسلمين، لم يخالف فيه سوى شرذمة يسيرة من الروافض ونحوهم، كما أن رضا الرقيق بالعتق غير معتبر، ولو تضرر به.
أيا كان: لحق الزوج أو الزوجة، فإنه يتبين أن زمن الطلاق ليس شرطا في صحة الطلاق؟ ولا ركن من أركانه.
الجواب الرابع: على التسليم بأن النهي عن الشيء مطلقا يقتضي الفساد فإنما يقتضي الفساد فيما إذا لم يدل دليل على عدم الفساد، وقد دل الدليل هنا على عدم الفساد وعلى وقوع الطلاق في الحيض أو في طهر جامعها فيه.
وأجاب ابن تيمية عل القياس على وقوع الظهار:
بأن ليس للظهار جهتان: جهة حل، وجهة حرمة، بل كله حرام، فإنه منكر من القول وزور، فلا يمكن أن ينقسم إلى حلال جائز، وحرام باطل، بل هو بمنزلة القذف من الأجنبي والردة، فإذا وجد لم يوجد إلا مع مفسدته، فلا يتصور أن يقال: منه حلال صحيح، وحرام باطل، بخلاف النكاح والطلاق والبيع، فالظهار نظير الأفعال المحرمة التي إذا وقعت قارنتها مفاسدها، فترتبت عليها أحكامها.
وإلحاق الطلاق بالنكاح والبيع والإجارة والعقود المنقسمة إلى حلال وحرام وصحيح وباطل - أولى.
ثانيا: نقد التفريق بين النهي عن الشيء لذاته أو لغيره:
أن تفريق هؤلاء بين ما كان النهي عائدا إلى ذاته أو عائدا إلى غيره، يلزم منه أن كل ما نهى الله عنه يكون صحيحا كالجمع بين المرأة وعمتها؛ فإنه إنما نهي عنه لئلا يفضي إلى قطيعة الرحم، قال عليه الصلاة والسلام: {لا تنكح المرأة على عمتها ولا خالتها؛ فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم} .
ثالثا: تناقض السلف وأئمة الفقهاء والجمهور:
ادعى ابن تيمية: تناقض السلف وأئمة الفقهاء والجمهور في المسألة لعدم وجاهة أجوبتهم عن قولهم بوقوع طلاق الحائض مع كونهم يسلمون أن النهي يقتضي الفساد، وهذا مما تسلط به عليهم من نازعوهم في أن النهي يقتضي الفساد واحتج بما سلموه له من الصور.
 تعليق:
قد تبين فيما سبق أن في المسألة إجماع قديم ومستقر ومحفوظ، وأن القول بعدم الوقوع لون من الشذوذ.
ولذا: فالمفترض أن تصاغ القاعدة الأصولية بما يتسق مع هذا الفرع الفقهي ونظائره، وهو ما فعله الجمهور،
فالقول الذي ينتظم مع البناء الطبيعي للمسألة، والذي يتواكب مع أقوال جمهور الفقهاء في المسائل، هو أن النهي إنما يقتضي الفساد إلى عاد إلى ما يؤثر في ماهيته (أركانه وشروطه)، لا ما عاد إلى أمر خارج عن موضوع العبادة أو العقد أو الإيقاع.
لا أن يترك: قول عامة أهل العلم، توهما بالتمسك بظاهر قاعدة أصولية، فيها نزاع من وجوه عديدة، وهي موضع جدل من شكلها إلى مضمونها.
بل يقال: إن قول عامة أهل العلم في وقوع الطلاق في الحيض، وفي الطلاق الثلاث، يؤكد خطأ حكاية ابن تيمية عن عامة العلماء من أئمة السلف أن النهي يقتضي الفساد سواء كان في العبادات أو في العقود والإيقاعات، وسواء كان في ذات المنهي أو لخارج عنه، ما لم يكن لحق مخلوق يمكن تداركه.
ويمكن أن يقال بطريقة أخرى: عامة الفقهاء يقولون بأن الطلاق يقع في زمن الحيض، جمهور الأصوليين يقولون إن النهي لا يقتضي فساد المنهي عنه إذا كانت الجهة منفكة، فادعاء انفكاك الجهة هنا وعدم الإفساد ينتظم فيه قول الأصوليين والفقهاء، وهو أقرب من ادعاء التناقض على عامة الأمة.
أما كيف كانت الجهة منفكة، فهذا موضع بحث للفقهاء، سبق ذكر مسالكهم في أجوبة الجمهور.
ولا يرد: ما أورده ابن تيمية من تحريم نكاح المرأة على عمتها أو على خالتها، وأن ذلك بنص الحديث لعلة قطع الأرحام، وهي خارج موضوع النهي، فيلزم من ذلك عدم الفساد، لأن هذه علة عامة لا يمكن زوالها، ومنتشرة لا يمكن ضبطها، ولهذا لا يرد على الصورة اليتيمة التي استثناها ابن تيمية والحنابلة من أن النهي إذا عاد لحق آدمي يمكن تداركه، وخوف حدوث النزاع مما لا يمكن تداركه.
وأيضا: فإن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، من المحرمات في النكاح التي لا تصح أصلا، وليست هي موضع للعقد، واستفادة الشرطية من آية التحريم: {حرمت عليكم أمهاتكم ....}، وما قاله النبي صلى الله عليه وسلم من تحريم الجمع فهو إضافة إلى هذه المحرمات، ولذا لم تكن هذه المسألة موضع جدل، وهذا يؤكد ضرورة النظر إلى القرائن، وأن القرائن تفيد البطلان أو الصحة، مهما قيل في اقتضاء النهي الفساد أو عدم اقتضائه.
وأيضا: فنظر الأصوليين والفقهاء في انفكاك الجهة، ليس إلى الحكمة التي شرع من أجلها النهي، وإنما إلى الوصف الذي ورد فيه النهي، هل هو من ذات العقد أو من خارجه، وهو هنا في موضوع عقد النكاح، ولذا فحتى الحنفية اعتبروا العين المبيعة من الماهية، فتكون ركنا في البيع، فإذا كان منهيا عنها لم يصح البيع، وكان باطلا، فلا يرد في مثل هذا الموضع قولهم بأن الفساد لا يقتضي إذا كان خارج الماهية كوصف لازم.
وأيضا: فالجمع بين الأختين، من العقود التي هي غير مشروعة أصلا، ومثل هذا مبتوت ببطلانه، وعدم إفادته الصحة بحال، وإنما يثور خلاف الفقهاء فيما إذا كان الخلل في وصف العقد لا في أصله.