أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم





وهو الذي انبرى محاميا عن موسى عليه السلام، ومرغبا فرعون وقومه في الاستجابة لدعوته، ومرهبا لهم من مخالفته والاعتداء عليه بالقتل، في بيان طويل وجدال قائم على الحجة والبرهان والعاطفة والرحمة.

فعندما سمع فرعون يستأذن ملأه-وليس استئذانه منهم إلا لخداعهم وإظهار أنه يرجع إليهم في الأمور المهمة-قائلا: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ (26) } وسمع موسى عليه السلام وهو يستعيذ بربه-الذي لا ملجأ له سواه-كما قال الله تعالى عنه: {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)..}

خرج ذلك الرجل المؤمن رضِي الله عنه من صمته وهو من آل فرعون-فدافع عن موسى ودعا فرعون وقومه إلى اتباعه والبعد عن إيذائه، كما قال تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا... (29).}

إلى هنا تظهر رحمة الرجل المؤمن بموسى عليه السلام، وبقومه إذا نفذوا وعيدهم في موسى، لما ينالهم على ذلك من عقاب عد الله، فأخذ يحذر قومه من قتله بسبب يقتضي مناصرته والاستجابة له، وهو أنه يقول ربي الله، ثم يفترض أنه إما أن يكون صادقا-وهذا هو الذي يعتقده هذا المحامي-وإما أن يكون كاذبا-حسب زعم فرعون وملئه فإن صدق فسيكون قتلهم له ومحاربة دعوته وبالا عليهم، وإن كذب فتركهم له لا يضرهم ويتحمل هو كذبه، وفي نصحه هذه رحمة بهم، ثم يظهر رحمته بهم بأنهم يحرزون الملك وهذا الملك لا يبقى مع الظلم بل سينزل بهم بأس الله فإذا نزل بهم فلا ناصر لهم، وفي هذا غاية النصح لهم والرحمة بهم.

قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ (31).[يخوفهم من عقاب الدنيا، وذلك رحمة بهم.] {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)}.[وفي هذا تحذير لهم من عقاب الآخرة، وهو رحمة بهم.] إلى قوله تعالى {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِي أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38)}.[وهذا يعارض قول فرعون: ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد.. كما سبق.]

{يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) } [الآيات من سورة غافر: 28-48.]

ما أصعب كلمة الحق أمام الطغاة الفراعنة، وكثيرا ما يكون أناس يؤمنون بالحق الذي يكفر به الطغاة الفراعنة، ويودون أن يؤمن به أولئك الطغاة الفراعنة من أهل الباطل وأتباعهم، ولكنهم لا يجرءون على الجهر بذلك فيؤمنون بالحق في أنفسهم ويكتمون ذلك الإيمان، خوفا من جبروت الطغاة الفراعنة وليس عليهم شئ في ذلك الكتمان اضطرارا.
ولكن الإيمان عندما يقوى والرحمة بالطغاة وأتباعهم عندما تشتد، وكذلك الرحمة بأهل الحق المهددين بالقتل والأذى، يأبى ذلك الإيمان أن يبقى في الصدور فيظهر في الأفعال والأقوال، وتتضاءل قوة الطغاة الفراعنة في نفوس المؤمنين الذين كانوا يكتمون إيمانهم، فيصدعون بالحق رحمة بالداعي المغلوب وبالمدعو المعاند، مسابقين أهل الباطل بحقهم إلى عقول الناس.

وهذا ما حصل من مؤمن آل فرعون رضِي الله عنه وأرضاه وأكثر في قصور الطغاة الفراعنة من أمثاله، وهكذا يكون أهل الحق رحماء فيما بينهم ورحماء بغيرهم، بخلاف أهل الباطل فالغالب فيهم أن تكون الرحمة منزوعة من قلوبهم، وبخاصة فيما يعارض مصالحهم-ولو كانت تلك المصالح ظلما صريحا-وبخاصة مع أهل الحق فإن الغلظة والقسوة تكون ملازمة لهم في معاملتهم.

وهذا الرجل المؤمن كما ذكر الله هو من آل فرعون، يبدو أنه من كبار قوم فرعون، الذين لا يشك فرعون في ولائه، وقد يكون من أقاربه، والله تعالى قد يوجد للطغاة في قصورهم من يقف ضد باطلهم مع الحق، كما حصل ذلك من امرأة فرعون التي ضرب الله بها مثلا للمرأة المؤمنة وهي زوج "فرعون!" والظاهر من سياق حواره مع فرعون، والنص على أنه يكتم إيمانه، أنه قد استجاب لدعوة موسى عليه السلام قبل تهديد فرعون بقتله، فلما علم بذلك التهديد، لم يستطع الاستمرار على كتمه إيمانه، لذلك أخذ في الدفاع عن موسى عليه السلام.

ويظهر من السياق أن للرجل منزلة في قوم فرعون، لأنه لو كان من طبقة ضعيفة لم يصبر فرعون على مجادلته، ألا ترى أن فرعون لم يزد في أول مجادلته للرجل عن قوله: {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)} وهي نص العبارة التي كررها المؤمن، متحديا فرعون: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِي أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38)}

وكذلك يظهر من السياق، أن فرعون وقومه فوجئوا بإيمان الرجل فحاولوا إثناءه عن ذلك الإيمان، وجادلوه ليرجع عن إيمانه، فحاورهم مقيما عليهم الحجة، كما قال تعالى عنه في ذلك: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42)}

كما يدل السياق، أنهم بعد أن بئسوا من رجوعه إلى الكفر بموسى، هددوه، فلجأ إلى ربه الذي آمن به، وفوض أمره إليه، فوقاه مما هددوه به، كما قال تعالى عنه: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45)} [غافر]

قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، رحمه الله {فَوَقاهُ الله}: "مؤذن بأنهم أضمروا مكراً به، وتسميته مكراً مؤذن بأنهم لم يُشعروه به، وأن الله تكفل بوقايته لأنه فوَّض أمره إليه، والمعنى: فأنجاه الله، فيجوز أن يكون نجا مع موسى وبني إسرائيل فخرج معهم، ويجوز أن يكون فرّ من فرعون ولم يعثروا عليه ." انتهى

قلت: ويجوز – أيضا – أن يكون – بعد نصر الله له – له بعض أقارب في الملأ من قوم فرعون، يحترمهم فرعون، ولم يرد إغضابهم، ويجوز أن الله تعالى صرف فرعون بقدرته وقوته، استجابة لتفويض الرجل المؤمن أمره إليه، والعبرة التي تبرز في موقف الرجل المؤمن، كونه اهتدى إلى الإيمان وكتمه، فلما تبين له العدوان الظالم من فرعون على موسى آثر الحق على الباطل، وبذل نفسه فداء للحق، فهو من المسابقين بالحق إلى عقول الناس، في أشد المواقف رعبا لقوة إيمانه.



أهل الحق يدعون أهل الباطل إلى الحق وينصحونهم بترك الباطل رحمة بهم، وأهل الباطل يحاربون أهل الحق وينابذونهم العداء، ويخرجونهم من ديارهم، ويفتنونهم في دينهم بالضرب والرجم والحبس والقتل، تجبرا عليهم وقهرا وإذلالا لهم وقسوة عليهم، والتاريخ البشري والقرآن العظيم والواقع المعاصر كلها تدل على ذلك.

ولو أردنا تتبع ذلك الظلم والقسوة والقهر التي تباين الرحمة وتنافيها، من القرآن الكريم وكتب السنة، والتاريخ والواقع المعاصر، لاحتاج ذلك منا إلى كتاب مستقل، فلنذكر نماذج من القرآن الكريم ونشير إلى شئ من الواقع للربط بين أهل الباطل في القديم والحديث.

سبق أن أهل الحق تلازمهم صفة الرحمة في أغلب الأوقات-هذا إذا كانوا من غير الأنبياء، وغير الأنبياء ليسوا بمعصومين، أما الأنبياء فلا تفارقهم سجية الرحمة، وأما أهل الباطل فالأصل أنهم غير رحماء، فإذا ما وجدت عند بعضهم بعض معاني الرحمة، فالغالب أنها تتعلق بتحقيق مصالح لهم، ومن مستلزمات القسوة عند أهل الباطل اعتداء القوي على الضعيف.

وإذا كان مؤمن آل فرعون له من الأقوياء فيهم، فإن رجلا مؤمنا آخر، من ضعاف القوم، فعل نفس ما فعله مؤمن آل فرعون، لقوة إيمانه كذلك، وقف مع الرسل الثلاثة، عندما وقف ضدهم أهل القرية، كما ذكر الله ذلك في سورة يس، ونا الشهادة من أعداء الله ورسله، تبين ذلك الآيات اتية:

{وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِي لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلْ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِينَ (27)} [يس]

فهذه نماذج تعتبر قدوة في نصر الحق والسباق به إلى عقول الناس ضد أهل الباطل، وفي تاريخ الأمة الإسلامية نماذج اقتدوا بتلك النماذج القدوة، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ومنهم في هذا العصر الشيخ عبد العزيز البدري العراقي، ومنهم الأستاذ عبد القادر عودة وإخوانه، ومنهم الشيخ أبو الأعلى المودودي، ومنهم الدكتور محمد ناصر الإندونيسي، ومنهم الشيخ غلام أعظم الذي ناله من الأذى الشيء الكثير، ولا زال حيا، وقد حكم عليه زعماء بنغلادش هذه الأيام بالسجن المؤبد، وقد بلغ التسعين... وغيرهم كثير.


وغير هؤلاء من الدعاة إلى الحق، ليسوا أنبياء، ولكنهم من أتباع الأنبياء، يظلمون من قبل من يحاربون الإسلام، ويهانون وتنتهك أعراضهم وأموالهم، ولا يجدون من يدافع عنهم ويرحمهم ويحامون عنهم كما وجد مؤمن آل فرعون من عائلة فرعون الجبار يقف أمامه مدافعا عن الحق وأهل الحق.، با يوجد من يدفعون الطغاة لقهرهم وتعذيبهم، بل وقتلهم، فإلى الله وحده المشتكى!