بــــوابة الزمــــن
من بريدي الألكتروني فأعجبني جدا وقمت بمراجعته
وآثرت نقله لكم عسى أن ينفعنا او نتخذه عبرة وعظة
عجباً لتلك البوابة ما أعظمها، ما أوسعها، ما أكبرها، إتسعت لملايين البشر على مر التاريخ، كل يدخل منها ويمضي، دخل منها آدم ونوح وموسى وعيسى ومحمد والأنبياء كلهم صلوات الله وسلامه عليهم، دخل منها الأغنياء والفقراء والكبراء والحقراء والرجال والنساء، اتسعت لملايين الأحداث، أمم تباد، ودول تشاد، حروب طاحنة، ونوازل ساخنة، يا لها وربي من بوابة، لم تضق يوماً بالموتى ولا بالمواليد والأفراح ولا بالأتراح، عجباً لها من بوابة قد أشرعت أبوابها يوم أن حط آدم قدميه على الأرض، وستغلق بإذن ربها يوم أن يأذن الله بخراب الدنيا وزوال العالم، نعم، إنها بوابة الزمن، تلج من بوابتها السنون تلو السنين، وها هو العام الخامس والعشرون بعد الأربعمائة والألف للهجرة قد رحل وتم تحويله، وها هو قد طوى بساطه وقوض خيامه وشد رحاله، كل الناس تغدوا، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها، يا الله العام الخامس والعشرون بعد الأربعمائة والألف قطعناه من أعمارنا، ومضى من حياتنا، أين ليله؟ أين نهاره؟ أين يومه وشهره؟ أين صيفه؟ أين شتاؤه أين أفراحه؟ أين أحزانه؟ أين أنفاسه؟ أين لحظاته؟ إنها بوابة الزمن، الزمن يدور، والأحوال تتغير، لا تقف لأحد، ولا تنتظر أحداً، ولا تجامل أحداً.
أدعوك يا عبدالله إلى تأمل الدنيا ومسيرك فيها، ولادةً وطفولة ثم شبابا وشيخوخة ثم المشيب والهرم، ثم ينتهي شريط الحياة لتخرج النفس من بوابة الزمن، مفضيةً إلى ربها، والله وبالله وتالله إن الزمان وتقلباته أنصح المؤدبين، وإن الدهر بقوارعه أفصح المتكلمين، وإن هذا كله يستدعي العاقل اللبيب أن يحاسب نفسه ويتفقدها، فما كان شقاء الأشقياء إلا أنهم كانوا لا يرجون حساباً، فوافتهم المنيه وهم في غمرة ساهون، لهذا كان لنا في هذا اليوم وقفة عند بوابة الزمن، نحاسب فيها أنفسنا، ونتفقد فيها أعمالنا، وننظر ما طوي من صحائفنا، فما أحوجنا لمحاسبة النفس، فالمحاسبة عند أهل العلم كما قال الماوردي رحمه الله: أن يتصفح الإنسان في ليله ما صدر من أفعال نهاره، فإن كان محموداً أمضاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه، وإن كان مذموماً استدركه إن أمكن وانتهى عن مثله في المستقبل، ومن فوائد محاسبة النفس الاطلاع على عيوبها ونقائصها، ومن ثم إعطائها مكانتها الحقيقية إن جنحت إلى الكبر والغرور، ولا شك أن معرفة العبد لقدر نفسه يورثه تذللاً للعزيز الجبار، فلا يستكثر عمله مهما عظم، ولا يحتقر ذنبه مهما صغر، قال أبو الدرداء رضي الله عنه: "لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله ثم يرجع إلى نفسه فيكون أشد لها مقتاً".
ومن فوائد محاسبة النفس أن يتعرف على حق الله سبحانه عليه وعظيم فضله وجزيل إحسانه وكثير إنعامه عليه، ويقارن ذلك بتفريطه في جنب الله جل وتقدس، فيصيح عندها داعي الإيمان في قلبه زاجراً لتلك النفس عن ذاك التفريط، وعندئذٍ يعلم أن النجاة لاتحصل إلا بعفو أكرم الأكرمين ورحمة أرحم الراحمين، ويتيقن أن حق الله سبحانه أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر.
ومن فوائدها أيضاً تزكية النفس وتطهيرها وإصلاحها وإلزامها أمر الله تبارك وتعالى، وهذه هي الثمرة الكبرى من محاسبة العبد نفسه، فزكاة النفس عليها مدار الفلاح والنجاة من عذاب الله {قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها} قال مالك بن دينار رحمه الله: "رحم الله عبداً قال لنفسه الست صاحبة كذا، الست صاحبة كذا، ثم ذمها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله تعالى، فكان لها قائداً".
هذا هو نداء أرحم الراحمين لإهل الإيمان بأن ينظروا فيما قدموه قبل أن يقدموا عليه سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللـه ولتنظر نفس ماقدمت لغد وإتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} يا الله حق للنفس أن تقف عند قوله: {ولتنظر نفس ماقدمت لغد}، وقفات ووقفات وقفات، تفتح فيها صفحة أعمالها، بل كل صفحات حياتها، تدقق النظر، وتمد البصر في سطورها، ياعبد الله ربك يقول: {ولتنظر نفس ما قدمت لغد}، فمتى هو الغد؟ الغد والذي لا إله غيره قريب، نعم قريب، {إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً}، قريب يا عبدالله الغد الذي ستحاسب فيه، قريب لا تدري متى هو، قد يكون هذا الغد في الصباح عندما تفضي نفسك إلى الله، عندما ترجع الروح إلى بارئها، عندما تموت، وقد يكون هذا الغد هذه الليلة، فقد لا ترى الشمس بعد اليوم، تحمل إلى قبرك، وتبدأ مرحلة الحساب معك، فهلا في ذلك تفكرت؟
وهلا إلى ذلك نظرت وتبصرت؟ وها هو العظيم سبحانه يقسم، والعظيم سبحانه لا يقسم إلا على عظيم، فيقول سبحانه: {لا أقسم بيوم القيامة، ولا أقسم بالنفس اللوامة} يقسم على النفس اللوامة، قال الحسن عند هذه الآية: "لا يلقى المؤمن إلا يعاتب نفسه، والفاجر يمضي قدماً لا يعاتب نفسه".
وها هي صفة عظيمه من صفات المتقين، إنهم حتى وإن خطت أقدامهم للحرام، وامتدت أياديهم للآثام، إلا أنهم رجاعون لذي الجلال والإكرام، أو آيبون للملك العلام، يحاسبون النفس، ويستحضرون عظمة من عصوا، {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا اللــه فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله، ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون}.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله)، قال الترمذي: "معنى قوله دان نفسه، أي حاسب نفسه في الدنيا فبل أن يحاسب يوم القيامة"، ولله قول فاروق الأمة عمر رضي الله عنه: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبو، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، وتزينوا للعرض الأكبر"، {يومئذٍ تعرضون لا تخفى منكم خافية}، فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خف في يوم القيامة حسابه، وحضر عند السؤال جوابه، وحسن منقلبه ومآبه، ومن لم يحاسب نفسه دامت حسراته، وطالت في عرصات القيامة وقفاته، وقادته إلى المقت والخزي سيئاته.
أحبتي، إذا أصبح العبد وفرغ من فريضة الصبح أي الفجر ينبغي له أن يفرغ قلبه ساعة لمحاسبة النفس، فيقول للنفس ما لي بضاعة إلا العمر، ومتى فني فقد فني رأس المال، وهذا اليوم الجديد قد أمهلني الله فيه، ولو توفاني لكنت أتمنى أن يرجعني إلى الدنيا يوماً واحداً حتى أعمل صالحاً، فاحسبي يا نفس أنك قد توفيت ثم رددت، فإياك ثم إياك أن تضيعي هذا اليوم، فإن كل نفس من الأنفاس جوهرة، فيجب علينا أن نستغل أوقاتنا في طاعة الله، ونحاسب أنفسنا على التقصير في جنب الله، والله الموفق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
