-
( و ) زادت المصيبة ، بأن ( غلقت الأبواب ) وصار
المحل خالياً ، وهما آمنان من دخول أحد عليهما،
بسبب تغليق الأبواب ، وقد دعته إلى نفسها
( وقالت : هيت لك ) أي افعل الأمر المكروه وأقبل
إلي ، ومع هذا ، فهو غريب ، لا يحتشم مثله
مايحتشمه إذا كان في وطنه وبين معارفه ، وهو
أسير تحت يدها ، وهي سيدته ، وفيها من الجمال
ما يدعو إلى ما هنالك ، وهو شاب عزب ، وقد توعدته
، إن لم يفعل ما تأمره به بالسجن ، أو بالعذاب الأليم .
-
فصبر عن معصية الله ، مع وجود الداعي القوي فيه
لأنه قد هم فيها هماً تركه لله ، وقدم مراد الله على
مراد النفس الأمارة بالسوء ، ورأى من برهان ربه
ـ وهو ما معه من العلم والإيمان ـ ، الموجب لترك كل
ما حرم الله ـ ما أوجب له البعد والانكفاف ، عن هذه
المعصية الكبيرة ، و ( قال : معاذ الله ) أي : أعوذ بالله
أن أفعل هذا الفعل القبيح ، لأنه مما يسخط الله
ويبعد منه ، ولأنه خيانة في حق سيدي الذي
أكرم مثواي .
-
فلا يليق بي أن أقابله في أهله بأقبح مقابلة
وهذا من أعظم الظلم
والظالم لا يفلح
والحاصل أنه جعل الموانع له من هذا الفعل تقوى
الله ، ومراعاة حق سيده الذي أكرمه ، وصيانة نفسه
من الظلم الذي لا يفلح من تعاطاه .
وكذلك مامن الله عليه من برهان الإيمان الذي في
قلبه ، يقتضي منه امتثال الأوامر ، واجتناب الزواجر
والجامع لذلك كله أن الله صرف عنه السوء والفحشاء
لأنه من عباده المخلصين له في عباداتهم ، الذين
أخلصهم الله واختارهم ، واختصهم لنفسه ، وأسدى
عليهم من النعم ، وصرف عنهم من المكاره ما كانوا
به من خيار خلقه .
-
ولما امتنع من إجابة طلبها بعد المراودة الشديدة
ذهب ليهرب عنها ويبادر إلى الخروج من الباب
ليتخلص ، ويهرب من الفتنة
فبادرته إليه ، وتعلقت بثوبه
فشقت قميصه
فلما وصلا إلى الباب في تلك الحال
ألفيا سيدها ، أي زوجها لدى الباب
فرأى أمراً شق عليه
فبادرت إلى الكذب
أن المراودة قد كانت من يوسف
وقالت : ( ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً )
ولم تقل (( من فعل بأهلك سوءاً ))
تبرئة لها وتبرئة له أيضاً من الفعل
-
وإنما النزاع عند الإرادة والمراودة ، ( إلا أن يسجن
أو عذاب أليم ) أي : أو يعذب عذاباً أليماً .
-
فبرأ نفسه مما رمته به ، وقال : ( هي راودتني عن
نفسي )
فحينئذ احتملت الحال صدق كل واحد منهما ولم
يعلم أيهما .
-
ولكن الله تعالى جعل للحق والصدق علامات
وأمارات تدل عليه ، قد يعلمها العباد وقد لا يعلمونها
فمن الله في هذه القضية بمعرفة الصادق منهما
تبرئة لنبيه وصفيه يوسف عليه السلام
فانبعث شاهد من أهل بيتها ، يشهد بقرينة من
وجدت معه فهو الصادق فقال : ( إن كان قميصه
قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين ))
لأن ذلك يدل على أنه هو المقبل عليها
المراود لها المعالج
وأنها أرادت أن تدفعه عنها
فشقت قميصه من هذا الجانب .
-
( وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من
الصادقين )
لأن ذلك يدل على هروبه منها ، وأنها هي التي طلبته
فشقت قميصه من هذا الجانب
( فلما رأى قميصه قد من دبر )
عرف بذلك صدق يوسف وبراءته وأنها هي الكاذبة .
-
فقال لها سيدها : ( إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم )
وهل أعظم من هذا الكيد الذي برأت به نفسها مما
أرادت وفعلت ورمت به نبي الله يوسف عليه السلام
-
ثم إن سيدها لما تحقق الأمر قال ليوسف :
( يوسف أعرض عن هذا )
أي : اترك الكلام فيه وتناسه ولا تذكره لأحد ، طلباً
للستر على أهله ،
( واستغفري )
أيتها المرأة
( لذنبك إنك كنت من الخاطئين )
فأمر يوسف بالإعراض
وهي بالاستغفار والتوبة .
-
( 30 ـ 35 )( وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز
تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حباً إنا لنراها
في ضلال مبين * فلما سمعت بمكرهن أرسلت
إليهن وأعتدت لهن متكئاً وأتت كل واحدة منهن سكيناً
وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن
وقلن حاش لله ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم *
قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه
فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكوناً من
الصاغرين * قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني
إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من
الجاهلين * فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن
إنه هو السميع العليم * ثم بدا لهم من بعد ما رأوا
الآيات ليسجننه حتى حين )
-
يعني : أن الخبر اشتهر وشاع في البلد وتحدث به
النسوة فجعلن يلمنها ويقلن : ( امرأة العزيز تراود
فتاها عن نفسه قد شغفها حباً )
أي : هذا أمر مستقبح ، هي امرأة كبيرة القدر
وزوجها كبير القدر
ومع هذا لم تزل تراود فتاها الذي تحت يدها
وفي خدمتها عن نفسه
وعم هذا فإن حبه قد بلغ من قلبها
مبلغاً عظيماً
-
( قد شغفها حباً )
أي : وصل حبه إلى شغاف قلبها وهو باطنه
وسويداؤه ، وهذا أعظم ما يكون من الحب .
-
( إنا لنراها في ضلال مبين )
حيث وجدت منها هذه الحالة التي لا تنبغي منها
وهي حالة تحط قدرها وتضعه عند الناس
وكان هذا القول منهن مكراً
ليس المقصود به مجرد اللوم لها والقدح فيها
وإنما أردن أن يتوصلن بهذا الكلام إلى رؤية يوسف
الذي فتنت به امرأة العزيز لتحنق امرأة العزيز وتريهن
إياه ليعذرنها ولهذا سماه مكراً
فقال : ( فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن )
تدعوهن إلى منزلها للضيافة
-
( وأعتدت لهن متكئاً )
أي : محلاً مهيأ بأنواع الفرش والوسائد ، وما يقصد
بذلك من المآكل اللذيذة ، وكان في جملة ما أتت به
وأحضرته في تلك الضيافة طعام يحتاج إلى سكين
إما أترج أو غيره ( وأتت كل واحدة منهن سكيناً )
ليقطعن فيها ذلك الطعام ( وقالت ) ليوسف :( اخرج
عليهن ) في حالة جماله وبهائه .