قلت : لا بد من كشف هذه المسألة وذكر اختلاف الناس فيها واحتجاج كل فريق وما لهم وعليهم في احتجاجهم وذكر الصواب في ذلك بحول الله تبارك وتعالى ومعونته فقالت طائفة تكره قراءة الألحان وممن نص على ذلك أحمد ومالك وغيرهما فقال أحمد في رواية علي بن سعيد في قراءة الألحان ما تعجبني وهو محدث . وقال في رواية المروزي : القراءة بالألحان بدعة لا تسمع وقال في رواية عبد الرحمن المتطبب : قراءة الألحان بدعة وقال في رواية ابنه عبد الله ويوسف بن موسى ويعقوب بن بختان والأثرم وإبراهيم بن الحارث : القراءة بالألحان لا تعجبني إلا أن يكون ذلك حزنا فيقرأ بحزن مثل صوت أبي موسى وقال في رواية صالح
http://sirah.al-islam.com/media/h2.gif زينوا القرآن بأصواتكم
http://sirah.al-islam.com/media/h1.gif معناه أن يحسنه وقال في رواية المروزي :
http://sirah.al-islam.com/media/h2.gif ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي حسن الصوت أن يتغنى بالقرآن
http://sirah.al-islam.com/media/h1.gif وفي رواية قوله
http://sirah.al-islam.com/media/h2.gif ليس منا من لم يتغن بالقرآن
http://sirah.al-islam.com/media/h1.gif فقال كان ابن عيينة يقول يستغني به . وقال الشافعي : يرفع صوته وذكر له حديث معاوية بن قرة في قصة قراءة سورة الفتح والترجيع فيها فأنكر أبو عبد الله أن يكون على معنى الألحان وأنكر الأحاديث التي يحتج بها في الرخصة في الألحان .
وروى ابن القاسم عن مالك أنه سئل عن الألحان في الصلاة فقال لا تعجبني وقال إنما هو غناء يتغنون به ليأخذوا عليه الدراهم وممن رويت عنه الكراهة أنس بن مالك وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والقاسم بن محمد والحسن وابن سيرين وإبراهيم النخعي . وقال عبد الله بن يزيد العكبري : سمعت رجلا يسأل أحمد ما تقول في القراءة بالألحان ؟ فقال ما اسمك ؟ قال محمد قال أيسرك أن يقال لك : يا موحمد ممدودا قال القاضي أبو يعلى : هذه مبالغة في الكراهة . وقال الحسن بن عبد العزيز الجروي : أوصى إلي رجل بوصية وكان فيما خلف جارية تقرأ بالألحان وكانت أكثر تركته أو عامتها فسألت أحمد بن حنبل والحارث بن مسكين وأبا عبيد كيف أبيعها ؟ فقالوا : بعها ساذجة فأخبرتهم بما في بيعها من النقصان فقالوا : بعها ساذجة قال القاضي : وإنما قالوا ذلك لأن سماع ذلك منها مكروه فلا يجوز أن يعاوض عليه كالغناء .
قال ابن بطال : وقالت طائفة التغني بالقرآن هو تحسين الصوت به والترجيع بقراءته قال والتغني بما شاء من الأصوات واللحون هو قول ابن المبارك والنضر بن شميل قال وممن أجاز الألحان في القرآن ذكر الطبري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقول لأبي موسى :
http://sirah.al-islam.com/media/h2.gif ذكرنا ربنا فيقرأ أبو موسى ويتلاحن وقال من استطاع أن يتغنى بالقرآن غناء أبي موسى فليفعل
http://sirah.al-islam.com/media/h1.gif وكان عقبة بن عامر من أحسن الناس صوتا بالقرآن فقال له عمر :
http://sirah.al-islam.com/media/h2.gif اعرض علي سورة كذا فعرض عليه فبكى عمر وقال ما كنت أظن أنها نزلت
http://sirah.al-islam.com/media/h1.gif قال وأجازه ابن عباس وابن مسعود وروي عن عطاء بن أبي رباح قال وكان عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد يتتبع الصوت الحسن في المساجد في شهر رمضان . وذكر الطحاوي عن أبي حنيفة وأصحابه أنهم كانوا يستمعون القرآن بالألحان . وقال محمد بن عبد الحكم : رأيت أبي والشافعي ويوسف بن عمر يستمعون القرآن بالألحان وهذا اختيار ابن جرير الطبري .
قال المجوزون - واللفظ لابن جرير - الدليل على أن معنى الحديث تحسين الصوت والغناء المعقول الذي هو تحزين القارئ سامع قراءته كما أن الغناء بالشعر هو الغناء المعقول الذي يطرب سامعه - ما روى سفيان عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
http://sirah.al-islam.com/media/h2.gif ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الترنم بالقرآن
http://sirah.al-islam.com/media/h1.gif ومعقول عند ذوي الحجا أن الترنم لا يكون إلا بالصوت إذا حسنه المترنم وطرب به . وروي في هذا الحديث
http://sirah.al-islam.com/media/h2.gif ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به
http://sirah.al-islam.com/media/h1.gif قال الطبري : وهذا الحديث من أبين البيان أن ذلك كما قلنا قال ولو كان كما قال ابن عيينة يعني : يستغني به عن غيره لم يكن لذكر حسن الصوت والجهر به معنى والمعروف في كلام العرب أن التغني إنما هو الغناء الذي هو حسن الصوت بالترجيع قال الشاعر
تغن بالشعر إما كنت قائله قال وأما ادعاء الزاعم أن تغنيت بمعنى استغنيت فاش في كلام العرب فلم نعلم أحدا قال به من أهل العلم بكلام العرب .
وأما احتجاجه لتصحيح قوله بقول الأعشى :
وكنت امرءا زمنا بالعراق الصفحة الرئيسة >
السيرة >
زاد المعاد > الجزء الأول
http://sirah.al-islam.com/Images/spr1.gif
قال أبو الحسن بن بطال : وقد وقع الإشكال في هذه المسألة أيضا بما رواه ابن أبي شيبة حدثنا زيد بن الحباب قال حدثني موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
http://sirah.al-islam.com/media/h2.gif تعلموا القرآن وتغنوا به واكتبوه فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفصيا من المخاض من العقل
http://sirah.al-islam.com/media/h1.gif قال وذكر عمر بن شبة قال ذكر لأبي عاصم النبيل تأويل ابن عيينة في قوله
http://sirah.al-islam.com/media/h2.gif يتغنى بالقرآن
http://sirah.al-islam.com/media/h1.gif يستغني به فقال لم يصنع ابن عيينة شيئا حدثنا ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير قال كانت ل داود نبي الله صلى الله عليه وسلم معزفة يتغنى عليها يبكي ويبكي . وقال ابن عباس : إنه كان يقرأ الزبور بسبعين لحنا تكون فيهن ويقرأ قراءة يطرب منها الجموع .
وسئل الشافعي رحمه الله عن تأويل ابن عيينة فقال نحن أعلم بهذا لو أراد به الاستغناء لقال " من لم يستغن بالقرآن " ولكن لما قال
http://sirah.al-islam.com/media/h2.gif يتغنى بالقرآن
http://sirah.al-islam.com/media/h1.gif علمنا أنه أراد به التغني .
قالوا : ولأن تزيينه وتحسين الصوت به والتطريب بقراءته أوقع في النفوس وأدعى إلى الاستماع والإصغاء إليه ففيه تنفيذ للفظه إلى الأسماع ومعانيه إلى القلوب وذلك عون على المقصود وهو بمنزلة الحلاوة التي تجعل في الدواء لتنفذه إلى موضع الداء وبمنزلة الأفاويه والطيب الذي يجعل في الطعام لتكون الطبيعة أدعى له قبولا وبمنزلة الطيب والتحلي وتجمل المرأة لبعلها ليكون أدعى إلى مقاصد النكاح . قالوا : ولا بد للنفس من طرب واشتياق إلى الغناء فعوضت عن طرب الغناء بطرب القرآن كما عوضت عن كل محرم ومكروه بما هو خير لها منه وكما عوضت عن الاستقسام بالأزلام بالاستخارة التي هي محض التوحيد والتوكل وعن السفاح بالنكاح وعن القمار بالمراهنة بالنصال وسباق الخيل وعن السماع الشيطاني بالسماع الرحماني القرآني ونظائره كثيرة جدا .
قالوا : والمحرم لا بد أن يشتمل على مفسدة راجحة أو خالصة وقراءة التطريب والألحان لا تتضمن شيئا من ذلك فإنها لا تخرج الكلام عن وضعه ولا تحول بين السامع وبين فهمه ولو كانت متضمنة لزيادة الحروف كما ظن المانع منها لأخرجت الكلمة عن موضعها وحالت بين السامع وبين فهمها ولم يدر ما معناها والواقع بخلاف ذلك .
قالوا : وهذا التطريب والتلحين أمر راجع إلى كيفية الأداء وتارة يكون سليقة وطبيعة وتارة يكون تكلفا وتعملا وكيفيات الأداء لا تخرج الكلام عن وضع مفرداته بل هي صفات لصوت المؤدي جارية مجرى ترقيقه وتفخيمه وإمالته وجارية مجرى مدود القراء الطويلة والمتوسطة لكن تلك الكيفيات متعلقة بالحروف وكيفيات الألحان والتطريب متعلقة بالأصوات والآثار في هذه الكيفيات لا يمكن نقلها بخلاف كيفيات أداء الحروف فلهذا نقلت تلك بألفاظها ولم يمكن نقل هذه بألفاظها بل نقل منها ما أمكن نقله كترجيع النبي صلى الله عليه وسلم في سورة الفتح بقوله " آ آ آ " . قالوا : والتطريب والتلحين راجع إلى أمرين مد وترجيع وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يمد صوته بالقراءة يمد " الرحمن " ويمد " الرحيم " وثبت عنه الترجيع كما تقدم .
قال المانعون من ذلك الحجة لنا من وجوه . أحدها : ما رواه حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم
http://sirah.al-islam.com/media/h2.gif اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل الكتاب والفسق فإنه سيجيء من بعدي أقوام يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والنوح لا يجاوز حناجرهم مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم
http://sirah.al-islam.com/media/h1.gif رواه أبو الحسن رزين في " تجريد الصحاح " ورواه أبو عبد الله الحكيم الترمذي في " نوادر الأصول " . واحتج به القاضي أبو يعلى في " الجامع " واحتج معه بحديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم ذكر شرائط الساعة وذكر أشياء منها :
http://sirah.al-islam.com/media/h2.gif أن يتخذ القرآن مزامير يقدمون أحدهم ليس بأقرئهم ولا أفضلهم ما يقدمونه إلا ليغنيهم غناء
http://sirah.al-islam.com/media/h1.gif
قالوا : وقد
http://sirah.al-islam.com/media/h2.gif جاء زياد النهدي إلى أنس رضي الله عنه مع القراء فقيل له اقرأ فرفع صوته وطرب وكان رفيع الصوت فكشف أنس عن وجهه وكان على وجهه خرقة سوداء وقال يا هذا ما هكذا كانوا يفعلون وكان إذا رأى شيئا ينكره رفع الخرقة عن وجهه
http://sirah.al-islam.com/media/h1.gif
قالوا : وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم المؤذن المطرب في أذانه من التطريب كما روى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذن يطرب فقال النبي صلى الله عليه وسلم
http://sirah.al-islam.com/media/h2.gif إن الأذان سهل سمح فإن كان أذانك سهلا سمحا وإلا فلا تؤذن
http://sirah.al-islam.com/media/h1.gif رواه الدارقطني .
وروى عبد الغني بن سعيد الحافظ من حديث قتادة عن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه قال كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم المد ليس فيها ترجيع . قالوا : والترجيع والتطريب يتضمن همز ما ليس بمهموز ومد ما ليس بممدود وترجيع الألف الواحد ألفات والواو واوات والياء ياءات فيؤدي ذلك إلى زيادة في القرآن وذلك غير جائز قالوا : ولا حد لما يجوز من ذلك وما لا يجوز منه فإن حد بحد معين كان تحكما في كتاب الله تعالى ودينه وإن لم يحد بحد أفضى إلى أن يطلق لفاعله ترديد الأصوات وكثرة الترجيعات والتنويع في أصناف الإيقاعات والألحان المشبهة للغناء كما يفعل أهل الغناء بالأبيات وكما يفعله كثير من القراء أمام الجنائز ويفعله كثير من قراء الأصوات مما يتضمن تغيير كتاب الله والغناء به على نحو ألحان الشعر والغناء ويوقعون الإيقاعات عليه مثل الغناء سواء اجتراء على الله وكتابه وتلاعبا بالقرآن وركونا إلى تزيين الشيطان ولا يجيز ذلك أحد من علماء الإسلام ومعلوم أن التطريب والتلحين ذريعة مفضية إلى هذا إفضاء قريبا فالمنع منه كالمنع من الذرائع الموصلة إلى الحرام فهذا نهاية إقدام الفريقين ومنتهى احتجاج الطائفتين .
وفصل النزاع أن يقال التطريب والتغني على وجهين أحدهما : ما اقتضته الطبيعة وسمحت به من غير تكلف ولا تمرين ولا تعليم بل إذا خلي وطبعه واسترسلت طبيعته جاءت بذلك التطريب والتلحين فذلك جائز وإن أعان طبيعته بفضل تزيين وتحسين كما قال أبو موسى الأشعري للنبي صلى الله عليه وسلم
http://sirah.al-islam.com/media/h2.gif لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا
http://sirah.al-islam.com/media/h1.gif والحزين ومن هاجه الطرب والحب والشوق لا يملك من نفسه دفع التحزين والتطريب في القراءة ولكن النفوس تقبله وتستحليه لموافقته الطبع وعدم التكلف والتصنع فيه فهو مطبوع لا متطبع وكلف لا متكلف فهذا هو الذي كان السلف يفعلونه ويستمعونه وهو التغني الممدوح المحمود وهو الذي يتأثر به التالي والسامع وعلى هذا الوجه تحمل أدلة أرباب هذا القول كلها .
الوجه الثاني : ما كان من ذلك صناعة من الصنائع وليس في الطبع السماحة به بل لا يحصل إلا بتكلف وتصنع وتمرن كما يتعلم أصوات الغناء بأنواع الألحان البسيطة والمركبة على إيقاعات مخصوصة وأوزان مخترعة لا تحصل إلا بالتعلم والتكلف فهذه هي التي كرهها السلف وعابوها وذموها ومنعوا القراءة بها وأنكروا على من قرأ بها وأدلة أرباب هذا القول إنما تتناول هذا الوجه وبهذا التفصيل يزول الاشتباه ويتبين الصواب من غيره وكل من له علم بأحوال السلف يعلم قطعا أنهم برآء من القراءة بألحان الموسيقى المتكلفة التي هي إيقاعات وحركات موزونة معدودة محدودة وأنهم أتقى لله من أن يقرءوا بها ويسوغوها ويعلم قطعا أنهم كانوا يقرءون بالتحزين والتطريب ويحسنون أصواتهم بالقرآن ويقرءونه بشجى تارة وبطرب تارة وبشوق تارة وهذا أمر مركوز في الطباع تقاضيه ولم ينه عنه الشارع مع شدة تقاضي الطباع له بل أرشد إليه وندب إليه وأخبر عن استماع الله لمن قرأ به وقال
http://sirah.al-islam.com/media/h2.gif ليس منا من لم يتغن بالقرآن
http://sirah.al-islam.com/media/h1.gif وفيه وجهان أحدهما : أنه إخبار بالواقع الذي كلنا نفعله والثاني : أنه نفي لهدي من لم يفعله عن هديه وطريقته صلى الله عليه وسلم .
http://sirah.al-islam.com/media/prev.gif
http://sirah.al-islam.com/media/next.gif