تفسير بعض آيات من سورة المزمل
من كتاب تيسير الكريم الرحمن
في تفسير كلام المنان
تأليف العلامة الشيخ
عبدالرحمن بن ناصر السعدي
المزمل : المتغطي بثيابه كا لمدثر وهذا الوصف حصل من رسول الله صلى الله عليه وسلم
حين أكرمه الله برسالته وابتدأه بإنزال { وحيه
بإرسال } جبريل إليه فرأى أمراً لم ير مثله ولا يقدر
على الثبات له إلا المرسلون فاعتراه في ابتداء ذلك
انزعاج حين رأى جبريل عليه السلام فأتى إلى أهله
فقال : (( زملوني زملوني )) وهو ترعد فرائصه ثم
جاءه جبريل فقال : (( اقرأ )) فقال : (( ما أنا
بقاريء )) فغطه حتى بلغ منه الجهد وهو يعالجه
على القراءة فقرأ صلى الله عليه وسلم ثم ألقى الله
عليه الثبات وتابع عليه الوحي حتى بلغ مبلغاً ما بلغه
أحد من المرسلين .
فسبحان الله ما أعظم التفاوت بين ابتداء نبوته
ونهايتها ولهذا خاطبه الله بهذا الوصف الذي وجد منه
في أول أمره فأمره هنا بالعبادات المتعلقة به ثم أمره
بالصبر على أذية أعدائه ثم أمره بالصدع بأمره وإعلان
دعوتهم إلى الله فأمره هنا بأشرف العبادات وهي
الصلاة وبآكد الأوقات وأفضلها وهو قيام الليل .
ومن رحمته تعالى أنه لم يأمره بقيام الليل كله بل
قال : (( قم الليل إلا قليلاً )) ثم قدر ذلك فقال :
(( نصفه أو انقص منه )) أي من النصف (( قليلاً ))
بأن يكون الثلث ونحوه (( أو زد عليه )) أي على
النصف فيكون الثلثين ونحوهما .
(( ورتل القرآن ترتيلاً )) فإن ترتيل القرآن يحصل به
التدبر والتفكر وتحريك القلوب به والتعبد بآياته والتهيؤ
والاستعداد التام له فإنه قال : (( إنا سنلقي عليك
قولاً ثقيلاً )) أي نوحي إليك هذا القرآن الثقيل أي :
العظيمة معانيه الجليلة أوصافه وما كان بهذا الوصف
حقيق أن يتهيأ له ويرتل ويتفكر فيما يشتمل عليه ثم
ذكر الحكمة في أمره بقيام الليل فقال : (( إن ناشئة
الليل )) أي الصلاة فيه بعد النوم (( هي أشد وطأ
وأقوم قيلاً )) أي أقرب إلى تحصيل مقصود القرآن
يتواطأ على القرآن القلب واللسان وتقل الشواغل
ويفهم مايقول ويستقيم له أمره وهذا بخلاف النهار
فإنه لا يحصل به هذا المقصود ولهذا قال : (( إن لك
في النهار سبحاً طويلاً )) أي تردداً على حوائجك
ومعاشك يوجب اشتغال القلب وعدم تفرغه التفرغ
التام (( واذكر اسم ربك )) شامل لأنواع الذكر كلها
(( وتبتل إليه تبتيلاً )) أي : انقطع إلى الله تعالى فإن
الانقطاع إلى الله تعالى والإنابة إليه هو الانفصال
بالقلب عن الخلائق والاتصاف بمحبة الله وكل مايقرب
إليه ويدني من رضاه .
(( رب المشرق والمغرب )) وهذا اسم جنس يشمل
المشارق والمغارب { كلها } فهو تعالى رب المشارق
والمغارب وما يكون فيها من الأنوار وماهي مصلحة
له من العالم العلوي والسفلي فهو رب كل شيء
وخالقه ومدبره .
(( لا إله إلا هو )) أي لامعبود إلا وجهه الأعلى الذي
يستحق أن يخص بالمحبة والتعظيم والإجلال
والتكريم ولهذا قال : (( فاتخذه وكيلاً )) أي حافظاً
ومدبراً لأمورك كلها .
فلما أمره الله بالصلاة خصوصاً وبالذكر عموماً وذلك
يحصل للعبد ملكة قوية في تحمل الأثقال وفعل
الثقيل من الأعمال أمره بالصبر على ما يقول فيه
المعاندون له ويسبونه ويسبون ماجاء به وأن يمضي
على أمر الله لا يصده عنه صاد ولا يرده راد وأن
يهجرهم هجراً جميلاً وهو الهجر حيث اقتضت
المصلحة الهجر الذي لا أذية فيه فيقابلهم بالهجر
والإعراض عنهم وعن أقوالهم التي تؤذيه وأمره
بجدالهم بالتي هي أحسن .

