المهدئات... ضرورة وليست استمتاعاً..!
السلام عليكم :مساء الخير
--------------------------------------------------------------------------------
المهدئات... ضرورة وليست استمتاعاً..!
http://www.alriyadh.com/2007/05/11/img/115030.jpg
د . ابراهيم بن حسن الخضير
الأدوية المهدئة، والتي تُعرف علمياً بالبنزودايازابين (Benzodiazepines) وهي أدوية تُستخدم لعلاج القلق، ولها عدة أنواع بعضها سريع المفعول ولكنه أيضاً قصير المدى من حيث بقائه في الجسم، مثل الزاناكس والليكسوتانيل والأتيفان، ويُطلق على هذه المجموعة من الأدوية المهدئات الصغرى قصيرة المفعول. هذه الفصيلة من الأدوية المهدئة هي الأكثر انتشاراً بين عامة الناس يستخدمونها للقلق والتوتر ولكنها حسب قوانين منظمة الصحة العالمية، هذه الأدوية مُقننة أي لا تصرف إلا بوصفات طبية، مثلها مثل كثير من الأدوية. ولكن بعض البلدان يتجاوزون هذه الشروط ويمكن للشخص أن يشتري هذه الأدوية مباشرة من الصيدلية أو مخازن بيع الأدوية، وكانت لبنان أحد هذه البلدان التي يمكن للشخص أن يشتري ما شاء من الأدوية المهدئة، خاصةً أثناء الحرب الأهلية اللبنانية ومعاناة الناس مما أثّر كثيراً على نفسيات الذين كانوا يعيشون تحت وطأة الحرب والقتل وانعدام الأمن والخطف وفقدان الأمن بجميع أنواعه.
كل هذه العوامل مُجتمعة جعلت اللبنانيين يحتمون بهذه الأدوية المهدئة حتى لا يفقدوا أعصابهم، وبالطبع في ذلك الوقت لم تكن هناك حكومة مركزية ولا أمن ولا وزارة صحة تُطبقّ القوانين.. وبالطبع استمر الوضع كما هو عليه بعد انتهاء الحرب الأهلية، فكان أي شخص يمر على أي صيدلية ويشتري الأدوية المهدئة الصغرى حسب حاجته، وكل شخص طبعاً يختلف في تناول هذه المهدئات، فبعضهم يعرف بأن هذه المهدئات تُستخدم عند الحاجة ويستخدمها لفترةٍ وجيزة ثم يتوقف بعد انتهاء الظروف التي يمر بها. ثمة فئة أخرى كانت تستهلك هذه المهدئات بشكلٍ كبير قادها إلى الإدمان في ظل توّفر هذه الأدوية بشكلٍ طبيعي وأصبحوا لا يستطيعون ممارسة حياتهم العادية، في المنزل أو العمل إلا بتناول هذه الأدوية المهدئة. طبعاً هذا الأمر له وجهان: الأول أن الإدمان على هذه الأدوية المهدئة مشكلة صحية والانقطاع عنها بشكل مفاجئ مثلاً في حالة عدم توّفرها قد يعّرض الشخص المتعوّد عليها إلى مشاكل صحية منها حصول نوبات صرع، خاصةً إذا كان الشخص يتناول هذه الأدوية بكميات كبيرة (وللأسف هذا ما يحدث عادةً إذا كان الشخص يتناول الأدوية المهدئة دون إشراف طبي)، أو عودة الأعراض التي كان يشكو منها - أعراض القلق الشديدة -، وقد يؤدي هذا الأمر إلى أن يُصبح الشخص غير قادر على العيش بصورة طبيعية، حيث تعوّد الجهاز العصبي عنده على أن يتناول ويستقبل هذه المواد المهدئة، وبدونها لا يستطيع أن يقوم بوظائفه اليومية في شتى جوانب الحياة.
بعد أن عادت الأوضاع إلى طبيعتها في لبنان وتوقفت الحرب الأهلية، وبدأ الناس يلُملمون جراحهم ويحاولون الخروج من بقايا هذه الحرب الضروس التي أخّرت لبنان لسنواتٍ عديدة، وجعلته يتخلّف عن مواكبة الحياة التي سار قطارها نحو التقّدم في أكثر الدول في العالم، ولبنان الذي كان يُسمى سويسرا الشرق، وكان متقدماً في جميع مناحي الحياة عن أي دولة عربية أخرى، للأسف دخل نفقاً مظلماً بتلك الحرب الأهلية التي بدأت بين الجميع ..! الكل دخل هذه الحرب ولم يخرج منها أحد مُنتصراً فقد خرج الجميع مثخنا بالجراح ولبنان أصبح بقايا وأطلالا لبلدٍ كان رمزاً للعيش الرغد والحياة المرفهة.. وخرج الجميع مهزوما وتغيرّت الحياة في لبنان جذرياً وتغيرّت بيروت برمتها إلى بيروت أخرى غير التي كانت قبل الحرب الأهلية، كانت هناك صعوبات في أن يُلملم الناس جراحهم بعد هذه الحرب الطاحنة.. والحروب لا تترك فقط شهداء وقتلى وجرحى بدنيين ولكنها تترك آثارا نفسية بالغة التعقيد في نفوس الناس. من هنا بعد الحرب الأهلية كان الناس يُساعدون أنفسهم بطريقةٍ ما ؛ سواءً كان عن طريق أخذ الأدوية المهدئة وهي الطريقة الأسهل والأكثر فعالية، أو اللجوء إلى المخدرات وهي طريق صعب وشاق أو اللجوء إلى الأمور الروحانية والالتجاء للطوائف والأحزاب التابعة لها بغرض الانتماء والشعور بالحماية والأمن الداخلي النفسي بوجود أشخاص يلتقي بهم الفرد.
بعد فترةٍ زمنية من انتهاء الحرب الأهلية وقيام لبنان وبناؤه بصورة جيدة، وعلى وجه التقريب قبل عامين تقريباً فرضت وزارة الصحة عدم صرف الأدوية المهدئة إلا بوصفة طبية، وقد بثت ذلك محطات التلفزيون، ولازال عالقاً في ذاكرتي صيدلي يمتلك صيدلية في بيروت وهو يتكلم في الأخبار (كان التقرير إخبارياً من مراسلي القنوات الفضائية من بيروت)، ويقول : ياعمي إذا واحد (بدوا) علبة زاناكس لازم يروح على الحكيم يدفع مبلغ بيساوي ثمن علبة الزاناكس عشرين مرة.. ليش ياعمي بيضّيقوها على الناس؟ هكذا كان رأي الصيدلي..يرى أنه بتطبيق قانون منظمة الصحة العالمية تضييق على الناس..!
بعد أن تم المنع لبيع هذه الأدوية المهدئة، كثرت الوصفات التي تأتي من أطباء العيادات الخاصة العامين (أي الذين لم يتخصصوا في أي تخصص، فقط أنهوا بكالوريوس الطب والجراحة وفتحوا عيادات خاصة لمساعدة الناس، خاصةً الفقراء وهم كُثر في بيروت في ذلك الوقت..!). ملاحظة أخرى تمت مراقبتها وأعتقد أن الجامعة اليسوعية في بيروت (ولست متأكداً من هذا الأمر) رصدت ارتفاعا في تعاطي الكحول بشكل أكبر من قبل، وكان أكثر من لجأ للكحول هم الأشخاص الذي كانوا يتناولون الأدوية المهدئة ولم يعد باستطاعتهم الحصول عليها فلجأوا للكحول كبديل لهذه الأدوية المهدئة، وفي نفس الوقت ظهرت السوق السوداء لبيع الأدوية المهدئة في بيروت ولكن كان سعر هذه الأدوية مُبالغا فيها ولا يستطيع شراءها إلا القادرون وهم الذين يستطيعون الذهاب إلى الطبيب وأخذ وصفة..!
من هذه التجربة نستطيع أن نرى مدى أهمية هذه الأدوية المهدئة لبعض الأشخاص الذين يُعانون من القلق المرضي والذين لا تسير حياتهم بدون تناول هذه الأدوية وبعض منهم يتناول جرعة محددة لا يزيدها على مدى سنوات، ولكنها تُساعده على أن تسير حياته بشكلٍ جيد، وأعتقد أن هذا الأمر طبياً ليس فيه خطورة ولا سوء استخدام إذا كان الشخص يتناول جرعة دوائية ليست أكثر من الجرعات التي المنصوص عليها في كتب الأدوية العلمية والتي تصدر من مؤسساتٍ علمية هي المرجع في استخدام الأدوية. بعض الأطباء لهم مبدأ وهو عدم صرف مثل هذه الأدوية أياً كانت الحاجة لها، حتى وإن كان المريض شخصاً محترماً يتناول العلاج المهدئ بصورة سليمة وتساعده على أن لا يلجأ للكحول أو أي أدوية أخرى من السوق السوداء.
العجيب في الأمر أن في دول متقدمة وتطُبّق الأنظمة الطبية التي تُصدرها منظمة الصحة العالمية ومع ذلك يُمكنك شراء مثل هذه الأدوية المهدئة بكميات معقولة دون وصفةٍ طبية. لقد استغربت مثلاً أنه في جنيف والتي هي مقر منظمة الصحة العالمية بأنك تستطيع شراء هذه الأدوية المهدئة بكل سهولة إذا طلبت مثلاً علبة أو علبتين زاناكس أو ليكسوتانيل أو فاليوم دون أن يطلب منك الصيدلي وصفة طبية وهذا الأمر أيضاً لاحظته في باريس ولكن في بريطانيا أو الولايات المتحدة الأمريكية لا يُمكنك شراء مثل هذه الأدوية المهدئة إلا بوصفة طبية عادية ودون أي تعقيدات أو أخذ رقم جوازك أو رقم بطاقة الأحوال الشخصية كما هو معمول به عندنا. أنا لا أقول بأن هذا السلوك خطأ أو ذلك السلوك خطأ، ولكن يعتمد ذلك على ثقافة الشعوب والمواطنين الذين يعرفون بأن استخدام مثل هذه الأدوية هو للضرورة وليست للاستمتاع..! سهولة الحصول على الأدوية المهدئة في بعض الدول لم يجعل التعّود على هذه الأدوية ظاهرة تستحق ملاحقة البائعين في الصيدليات وإلا لما تجرأ الصيادلة ومحلات بيع الأدوية على بيع مثل هذه الأدوية في الدول التي يُمكنك شراء مثل هذه الأدوية بكل يسر وسهولة..! بينما تجد في الدول التي تتشدد في صرف هذه الأدوية أن هناك سوقاً سوداء لمثل هذه الأدوية بما في ذلك بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية بينما في فرنسا وسويسرا وبعض الدول الأوربية الأخرى ليس الأمر كذلك..يبدو إن الممنوع مرغوب..! بالطبع هناك بعض الحالات الشاذة التي يتعوّد فيها بعض الأشخاص على تناول هذه الأدوية المهدئة بصورة غير سليمة ولكن لا يعني هذا حرمان الأشخاص الذين هم بحاجة ماسة لها كي يُمارسوا حياتهم العادية. أعرف شخصياً أشخاصاً تعودوا على هذه الأدوية يأخذونها بجرعة ثابتة منذ سنوات ويعيشون حياتهم بشكلٍ طبيعي ويقومون بأداء أعمالهم على أفضل وجه، ولكن إذا لم يتوفّر العلاج المهدئ الذين يتناولونه، فإن حياتهم تنقلب إلى جحيم .. لا يستطيعون التركيز أو النوم، القلق يُرافقهم في كل خطوةٍ من حياتهم.. بين أفراد الأسرة، في العمل في العلاقات الاجتماعية، وعندما نزن الأمور بشكلٍ عقلاني نجد أن حرمان مثل هؤلاء الأشخاص من علاج مهدئ قيمته الشرائية ليست كبيرة، بل إن هذه الأدوية من أرخص الأدوية، وبما أن الشخص ليس مدمناً بمعنى أنه يزيد في الجرعة وإنما يأخذ جرعة عادية طبيعية ضمن الحدود التي يسمح بها قانون ممارسة مهنة الطب وكذلك ليست جرعات كبيرة تُهدد حياته أو تجعله عرضةً لمشاكل عضوية مرضية فإن بقاء بعض الأشخاص على مثل هذه الأدوية وتحت الإشراف الطبي ليس خطأ وسوء ممارسة من الطبيب أو الصيدلي. ولعل من نافلة القول أن أجهزة بعض الدول تلاُحق بيع الأدوية المهدئة بصورة مُبالغ بها، بينما الحشيش مثلاً يُباع بصورة تكاد تكون عادية، وربما الحصول على الحشيش أو المخدرات أسهل من الحصول على الأدوية المُهدئة. على رغم كل ما قلت فإنه يجب عدم تناول أي دواء مهدئ أو منوم إلا بإشراف طبي ولا يُصرف مثل هذه الأدوية إلا بوصفةٍ طبية ويكون هناك مُبرر فعلي ومنطقي لصرفها ولكن لا يجب أن يتدّخل أشخاص غير مؤهلين علمياً وليسوا أصحاب خبرات طبية ومعرفة بعلوم الأدوية والصيدلة في مثل هذه الأمور الطبية البحتة إلا إذا كان هناك سوء استخدام واضح وعلني لهذه الأدوية التي لها مُضاعفات طبية قد تكون خطيرة إذا لم تؤخذ تحت إشراف طبي مستمر.
--------------------------------------------------------------------------------
الجمعه 24 ربيع الآخر 1428هـ - 11 مايو 2007م - جريدة الرياض
