احبـــهــآآ لاكـــــن ..........,

أحبها لاكن


وضعت يدها المموجة على شعري المجعد
وقالت بنبرة خافتة يملؤها الحزن والشفقة
يا طفلي المدلل, يا ريحانة قلبي اليافعة
اليوم هو موعد قرانها
اليوم سيشهد الله على اجتماع قلبين, وافتراق توأمين
اليوم سترتدي الأبيض, وسيلون قلبك بالحداد
اليوم سيزين الذهب بعنقها ويديها
اليوم ستدخل القفص المرصع بالأحجار والحرائر
اليوم ستخرج من رحم أمها, وتدخل في كنف بعلها

ما بك يا صغيري لا تعيرني أي انتباه
ما بك تقف هامداً وكأنك تمثال من الشمع الملون
ألن تذرف الدموع على فراقها
ألن تمحي بالدم اسمها عن ساعدك, كما وشمته بالدم سابقاً
ألن تذهب لوداعها, لتقلي عليها نظرة الهزيمة والكبرياء

كلا يا أماه:
لن أفعل أي شيء
سأبقى هنا لأعد ضربات قلبي, وأنا انظر إلى ساعة الحائط
ليبارك الله هذا القران وليشهد عليه
كما شهد على صلب يسوع, وموت محمد

لماذا يا فتاي الأجمل
ألم تحبها
ألم تقل, بأنها عملة نادرة يصعب العثور على مثيلها
ألم تقل بأنها تحفة أبدع الخالق في نحتها
نعم يا عجوزي الطيبة
أحبها
نعم يا صديقتي الرؤوف
أحببتها
من يوم
فتحت رموشي بابها
لترى نور الله يغمر وجهها
من يوم
تعطرت أنفاسي بعبير أنفاسها
من يوم
وقفت كالأبله
أمام خفايا جمالها
نعم
أحبها
لكنَ, قدماها حريريتان
وطريقي وعرة موحلة
أحبها
لكنَ, عيناها بريئتان
وفضائي مظلم, ومجهول الهوية
أحبها
لكن, رئتاها نقيتان
وهوائي يملؤه الغبار وسعال المرضى والعجائز
أحبها
لكنَ يداها ناعمتان
وزهوري بلا أوراق, أشواكها حادة كالسيوف
وأرضي بلا حدود نائية
أحبها
لكنَ, بحرها هادئ راقد
وسفني ممزقة
وقلاعي مدمرة, على وشك الانهيار

أحبها لكنَ
صيفي خريف
وربيعي خريف
وشتائي خريف
وخريفي أوراقه مصابةٌ بالكوليرا
لا تتساقط بل تموت على الأغصان متلاصقة

نعم
أتمنى قربها
لكني قربي
سجون ومعتقلات
نيرانٌ وثورات
آهات ودموع وحسرات

لذا سأدعها لغيري من العشاق, يا مربيتي
أصحاب المدن الفاضلة
عشاق الورود والأقحوان
أصحاب الحياة المملة
والأشعار الرومانسية

سأدعها
ترحل عني بعيداً, مع أول فارس على جواد
أبيض كان أم أصهب
سأدعها تذهب
دون أي مبارزة, أو ضربة من يدي
دون أي دمعة, أو تلويح من قبضتي
دون تهديد أو وعيد باسترجاعها
أو ربما أغضب وأهدد, في لحظة طيشٍ أو يأس
لكني
سأبقى خجولاً في التهديد
ولن أزيد في ذلك عن أجدادي العرب المغاوير
في تهديدهم باسترجاع فلسطين

يا أماه هي لم تخلق ليّ
وأنا لم أخلق لها
أنا خلقت لأعشق ثائرة
تهوى قضبان السجون, وبلاط المعتقلات
تهوى الجوع والفقر والبرد والصقيع
تهوى المسير دون وجهة, والنوم في العراء بين السنابل وحبات القمح المتناثرة
ترتدي الكفن عوض الشال
تعشق الزيتون والليمون والزيزفون
تدفعني بكلتا يديها إلى الموت, في سبيل العزة والعيش الكريم

لذلك
سأزفها بيدي هاتين
وسأرميها بعنفٍ
في حضن عريسها
لعلها تنجب الأطفال
وتمرح على الشواطئ, حافية القدمين عارية الصدر
سأدعها لتشيخ وتنكمش بقربه, كما تنكمش الحورية بعد خروجها من الماء المقدس
وسأروي بدموعي, بعد عمرٍ طويل
تراب قبريهما

نعم أحبك
ووجهك أصبح قبلة لصلاتي
ولعاب شفتيكِ ترياقي وزادي
لكن بعدي خيرٌ لكِ
يا قمري الذي لن أسهر بعد اليوم تحت ضوءه الناعس
يا شمسي التي لن أدعها بعد الآن تلون بالسمار بشرتي

نعم أحبك
لكني شوارعي كمسام جلدي, محفرة
وطريقي الذي اخترته
لن يقودني إلا إلى الجنون مسرعاً
أو زحفاً على ركبتي إلى المقبرة