كيف نرسم الخريف ...؟؟!!

اغنام - ابل - دواجن - طيور

كيف نرسم الخريف ؟!!



بقل
د.أنوار عبد الله أبو خالد



عندما كنتُ تلميذة في السنة الدراسية الأولى او الثانية، طلبت منا معلمة الرسم العربية ان نرسم صورة للخريف حالا وبدون طرح اي سؤال لانها ستكون مشغولة بقراءة ما في يدها، ثم زمجرت وتوعدت وهددت كل من تأتي عليها نهاية الحصة وهي لم تنتهي من الرسم، ولأنني اول مرة اسمع باسم الخريف، فقد تحيرت وتهت في محاولات لفهم كيف يرسم هذا الخريف، ولذلك بقيت علبة التلوين مصفوفة امامي مع ورقة بيضاء، حاولت ان أسترق النظر الى من حولي فاقلد ما اراه، ولكنني لم أرَ الا خربشات طفولية لم تزدني الا حيرة، ثم وقعت عينا المعلمة علي وظنتني أتلاعب، فأغلقت كتابها وجاءت تجر جسما عظيما امام جسمي وبدأت من فرط الخوف اعد خطواتها وعيناي لاتفارقان عينيها مسترحمة ومسترجية، ولكن يدها طارت سريعا الى اذني وشدتها بقوة وهي تسألني لماذا ورقتك بيضاء لماذا لم ترسمي الخريف حتى الآن؟ قلت لها وانفاسي تتقطع : أنا لا أعرف الخريف !، فازداد حنقها علي لأنها بظنها ان كل الناس مثلها قد رأت الخريف بأشكاله القشيبة والوانه الزاهية وتساقط اوراق الشجر استعدادا لاستقبال الشتاء القاسي، ولكن بيئتي التي ولدت بها وترعرعت بها لايوجد بها مثل هذا الخريف لو افترضنا اصلا وجود الاشجار، ولذلك تحيرت المعلمة بماذا تصف الخريف فقالت لي :ارسمي الخريف وانتِ ساكتة، بكيت وقلت لها مرة اخرى انا لا اعرف الخريف، فقالت ارسمي اشجارا قد سقطت اوراقها، وهذا التوضيح قد زادني حيرة وغموضا لان عقلي الصغير لم يستطع ان يتخيل اشجارا عارية لا ورق لها، وحتى لو رأيت صورة لتلك الاشجار العارية فأنا لن اعرف انها اشجار فضلا ان افهم ان هذا المنظر يدعى بالخريف !!، فبقيت يداي ترتعشان خوفاً من نهاية الحصة وان يدركني العقاب الموعود، فتبللت الورقة بعرق يدي المرتعشة وقطرات دموعي الخائفة، وحان وقت العقاب لكل من تحدى إرادة المعلمة او خالف امرها او قصر في اداء ما طلبته، فكان نصيبي ضربتان قاسيتان على نفسي قبل جسدي، ضربة على كل يد بمسطرة خشبية اعطيت للمعلمة من قبل المدرسة لغرض الشرح والتعليم والاشارة والتوضيح، ولكنها استخدمت لعكس ما صرفت لاجله، فكسرت نفسي التي كلفت فوق طاقتها، وحملت ما لا تحتمله، واجبرت على تخيل مالم تره او تفهمه، دونما شرح او تفهيم او فرصة لطرح السؤال او الاستفسار، وزاد الطين بلة ورقة استدعاء لوالدتيليخبروها بأن ابنتها المتمردة ترفض رسم الخريف، وبمرور هذه الخبرة القبيحة قلبا وقالبا، كرهت الرسم ومدرسة الرسم وذلك الخريف، وكرهت كل أحمق يأمر غيره بأمر لا يفهمه او لايستطيعه غيره، وما اكثر مانصنع ذلك مع صغارنا ونحن لا نعلم، والمشكلة ان الطفل عندما يتساءل او يريد مزيدا من الايضاح نعتبر ذلك نوعا من التردد او التمرد او العناد..
مر ردح من الزمان طويل على تلك الحادثة، ولكن ذكراها لا تزال عالقة في نفسي كلما رأيت صورة للخريف، وعندما كبرت وخرجت الى تلك البلدان المشجرة، ورأيت الخريف بأم عيني اقشعر بدني وانشرح صدري ولهج لساني بالتسبيح لله العظيم القدير، لانني رأيت لوحة من الجمال المتناسق تعجز عن رسمها ريشة فنان كبير فكيف بطفلة صغيرة لم تر من دنياها الا شارعا وجدارا وبستانا صغيرا فيه اشجار مثمرة لاتعرف الخريف ..
وعلى دروب الخير نلتقي..