الإلهام
لا يمكن أن يكون هناك شعر ما لَمْ يكُن وراءه إلهام, يدفع هذا الشعر من عوالمه المخبوءة وراء ستائر المجهول, ويشكل الإلهام أهم مراحل الإبداع, وهو عبارة عن حالة من الجنون تنتاب الأديب أثناء كتابته أو ممارسة مشروعه الأدبي كالرسم والعزف وسواهما, إذ يكون فيها الشخص في وضع آخر, فتأتي هذه الحالة بلا موعد ولا استئذان وتقتحم العالم من دون سابق إنذار, وهذا ما جعل الأمم السابقة تربط هذه الحالة بأمور غيبية, فربطها الأغريق بالآلهة وربطها العرب بالجن, ذلك أن الشاعر أو الأديب يكون في حالة أخرى تختلف عن حالته التي كان عليها قبل لحظة الكتابة, وهو الأمر الذي جعل طلال حمزة يقف عند هذه الحالة واصفاً ومعبراً, إذ يبدو الوصف من خلال وقوفه الشاخط عند الحالة, ومعبراً عن طريق تأمله فيه, والوقوف والتأمل حالتان متداخلتان في هذا الأمر, وذلك حينما قال: 'لو يسألون الناس وش أعجبك فيه... قولي لهم شفته بحالة كتابة', ذلك أنها حالة يحتار الفكر الإنساني في تفسير دقيق لها, والوصول إلى وصف ترتضيه كل الأطراف العاملة في هذا المجال.
من خلال هذا الفهم انساقت كل أمة توظف تصورها للحالة الإلهامية وفق بيئتها الجغرافية التي شكلت ثقافتها الفلسفية لتفسير هذه الظاهرة, وبما أن العرب أمة صحراوية فقد ربطوا الإلهام بالجن وأن لكل شاعر تابعاً يتبعه من الشياطين, وتصوروا لهم مكاناً يقيمون فيه أسموه وادي عبقر, وقد تمادى الفرزدق في تفسير هذه الحالة بأن من لازمه 'الهوبر' حسن شعره, ومن لازمه 'الهوجل' فسد شعره, في الوقت الذي ربط فيه الأغريق هذه الظاهرة بأرواح الآلهة, إذ يعتقد أفلاطون أن كل شاعر متبوع بأرواح خيرة أو أرواح شريرة, وفي الوقت الذي أسكن فيه العرب شياطينهم بطون الأودية أسكن الأغريق آلهتم أعالي الجبال, لهذا كان ربط الإلهام بالأمور الغيبية الخفية كالجن عند العرب وكالآلهة عند الأغريق، نابع من عجز الإنسان في تلك الفترة عن إيجاد تفسير منطقي يشرح له هذه الظاهرة.
الإلهام مثل النبوة مع فارق واضح بين الاثنين, إذ إن النبوة ناتجة عن اتصال المخلوق بالملكوت الأعلى، بينما الإلهام متعلق بإملاءات النفس وما يرد على الخاطر, أما أن يكون المرء مُلْهَماً فهذا عائد إلى استعداده الذاتي المتعلق به, باعتبار أن كل شخص قادر على تحضير نفسه ذهنيّاً لمشروع ما، فستكون لديه القدرة على البذل والعطاء في هذا المجال, باعتبار أن تحريك المرء طاقاته النفسية وقدراته العقلية في اتجاه معين ستكون لديه القابلية للاستيقاظ الذهني والتلقي المعرفي الذي سيدعمه في اتجاهه الذي سينتهجه, أما الأمر المتصل بالأدب وممارسة الفنون فلا يمكن أن يكون المرء متميزاً في هذا المجال ما لم تكُن جبلّته تؤازره في هذا الجانب, وقديماً قيل: الشعر والصوت الحسن لا يمكن تعلّمهما.
في تحقيق صحافي تم توجيه هذا التساؤل إليَّ:
هل ظاهرة الإلهام مقصورة على فئة معيّنة من الناس؟
لم أفكر حقيقة في طرح هذا السؤال على نفسي في يوم من الأيام, لأنني أعتقد أن هذه المسألة مرتبطة بمسألة الخلق الأدبي، لكن حينما طُرح هذا السؤال أيقظ ذهني حول هذه المسألة, وتذكرت الحالات التي تنتاب بعض المتصوفة في ممارسة طقوسهم الدينية ودخولهم في غيبوبة أو شبه غيبوبة عن الواقع, الذي كانوا يطلقون عليه اسم 'الوارد' الذي ينتشلهم من ذواتهم الحية ويدخلهم عالم التأمل, وعلى هذا فمن الممكن أن تنتاب هذه المسألة, وهي مسألة الإلهام بعض الناس, وأعني, كالتقاط بعض الأفكار الشاردة أو حل بعض المسائل المعقدة أو تمرير كرة في لحظة لا يستطيع اللاعب تفسيرها وتصيب الهدف بشكل غير متوقع, والذي قد يسميه البعض بضربة الحظ، لكنه لا يمكن الاستسلام لهذه الحالة وهي حالة أن يكون إلهام الخلق الإبداعي متاحاً للجميع، لأن بعض الأذهان الخاملة لا يُرتجى منها نفعاً في مثل هذه الأمور, لهذا لا يمكن تعميم القاعدة عليها.
