ماء.. وسماء
,
انهمرت أسراب النسمات.. غزيرة.. تدفقت تدفق عجيب.. سرت للشرفة.. اتخدت مكاني بين أحضان ذاك الكرسي الحاني.. ذاك الكرسي الذي يحتويني .. ويمدني ضعف محير.. يا له من منظر خلاب.. جو الريف النادر.. الهواء المنعش.. الطبيعة الخضراء.. رائحة الطين.. والعشب.. هنا تتكلم جميع العناصر.. تتحد كلها فتحيل للجمال.. منتهى الجمال
بهذه الوتيرة داعبني دفء.. اكتسى ذراتي.. تسلل النعاس رويدا رويدا.. لكن هيهات أن يحول بيني وبين هذا المنظر حائل.. حتى لو كان نوم مغري.. تضبب كل شيء.. وسرت في هذيان لذيد...
أقبل سرب طيور ليس لآخره نهاية.. غطى السماء.. مر بسرعة خارقة وترك في ديله طائر متأخر لم يستطع اللحاق بالجماعة فاحتمى بقمة شجرة قريبة يلهت.. تنقل من قمة لقمة.. إلى أن وصل حافة جدار الشرفة.. تطلع إلي بهدوء متسائلا:
- لم تجلسين وحدك؟
فكرت قليلا شاردة:
- لأني أريد ذلك.. أحيانا كثيرة الجلوس مع النفس أفضل من حظرة الكلام غير المجدي والأشخاص غير الجديرين.. لكن لم تخلفتَ أنتَ عن الركب؟
- ربما لمثل ما ذكرتِ.. لكني لم أتأخر.. بل أبكرت الانسحاب..
- جميل أن تجمعنا ذات الأسباب..
- لمَ أنتِ ساهمة؟
- أرغب الاستمتاع بكل لحظة هنا.. داخل هذه اللوحة البديعة.. هذا الصمت المتكلم أجمل غاية يمكن أن نصبو اليها.. أمنا الطبيعة أحن قلب يضمنا.. عندما تتكلم - وهي دوما كذلك – يجب أن نرهف السمع.. فهي غالبا تتحدث أمثال.. حكم.. وألغاز ليس الكل قادر على مسايرتها.. وأنتَ يا الطائر ما تراه رأيك وأنتَ القاطن بين عمق أعماقها؟
- حقا لا أدري تصنيفها.. أهي في المرتبة الأولى.. أم الأخيرة.. كل ما أدريه أنني عندما فتحت عيني وجدتها تضللني.. تأويني.. تطعمني.. فتلاشى اهتمامي بها .. لأنها تحوز كل الاهتمام..
- ما رأيك أن نتبادل الأدوار؟
- أنتِ تدرين أننا لو أردنا قتل طائر وهو حي فذلك بوضعه في قفص.. لا أدري كيف رضيتم بأن تبنو لأنفسكم أقفاص تلو الأقفاص و تقحمو أنفسكم فيها بالعنف والرضى..
- طال أنفسنا الصدأ يا صديقي.. توغل أعماقنا فلم نعد ندري ما نريد.. وما حقا نريد..
- أنتِ مختلفة لا أراكِ مثل أولئك الصيادين الذين يقدفون الطيور بالرصاص فتلمع في وجوههم شهوة الانتصار.. لا أظنك من أولئك العابثين الذين يقتحمون الطبيعة.. يقطفون أجمل ما أنجبت وقبل أن يخرجوا حدودها يرمون ما قطفوا.. فتدوسه الأقدام.. لا أراكِ تبغين الاستنزاف للربح المادي.. في حين لو أمعنا النظر فالمعنوي .. الروحي أجمل غاية وأبدع صورة في الحياة..
- أتدري ما مشكلتنا.. أننا بعيدين عن أنفسنا أميال فيبيح لنا هذا الفراغ بيننا وبينها تصرفات غريبة.. طمع.. كذب.. نفاق.. تخادل... بينما لو حاولنا الوصول اليها لتلاشت تلك المسافات ولنعمنا بتواصل راقي.. التواصل الروحي .. حقا أصدق تواصل..
- صحيح معكِ الحق
- أريد أن أطلب منكَ معروف.. غرد لي.. غن لي لحن جميل.. أطربني موسيقى وديعة.. اغمرني صوت شجي.. أذهب معه للأقاصي هناك في ملكوت الكون..
دعني أسبح بلا ماء.. أطير بدون أجنحة.. أتواجد بلا وجود.. أسير بدون خطوات.. غرد لي يا العصفور.. وابنِِِِِِ لي قصرا في السحاب.. أمتطي ذاك السجاد السحري في الحكايات التي تحكى لنا حين كنا أطفال.. وأنتقل لعالم آخر.. عالم كله الصفاء.. والماء.. والسماء.. وأشعة الشمس...
تململت في مكاني.. أشعة شمس قوية سلطت علي.. سقطت رأسا على عيني.. يا الهي أكل هذا نوم.. وحلم؟
ما أروع أن نحلم بما نريد.. فركت عيني في تثاقل.. أزحت الكرسي للظل.. وجلست ساكنة.. أستعيد أحداث الحلم.. في حلم..
فجأة أقبل سرب طيور ليس لآخره نهاية.. غطى السماء.. مر بسرعة خارقة وترك في ديله طائر متأخر لم يستطع اللحاق بالجماعة فاحتمى بقمة شجرة قريبة يلهت..
,
