المصريون بين مطرقة "فريدمان" وسندان "بافلوف"

أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


المصريون بين مطرقة "فريدمان" وسندان "بافلوف"
كتبه / حازم البارودي
إنه حدث جلل لا يجرؤ أي حاكم أو رئيس أو حتى ملك وأمير أن يقدم عليه لتداعياته وآثاره الخطيرة على أمن البلاد واستقرارها ؛ إنه قرار رفع أسعار المحروقات ومواد الطاقة ، فهو القرار الأصعب الذي يمثل الخط الأحمر الأخير لدى أي شعب مهما كانت ثقافته أو رفاهيته أو مستوى دخله ، فمن المعروف أن رفع أسعار هذه المواد معناه الارتفاع المضاعف وربما الجنوني لأسعار كافة السلع والخدمات في البلاد ، والشعوب لا تصبر على مثل هذه التداعيات وتسارع بوأد أي محاولة للرفع بحراك شعبي عنيف أو نشاط سياسي ضاغط يجعل الأنظمة والحكومات تفكر مائة مرة قبل الاقتراب من أسعار المحروقات.
ولكن العجيب أن هذا القرار تم اتخاذه بكل سهولة ويسر من جانب سلطة الانقلاب العسكري في مصر ، وبصورة شديدة الراديكالية غير مسبوقة ، فقد تم رفع أسعار الوقود والكهرباء والغاز دفعة واحدة ، مع وضع خطة زمنية على المدى القريب لمزيد من الرفع حتى تصل أسعار مواد الطاقة لنظيرتها في الدول المتقدمة التي متوسط دخل الفرد فيها يساوى مائة ضعف مستوى الفرد في مصر . وليس العجب في صدور قرار الرفع ، فقائد الانقلاب يمهد لذلك منذ أن كان وزيرا للدفاع في عهد الرئيس الطيب "مرسي" ، ولكن العجب بعينه هذا الصمت الرهيب من المصريين ، والفتور الكبير في التعامل مع الحدث رغم سرعة ظهور تداعياته في الرفع الكبير لأسعار السلع والخدمات ، في الوقت الذي تنقطع فيها الكهرباء لساعات طويلة كل يوم ، وبصورة قد تصل لحد الجنون واللامعقولية في أحيان كثيرة ـ أكثر من 10 ساعات يوميا في كثير من المناطق ـ فما الذي أصاب المصريين ؟ وهل تم وأد روح الثورة الوثابة عندهم ؟ ولماذا كل هذا الخنوع والاستسلام لهذا العذاب والقهر اليومي دون أن يحرك أحد منهم ساكنا ؟

الإجابة في كلمتين : صدمة فريدمان وشروط بافلوف
يعتبر العالم الروسي "إيفان بافلوف" (1849 ـ 1936) واحدا من أشهر علماء النفس الفيزيولوجي، في العصر الحديث، فهو رائد الأبحاث العلمية حول فيزيولوجيا النشاطات العصبية الحركية، والذي استطاع عبر نشاطاته في هذا الميدان أن يترك آثارًا كبيرة، في نظريات وآراء علماء الفيزيولوجيا وعلم النفس الفيزيولوجي على مدى القرن العشرين برمته، وتعتبر نظرية الإشراط الكلاسيكي من أهم وأبرز نظريات بافلوف، حيث يعتقد "بافلوف" أن الإنسان نظام محكوم بالقوانين الطبيعية المشتركة بين كل الكائنات، ويرى أن النظام الإنساني هو الوحيد بين الكائنات الذي يتميز بقدرته الهائلة على التنظيم الذاتي، والذي يمتلك المرونة الفائقة لهذه الفعالية، فالسلوك الإنساني صناعة تتم وفقًا لمبدأ الاستجابات الشرطية، حيث يمكن لنا التحكم في سلوك الإنسان، وتشريطه وتصنيعه مخبريًّا، أو بصورة اجتماعية عندما يتم التحكم بشروط الحياة الاجتماعية. ولقد بين بافلوف أنه يمكن للتشريط الارتكاسي، إيقاع الناس فريسة الأمراض والأوهام النفسية، كما يمكن أيضًا علاجهم عن طريقها . وعلى الرغم من أن هذه النظرية نظرية طبية، واستخداماتها الأصلية كانت لأغراض علمية طبية، إلا أنها سرعان ما دخلت المجال العسكري وخصوصًا عمل الاستخبارات الحربية، حيث تم تطويرها لتقوم بدور عملية غسيل المخ الجماعي، بوضع الشعوب أو المجموعات المستهدفة، تحت ثلاثة ضغوط رئيسة هي: عزل - ألم - فكر مختلف، وذلك لفترة طويلة. وهذه النظرية تم استخدامها بقوة ضد المصريين بعد الثورة ، بالعبث بسلوكياتهم عن طريق محاصرتهم عسكريًّا واقتصاديًّا وماليًّا وسياسيًّا حصارًا طويلاً شديدًا، مع إشعار الشعب الذي ثار على النظام القديم المستبد بالحرمان الشديد من كل مقومات الحياة الأساسية حتى يصل الشعب إلى المرحلة التي يكفر فيها بالثورة والقائمين عليها، فتفقد الثورة مبررات بقائها، فينقلب الشعب أو الجيش عليها فتنتهي. وترجع خطورة هذا البديل إلى أنه لا يؤدى إلى تغيير النظام غير الموالي واستبداله بآخر، لكنه يؤدي إلى فقد الشعب الثقة في الأيديولوجية أو العقيدة التي قام عليها النظام الجديد، وفي حالة مصر هو النظام الإسلامي هذا لو افترضنا أن الإخوان جماعة إسلامية، وبالتالي فهذا البديل لا يطبق عادة إلا بالنسبة للثورات التي تستند إلى أيديولوجيا معادية، أو ثورات لها مرجعية دينية.

شروط بافلوف كانت بمثابة السندان القوي الذي تم تهيئه المجتمع المصري عليه من أجل الكفر بالثورة ، والانقلاب على الثوار ، ورفض النظام الجديد ، والحنين والترحم على النظام القديم ، وهي أيضا التي تهيئ الأجواء للقرارات والخيارات الصعبة التي ستقوم بدورها مطرقة " فريدمان ".

"ميلتون فريدمان" هو المثقف الأكثر أهمية لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وليس فقط الاقتصادي الأكثر أهمية، حيث كان له تأثير هائل في السياسة الاقتصادية الدولية ووصف بأنه كارل ماركس الرأسمالية. عمل كمستشار لرئيسة الوزراء البريطانية "مارغريت تاتشر"، للرئيسين الأمريكيين الأسبقين "ريتشارد نيكسون" و"رونالد ريجان" وكذلك عمل مستشارا لإدارة بوش الصغير. "ميلتون فريدمان" درس ودرب أيضا وزير الدفاع الأمريكي السابق المجرم رامسفيلد في أوائل مسيرته المهنية وجورج شولتز وزير خارجية الولايات المتحدة في عهد الرئيس رونالد ريغان، وأعطى أيضا النصائح للديكتاتور التشيلي بينوشية بعد الإطاحة بالرئيس سلفادور أيندي في بداية العقد السابع من القرن الماضي، وللحزب الشيوعي الصيني في فترة الإصلاحات الاقتصادية في أوائل ثمانينيات القرن العشرين .
فريدمان هو صاحب النظرية الشهيرة " العلاج بالصدمة " أو رأسمالية الكوارث ، ويقوم مذهب رأسمالية الكوارث على استغلال كارثة، سواء كانت انقلاباً ، أم هجوماً إرهابيا، أم انهياراً للسوق، أم حرباً، أم تسونامي، أم إعصارا، من أجل تمرير سياسات اقتصادية واجتماعية يرفضها السكان في الحالة الطبيعية.
فالكارثة تضع جميع السكان في حال من الصدمة الجماعية، وتخدم القنابل المتساقطة والعنف المتفجر والرياح العاتية، كلها، لتطويع مجمل المجتمعات . وأيضا هذه النظرية مستقاة من نظرية طبية نشأت في مجال الطب النفسي ،فقد تعاونت وكالة الاستخبارات الأميركية مع الطبيب النفسي الكندي البارز أيوين كاميرون ومولت أبحاثه عن استخدام الصدمة الكهربائية على أدمغة المرضى النفسيين بهدف تحويل أدمغتهم إلى صفحة بيضاء لإعادة كتابة المعلومات الملائمة عليها. وكان كاميرون لا يطمح إلى معالجة المرضى بل إلى إعادة خلقهم من جديد باستخدام أسلوب سماه "القيادة النفسية"، وما تهدف إليه طريقته هو إعادة دماغ المريض صفحة بيضاء عن طريق مهاجمته بالصدمة الكهربائية لمحو كل السلوكيات القديمة. وقد جالت رأسمالية الكوارث والعلاج بالصدمة من بوليفيا إلى بولندا ثم إلى روسيا وشرق آسيا بعد كارثة 1997 الاقتصادية التي حولت النمور الآسيوية في أيام إلى نمور من ورق، ثم استغلال كارثة تسونامي لتنظيف الشاطئ من قرى الصيادين وإحلال منتجعات سياحية ضخمة مكانها واعتبار الشاطئ منطقة مغلقة على أهل البلد. لكن المفصل الحقيقي في تاريخ هذه العقيدة هو العراق ففيه بلغت هذه العقيدة ذروتها ثم بسبب المقاومة الشعبية بدأت انحدارها السريع . لقد بدأ ينحسر مفعول الصدمة وتعطلت عقيدة الصدمة فنهضت الشعوب في الأرجنتين والبرازيل وتشيلي وباقي دول أميركا اللاتينية. وامتدت الثورة المضادة للفريدمانية إلى بولندا وروسيا. وبدأ يعلو نمط جديد من إعادة الإعمار هو "إعادة إعمار الشعب" ويتجلى في تشغيل العمال لمئات الشركات المفلسة في الأرجنتين، وإنشاء آلاف التعاونيات في بوليفيا، وإعادة إعمار القرى المهدمة على شواطئ آسيا .ولكن صدمة فريدمان عادت بقوة في مصر واستعادت شبابها ورونقها على يد الانقلابيين في مصر .
ارتكزت صدمة فريدمان عند تطبيقها على المصريين ، على فكرة العودة بالمجتمع المصري إلى الحالة الأولى التي كان عليها قبل ظهور الثورات التي تسببت في إنتاج أنماط تعارض النظم القديمة وتعيق أداءها ، ونعني بها حالة السلبية واللامبالاة والقهر والذلة والخضوع والخنوع لنظام مبارك ، وتطبيق سياسات فريدمان لا يتم في ظروف ديمقراطية أو طبيعية بل ترافق ذلك مع الانقلابات العسكرية وانتشار التعذيب واستغلال الحروب والكوارث الطبيعية . فكلا النظريتين ؛ صدمة فريدمان وشروط بافلوف، خلقت حالة شعبية غير مسبوقة تشوه فيها الوعي المصري لدرجة الفرح والرقص والتطبيل والتصفيق للقتل والدم والظلم والقهر والاضطهاد ، ثم وصلت بهم إلى مستويات خيالية من قبول هذه الإجراءات الاقتصادية العنيفة التي جعلت المواطن يدفع فاتورة الكهرباء التي نادرا ما يمر يوم دون انقطاع ساعة أو ساعتين ، يدفعها مضاعفة دون تردد أو تمنع ، بل في سعادة وسرور والتماس للأعذار التي لم يلتمس ربعها لحكومة " مرسي " ، في ازدواجية غريبة على كل ذي عقل .

المصريون يبدون قابلية كبيرة واستجابة تسعد طغاة العالم جميعا مع نظرية الصدمة ، بعد أن سحقتهم شروط بافلوف وجعلتهم مثل التربة المهيأة لبذر أي شيء ، وتقبل كل ما يلقى إليهم ويبث لهم عبر وسائل الإعلام. والمعركة الحقيقية في مواجهة صدمة فريدمان وشروط بافلوف في رفع الوعي الجمعي للمصريين مرة أخرى ، وإخراجهم من حالة الغيبوبة التي تحياها قطاعات واسعة من المصريين بسبب الإعلام وأوهام الحرب على الإرهاب ، والتآمر الخارجي ، والاضطهاد الإقليمي ، ولن يخرج المصريون من دوامة مطرقة فريدمان وسندان بافلوف إلا برفع وعيهم والاستفاقة من غيبوبتهم الطويلة ، ومعرفة طبيعة المؤامرة التي تحاك ضدهم ، وأولى خطوات الخروج من التيه حتمية رفض المنتج الإعلامي المزيف الذي سمم أفكار المصريين وأفسد طبائعهم ، وجعلهم مثل أبطال الرواية الشهيرة " وحيد القرن " ، ودون ذلك فنستطيع أن نقتبس مقولة قائد الانقلاب " الجيش لو نزل الشارع قول على مصر السلام ثلاثين أربعين سنة " .
................
منقول من مفكرة الإسلام
اختلف معه في جزئية وهي أن مرسي كان طيبًا .
فأقول : كان ضعيفًا ، ويعرف نفسه لا يحكم شيئًا ، ولا يقدر أن يدير شيئًا .
فكان ساعتها يجب أن يخبر الشعب ، لكن تكميل التمثيلية الهزلية هو الذي أحكم سيطرة الرعاع .