المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : النقاب في التراث التَّاريخي الإيطالي



أهــل الحـديث
31-12-2013, 11:00 AM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


النقاب في التراث التَّاريخي الإيطالي

حسام الحفناوي

الإيطاليون يَتنكَّرون لميراثهم التاريخي:

من المعلوم أنَّ الدَّولة الإيطالية[2] تتكوَّن من قسم يقع في صُلْب قارة أوربا بين سلوفينيا، والنمسا، وسويسرا، وفرنسا، يَليه إلى جهة الجنوب شبه الجزيرة الإيطاليَّة الممتدَّة طولاً في جنوب القارة الأوربيَّة، بالإضافة إلى جزيرة صِقِلِّيَّة[3]، وسَرْدانِية[4] من جزر البحر المتوسط[5].



وقد خَضَعتْ جَزيرة صِقلِّيَّة للمسلمين ما يزيد على القَرْنَيْن ونصف القَرْن، وخَضَعَت الأخرى - أو بعض أجزائها - للمسلمين عُقودًا من الزمن، بل امتدَّ نفوذ المسلمين إلى جنوب إيطاليا، وأجزاء من وسطها، وشمالها، وشمالها الغربي، واستمر عِدَّة عُقود أيضًا، ومكثت بعد استيلاء النصارى على تلك البلاد طوائف كثيرة من المسلمين، كُرْهًا، أو كسَلاً، وتركت أثرًا واضحًا في شَتَّى نواحي الحياة السياسة، والاقتصادية، والاجتماعية، والعلمية، وغيرها.



وكان ممَّا ظلَّ مع مرور الأيام أثَرُه في تلك البلاد، وبَقِي عَبْر الدُّهور نَفْعُه في تِيك الأصْقاع: حِرْص النساء على أسباب السِّتْر، وتشبُّثهنَّ بأهْدابِه، وإن كُنَّ لا يَبْلُغْن في ذلك - بلا رَيْب - مَبْلَغ نساء المسلمين في بلاد الإسلام؛ نظرًا لتديُّنِهِنَّ بغيره إنْ كُنَّ نصرانيَّات، أو بُعْد الشُّقَّة بينهنَّ وبين معرفة الأحكام الشَّرعيَّة الصحيحة، وأثر البيئة المُحِيطة عليهن إنْ كُنَّ مُسْلِمات عَجَزْن عن الهِجْرة إلى ديار الإسلام، أو قَصَّرْن في تَلمُّس السُّبُل الموصِلة إليها.



ومن الدَّلائل على ما ذكرْناه في القديم: ما ذكره المؤرخ الرَّحَّالة ابن جُبَيْر - رحمه الله تعالى - في رحلته المشْهورة[6] التي طاف فيها البلاد، ونزل في طوافِه ذلك بجزيرة صِقِلِّيَّة، ودَوَّن مُشاهداته فيها، وكان ذلك بعد سقوط الجزيرة في أيدي النَّصارى بنحو قرنٍ من الزمان، فقال وهو يتحدث عن النَّصارى في الجزيرة: "وزِيُّ النّصرانيَّات في هذه المدينة – أي: مدينة أطرابِنش[7] - زِيُّ نساء المسلمين: فصيحات الألْسُن، مُلْتَحِفات، مُنْتقِبات، خَرَجْن في هذا العِيد المذكور – أي: يوم الميلاد - وقد لَبِسْن ثياب الحرير المُذَهَّب، والتَحَفْن اللُّحُف[8] الرَّائِقة، وانْتَقَبْن بالنُّقُب[9] المُلوَّنة، وانْتعلْن الأخْفاف[10] المُذَهَّبة، وبَرَزن لكنائسهِنَّ أو كُنُسِهنَّ حاملات جميع زِينة نساء المسلمين، من التَّحلِّي، والتَّخضُّب، والتَّعطُّر[11]. انتهى.



ومن الأمارات على صِحَّته في الحديث: ما قاله أمير البيان شِكِيب أرسلان - رحمه الله تعالى[12]- : ومما علِمْتُه مؤخرًا من آثار العرب بإيطالية: أنَّ في بلاد اسمها كالياري Cagliari في صَرْدانِيَة[13] قُرى، كلُّ من رأى أهلها وخالطهم، علم أنَّهم عرب، ونساؤهم لا يختلِطْن بالرِّجال في مَجامِعهم، ولا يَخْرُجن إلا مُتنقِّبات إلى هذا اليوم![14] سمعته من ضابط إيطالي من أركان الحرب الكبار، كان أقام مُدَّة بتلك الديار.


ثمَّ قال: ومَن بَحَثَ، وجد للعرب في أوربا آثارًا أكثر جدًّا ممَّا روى المؤرخون. انتهى.


ولعلَّ من آثار تلك الثقافة: ما أصدره موسوليني[15] عندما كان يحكم إيطاليا من أوامر وتعليمات تُوجب على مَن يرتاد الشواطئ الإيطاليَّة أن يحترمها، ويسير بموجبها، وهي: يَحْرُم على النساء أن يَغْتسِلْن في البحر في نفس المكان الذي يَغْتَسِل فيه الرجال، ويَحرُم على كل من يَغْتَسِل في البحر - رجلاً كان أو امرأة - أن يرْتدي ثوبًا يترك جسمه عاريًا أكثرَ مما يَجب، فلِباس الحمَّام ينبغي أن يُغطِّي الجسم كله، ما عدا اليدين والقدمين، ويَحْرُم على من يَغْتَسِل في البحر - رجلاً كان أو امرأة - أن يضع عليه لباسًا لاصقًا بالجسم، ويَحْرُم قطعيًّا على كلّ من يَغْتسِل في البحر أن يَرْقُص وهو بلباس الحمَّام.


ويستولي البوليس على كلِّ لِباس لا يكون جامعًا لهذه الشروط، ويُساق صاحبُه إلى نُقطة البوليس لكتابة محضر مخالفة[16].


محاكمة أخرى:

فأيّ تنكّر لميراث تاريخي طويل - سيأْتي تفصيل بيانه إن شاء الله تعالى - يفوق ذلك التَّنَكُّر الَّذي حَواه موقفهم المُعادِي من تلك الشَّعِيرة المباركة؟! وأيّ هَدْم لما رَسَّخوه[17] - نظريًّا - من معاني التَّمسُّك بالتُّراث الشَّعْبِي، والحفاظ على الموروث الحضاري تَرْبو على صنِيعهم المرْذُول؟!


استفسار وجواب:

فإن تَعَجَّب أحدٌ من الإنكار على الدولة الإيطالية - وغيرها من الدول الأوربيَّة كذلك - موقفهم من نقاب المرأة المسلمة، وما تَضمَّنَه ذلك الموقف من تَنكُّر لميراث ديني وتاريخي، كان ينبغي عليهم - وفقًا للشِّعارات التي صدَّعوا رؤوسنا بها - أن يوَقِّروه، أو يُقدِّروا قَناعات صاحبه كحَدٍّ أدْنى لتطبيق الشِّعارات النظرية؛ لما يراه من مُشابَهة فِعْلهم المذكور لفِعْل كثير من أبناء جِلْدتِنا، ممَّن يتكلمون بألْسِنَتِنا، وتُبايِن قُلُوبُهم قُلوبَنا، وتُخالِف عُقولُهم عُقولَنا؛ فلا مَحلَّ لذلك العجَب، ولا مُسَوِّغ لصُدوره؛ لأنَّ إثبات الأدْنى بأوضح بيان وأتَمِّه أرْسَخ في إثبات الأعلى، وأشَدّ قوَّة، وإنَّ إقامة الحُجَّة العقلية على صحَّة الإنكار على الكفَّار في صَنيعهم المذكور - أدْعى في تصويب الإنكار بالحُجَج الشرعيَّة والعقلية على المنتسبين إلى الإسلام، إن نَحَوا نَحْوَهم، أو لَفُّوا لَفَّهم، وهذا بَيِّنٌ، لا لَبْس فيه - إن شاء الله.
ـــــــــــــــــــ
[1] بنى رومُلُس (Romulus) وأخوه أرمانوس أو رومانوس مدينة روما، ثم قتل روملس أخاه، واستأثر بحكمها، وإليه ينسب الروم.

انظر: التنبيه والإشراف للمسعودي (ص66، 67)، وتحقيق ما للهند من مقولة للبيروني (ص43)، وجمهرة أنساب العرب لابن حزم (2 /511)، وتاريخ ابن الوردي (1 /51)، وتاريخ ابن خلدون (2 /196، 197).

[2] انظر عن نشوء إيطاليا الحديثة: تاريخ أوربا الحديث لجفري براون (ص434 - 442).

[3] هكذا ضبطها ياقوت في معجم البلدان (3 /416)، وقال: وأكثر أهل صقلية يفتحون الصاد واللام. انتهى.

ولعلَّ هذا هو مرجع مَن ضبطَها بالفتح، كالسَّمعاني في الأنساب (3 /549)، وابن الأثير في اللباب (2 /245)، وابن خلكان في وفيات الأعيان (3 /215)، وقد زاد الإمام الأخير في ضبطها تشديد اللام المفتوحة، وقد وقعت في بعض المصادر بالسين بدلا من الصاد، وهو وجه فيها، وليس خطأ، أو تحريفًا.

[4] هكذا ضبطها ياقوت في معجم البلدان (3 /209).

[5] انظر: المسلمون في أوروبا وأمريكا للدكتور علي المنتصر الكتاني - رحمه الله - (ص152)، والأقليات الإسلامية في أوربا لسيد عبدالمجيد بكر (ص101، 102).

[6] (ص307).

[7] ضَبطها بكسر الباء: ياقوت الحموي في "معجم البلدان" (1 /218)، وقال: بلدة على ساحل جزيرة صقلية، ومنها يُقْلَع إلى إفريقية، وانظر الحديث عنها مُفصَّلا: الروض المعطار للحميري (1 /28)، وأعادها (1 /390) باسم بدون ألف في أوَّلها (طرابنش).

[8] جمع اللِّحاف، وهو ما يُلْتَحَف به. انظر: المعجم الوسيط (2 /818).

[9] جمع نقاب. انظر: المصباح المنير للفيومي (2 /620).

[10] جمع خُفّ.

[11] لا شك أنَّ التَّحلِّي، والتَّخضُّب، والتَّعطُّر هو من زِينة نساء المسلمين الخَفِيَّة لا الظَّاهرة.

[12] مجلة المنار، المحرم 1342هـ، الموافق سبتمبر 1923م، والمقال بعنوان العرب في إيطالية في القرون الوسطى.

[13] هكذا بالصَّاد، والمشهور بالسين، وسيأتي ضَبْطُها عند الحديث عنها - إن شاء الله تعالى.

[14] لاحظ أنَّ المقال مكتوب في سبتمبر 1923م.

[15] نشر ذلك الخبر في مجلة المنار، وعلَّق عليه: الشيخ محمد رشيد رضا، عدد شوال سنة 1347هـ، الموافق أبريل 1929م.

[16] لقد أدرك موسوليني مع طُغيانه وكُفره مَغبَّة التَّبرُّج والسُّفور، وأبْصَر حَميد آثار الستر والعفاف، ففِطْرته أنقى من بعض من يتكلمون بألسنتنا، ويؤزُّون المرأة المسلمة ليل نهار على الخروج من ثوب الحياء والعِفَّة.

وثمة مواقف أخرى للعديد من وجهاء الغربيّين تشابه ذلك الموقف في إدراك أضرار التَّحلُّل والتَّهتُّك؛ فقد قال الشيخ محمد رشيد رضا - رحمه الله تعالى -: حدَّثني الأمير شكيب أرسلان في جنيف سويسرة عن طلعت باشا الصدر الأعظم – أي: للدولة العثمانية قبل زوالها -: أنَّ عاهل الألمان لمَّا زار الآستانة في أثناء الحرب – أي: الحرب العالمية الأولى - ورأى النساء التركيات سافرات، مُتبرِّجات، عَذَله – أي: لامه - على ذلك، وذكر له ما فيه من المفاسد الأدبية، والمَضارِّ الاقتصادية التي تَئنُّ منها أوربا، وتعجز عن تلافيها، وقال له: إنَّ لكم وِقاية من ذلك كله بالدِّين، أفتُزيلونها بأيديكم؟! انتهى من مقال بعنوان "الأحكام الشَّرعيَّة المتعلقة بالخلافة الإسلامية" (3) عدد جمادى الآخرة سنة 1341هـ، الموافق فبراير سنة 1923م.

[17] لا شكَّ أنَّهم جزء من الحضارة الأوربيَّة المعاصرة بمفاهيمها وأسسها.

المصدر: شبكة الألوكة