المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قلب سليم وفهم صحيح خير من علم كثير وفهم سقيم



أهــل الحـديث
30-12-2013, 12:30 AM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
قد يفتح الله على البعض بأن ييسر له سبل طلب العلم حتى يحصل على حظ وافر ، ويرزقه طلاقة في اللسان وقوة في البيان ، ولكنه لم يوفق للفهم الصحيح لهذه النصوص ،وإن وفق له حُرِم القلب السليم الذي لا ينجيه يوم القيامة سواه قال تعالى : (( يوم لا ينفع مال ولا بنون (88) إلا من أتى الله بقلب سليم (89)
قال ابن رجب رحمه الله : فمن استقامَ قلبُه ولسانُه استقامَ شأنُهُ كلُّه، فالقلبُ السليمُ هوَ الذي ليسَ فيه محبةُ شيءٍ مما يكرهُهُ اللَّهُ، فدخلَ في ذلكَ: سلامتُهُ من الشركِ الجليِّ.والخفي، ومن الأهواءِ والبدع، ومن الفسوقِ والمعاصِي؛ كبائرِهَا وصغائرِهَا الظاهرةِ والباطنةِ: كالرياءِ والعجبِ والغلِّ والغشِّ والحقدِ والحسدِ وغيرِ ذلكَ
وهذا القلبُ السليمُ هو الذي لا ينفعُ يومَ القيامةِ سواهُ؛ قالَ تعالى: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) . إذا سلمَ القلبُ لم يسكنْ فيه إلا الربُّ.
و قال الامام السعدي رحمه الله : والقلب السليم معناه الذي سلم من الشرك والشك ومحبة الشر والإصرار على البدعة والذنوب ويلزم من سلامته مما ذكر اتصافه بأضدادها من الإخلاص والعلم واليقين ومحبة الخير وتزيينه في قلبه وأن تكون إرادته ومحبته تابعة لمحبة الله وهواه تابعا لما جاء عن الله .
وأما الفهم الصحيح الذي يخدم مقاصد الشريعة ويحقق المصالح ويدرأ المفاسد عن هذا الدين فهذا لا يتأتى لأي أحد ، بل هو مما تفضل الله به على بعض الاتقياء النبلاء ، ففي الحديث الصحيح : (( من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين )) متفق عليه
والفقه شيء أعمق وأخص من العلم، إنه الفهم، والفهم الدقيق، ولذا نفاه الله تعالى عن الكفار والمنافقين، حين وصفهم بأنهم "قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ" لأنفال:65
وفي حديث أبي هريرة عند مسلم: (( الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا )).
وفي حديث أبى موسى في الصحيحين: (( مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل الغيث الكثير، أصاب أرضا، فكان منها نقية قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منهم طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم. ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به )).
فالحديث يمثل ما جاءت به النبوة من الهدى والعلم بالغيث العام الذي يحيي الأرض الميتة، كما تحيي علوم الدين القلوب الميتة. كما يمثل أنواع الناس في تلقيهم لهذا العلم بأنواع الأرض المختلفة. فأعلى الأصناف هو الذي يفقه العلم وينتفع به ويعلمه، فهو كالأرض الطيبة النقية التي تشرب الماء، فتنتفع به وتنبت الكلأ والعشب الكثير.
وأدنى من ذلك النوع الثاني: من لهم قلوب حافظة، وليست لهم أفهام ثاقبة، ولا رسوخ لهم في العقل يستنبطون به المعاني والأحكام، فهؤلاء يحفظونه حتى يأتي طالب محتاج متعطش لما عندهم من العلم، أهل للنفع والانتفاع، فيأخذه منهم، فينتفع به. فهؤلاء نفعوا بما بلغوا، فهذا الصنف بمنزلة الأرض الجدباء التي يستقر فيها الماء فتمسكه، حتى يأتي من يشرب منها ويسقي ويزرع، وهذا هو المشار إليه في الحديث المشهور: "نضر الله امرئ سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه".
والنوع الثالث: هم الذين ليس لهم فهم ولا حفظ، ولا علم ولا عمل، فهم كالأرض السبخة التي لا تقبل الماء، ولا تمسكه لغيرها.
فدل هذا الحديث على أن أرفع أصناف الناس درجة عند الله وعند رسوله: هم أهل الفهم والفقه، وبعدهم أهل الحفظ، .
وعن حقيقية الفقه في الدين يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : وَإِنَّمَا الْفِقْهُ فِي الدِّينِ فَهْمُ مَعَانِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِيَسْتَبْصِرَ الْإِنْسَانُ فِي دِينِهِ أَلَا تَرَى قَوْله تَعَالَى: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] فَقَرَنَ الْإِنْذَارَ بِالْفِقْهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفِقْهَ مَا وَزَعَ عَنْ مُحَرَّمٍ أَوْ دَعَا إلَى وَاجِبٍ وَخَوَّفَ النُّفُوسَ مَوَاقِعَهُ الْمَحْظُورَةَ لَا مَا هَوَّنَ عَلَيْهَا اسْتِحْلَالَ الْمَحَارِمِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ , وَمِمَّا يَقْضِي مِنْهُ الْعَجَبُ أَنَّ الَّذِينَ يَنْتَسِبُونَ إلَى الْقِيَاسِ وَاسْتِنْبَاطِ مَعَانِي الْأَحْكَامِ وَالْفِقْهِ مِنْ أَهْلِ الْحِيَلِ هُمْ أَبْعَدُ النَّاسِ عَنْ رِعَايَةِ مَقْصُودِ الشَّارِعِ وَعَنْ مَعْرِفَةِ الْعِلَلِ وَالْمَعَانِي وَعَنْ الْفِقْهِ فِي الدِّينِ، فَإِنَّك تَجِدْهُمْ يَقْطَعُونَ عَنْ الْإِلْحَاقِ بِالْأَصْلِ مَا يُعْلَمُ بِالْقَطْعِ أَنَّ مَعْنَى الْأَصْلِ مَوْجُودٌ فِيهِ، وَيُهْدِرُونَ اعْتِبَارَ تِلْكَ الْمَعَانِي، ثُمَّ يَرْبِطُونَ الْأَحْكَامَ بِمَعَانِي لَمْ يُومِئْ إلَيْهَا شَرْعٌ وَلَمْ يَسْتَحْسِنْهَا عَقْلٌ. {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40] وَإِنَّمَا سَبَبُ نِسْبَةِ بَعْضِ النَّاسِ لَهُمْ إلَى الْفِقْهِ وَالْقِيَاسِ مَا انْفَرَدُوا بِهِ مِنْ الْفِقْهِ وَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ رَأْيٌ مَحْضٌ صَدَرَ عَنْ فِطْنَةٍ وَذَكَاءٍ كَفِطْنَةِ أَهْلِ الدُّنْيَا فِي تَحْصِيلِ أَغْرَاضِهِمْ فَتَسَمَّوْا بِأَشْرَفِ صِفَاتِهِمْ وَهُوَ الْفَهْمُ الَّذِي هُوَ مُشْتَرَكٌ فِي الْأَصْلِ بَيْنَ فَهْمِ طُرُقِ الْخَيْرِ وَفَهْمِ طُرُقِ الشَّرِّ إذْ أَحْسَنُ مَا فِيهِمْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَهْمُهُمْ لِطُرُقِ تِلْكَ الْأَغْرَاضِ وَالتَّوَصُّلُ إلَيْهَا بِالرَّأْيِ.
فَأَمَّا أَهْلُ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ وَبِأَمْرِهِ فَعِلْمُهُمْ مُتَلَقًّى عَنْ النُّبُوَّةِ إمَّا نَصًّا أَوْ اسْتِنْبَاطًا فَلَا يَحْتَاجُونَ إلَى أَنْ يُضِيفُوهُ إلَى أَنْفُسِهِمْ وَإِنَّمَا لَهُمْ فِيهِ الِاتِّبَاعُ فَمَنْ فَهِمَ حِكْمَةَ الشَّارِعِ مِنْهُمْ كَانَ هُوَ الْفَقِيهُ حَقًّا وَمَنْ اكْتَفَى بِالِاتِّبَاعِ لَمْ يَضُرَّهُ أَنْ لَا يَتَكَلَّفَ عِلْمَ مَا لَا يَلْزَمُهُ إذَا كَانَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ مَعَ أَنَّهُ هُوَ الْفِقْهُ الْحَقِيقِيُّ وَالرَّأْيُ السَّدِيدُ وَالْقِيَاسُ الْمُسْتَقِيمُ - وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. الفتاوى الكبرى (6/172) دار الكتب العلمية ط1 / 1408هـ
ويقول ابن القيم رحمه الله مبينا فضل الفهم في الدين : وأسعد الناس بالخطاب ما التقى فيه فهم السامع ومراد المتكلم وهذا هو حقيقة الفقه الذي أثنى الله ورسوله به على أهله وذم من فقده فقال تعالى: {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون7] وقال: {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} [النساء78] وقال في الثناء على أهله: {قَدْ فَصَّلْنَا الآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} [الأنعام98] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ". الصواعق المرسلة ( 2/501) دار العاصمة ط1 /1408هـ
أسأل الله تعالى أن يرزقنا الفهم الصائب للنصوص وحسن التعامل معها مع القلب السليم الذي يحب الخير لكل الناس .

بقلم : نصرالدين بلقاسم الجزائري