المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : لون نادر من التراجم



أهــل الحـديث
21-12-2013, 09:50 AM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


لون نادر من التراجم

حسام الحفناوي

الحمدُ لله وحدَه، والصلاة والسَّلام على من لا نبيَّ بعده، وبعد:

لقد شهِدت تصانيف المؤرِّخين ألوانًا مُختلِفة من مناهج التَّأريخ وطرائقه، فبعضهم يجعل تاريخَه مرتَّبًا على السنين، وبعضُهم يجعله على الحروف، ومنهم من يخص طائفة، أو بلدًا، أو مدينة، أو فترة زمنيَّة، أو شخصًا، أو علمًا من العلوم، أو ظاهرةً من الظواهر، إلى غير ذلك من طرائق التَّصنيف في التاريخ، مما يعسر حصْرُه إلا بدراسة مستفيضة، ولعلَّ الله تعالى ييسِّر قريبًا إفْراد ذلك الموضوع بمقالٍ على وجْه الإجمال.

وسوف نتعرَّض في كلامِنا هُنا - إن شاء الله تعالى - للون من ألوان الترجمة للأفراد، وهو باب واسع قد أكثر فيه المؤرِّخون وغيرهم، فلا يكاد يَخلو ثبت مصنَّفات مؤرِّخ من المؤرخين من ترجمة لسلطان، أو خليفة، أو وزير، أو فاتح، أو إمام، أو غيرهم من أهْل الطوائف، بل يكثر في مصنفات أصحاب الفنون المتنوِّعة من إفراد إمامٍ من أئمَّة فنِّهم بالترجمة، لا سيَّما إن كانوا ممَّن تلمذ له، وثنى ركبتَيْه عنده.

ومن ألوان تراجم الأفراد ما يتسنَّى لنا أن نسمِّيه بالسير الذاتية، وهي تلكم التراجم التي خطَّها أصحابُها إفصاحًا عن سيرتِهم بأنفسهم، ومن أعرف بسيرة المرء من نفسه؟!

غير أنَّ اللون الذي نودُّ توجيه النَّظر إليه ها هنا هو لون من السير الذاتية، لم يعمد أصحابه إلى وضْع تصنيف يترجمون فيه لأنفسهم، وإنما نثروا مفرداتها في ثنايا تواليفهم، وبين زواياها، فقام مَن جاء بعدهم باستقراء تلك التواليف، واستخراج ما عساه أن يفيد في الترجمة لأصحابِها، والتأليف بين المفردات المتناثرة في خبايا زواياها، وترتيبها وَفْقًا لمنهج التأليف في كتُب التراجم، فتخرج لنا سيرة ذاتية كتبَ صاحبُها مفرداتها بنفسه، وإن لم يكن قد أفردها بتصنيف، أو خصها بتأليف.

ومما يعين من تصدَّوا لذلك النوع من التراجم على صنيعِهم المذكور: كونُ المُصَنِّف من المُكْثرين، وأعون منه لهم أن يكون ممن يستَشْهِدون في ثنايا تصانيفِهم بوقائع عاصروها، أو أحداثٍ وقعت لهم، لا سيَّما إن كان ذلك مشفوعًا بذكر التاريخ والمكان، فهنالك يَجد المؤرِّخ اللبيب طلبته، ويحظى بما ينتظم به العقد من حبات اللؤلؤ[1].

وقد مرَّ بي اللَّون المتحدَّث عنه، أثناء البحث المطوَّل في مصادر ترجَمة رأْس القائلين بوحدة الوجود[2] محيي الدين بن عربي الطَّائي، وأنا أتصفَّح أقوال الذَّامِّين له، والذَّابِّين عنه، والمتوقِّفين فيه، وهو ما وجدتُه مسطورًا في كتاب "ابن عربي مذهبه وحياته"، لكاتبه المستشرق الأسباني القس آسين بلاثيوس[3]، والذي نقله إلى العربيَّة الفيلسوف المصري عبدالرحمن بدوي، فألفيته لونًا جديرًا بالاعتناء، تمسُّ إليه الحاجة في كشْف كثير من جوانب حياة مشاهير المصنفين في شتى العلوم، لا سيما أئمَّة الدين، وحملة الشريعة المطهرة.

ولسنا معنيِّين في هذه السطور ببيان الموقف الشرعي الصحيح من تراث ابن عربي؛ فقد أفاض في ذلك من علماء أهل السنة - بل وغيرهم - الكثيرون[4]، ولا يعكر علينا ما نحن بصدد بيانه من ذلك اللون من التراجم كونُه قد جاء في مصنَّف أحد المستشرقين، الذين غالى كثير من مقطوعي الصِّلة بتراث أئمَّة المسلمين الزَّاخر في بيان مناقبهم، وعظيم فضلهم – زعموا - على التراث الإسلامي، بالرَّغم من سوء قصد أكثرهم، وعدم تميُّز أعمال جلِّهم عمَّا خطته أيدي فحول المحققين، وجهابذة الباحثين من المسلمين، لكن الشَّأن هنا في إلقاء الضوء على المقصد الأساس من كتابة المقال، وهو ما يميز ذلك اللون من التراجم من توثيق في المعلومات، وإبداع في الطرح.

ولو أنَّنا أمعنَّا النَّظر في هذا النَّوع لوجدنا كثيرًا من الأبْحاث والدِّراسات التَّاريخيَّة المُعاصرة مفتقِرةً إليه أشدَّ الافتِقار، شريطةَ أن يتم في صورته الكاملة، لا في صورة جزئيَّة تكتفي بالتيمُّم مع وجود الماء، ولا تعرِفُ لطول النَّفس في البحث سبيلاً؛ فإنَّ قصر النفس لدى الباحث حالقة تحلق حصيلتَه العلميَّة، وتلحقه بركب أبي شبر، وما أبأسه من لقب!

ومن ثمَّ؛ كان الخير المحصل من تطبيق ذلك النَّوع في الدراسات التاريخية إنما يُرجى مع الاستقراء الكامل لكل ما وصل إلى أيدينا من تآليف المُتَرْجَم، وإمعان النظر فيها.

ومن أراد التحرير والتدقيق، فلا يجد مناصًا من ضم تصانيف التَّلاميذ الملاصقين للشيخ المُتَرْجَم لتصانيفه في استقراء سيرته؛ لأنَّ ما ينقله التلاميذ عن شيوخهم في ثنايا تصانيفهم من الفتاوى والأقوال، والوقائع والأحوال - يمثل موردًا خصبًا من موارد الترجمة، ومَعينًا لا ينضب في تَحرير ما قد يُشكِل من جوانبِها.
ـــــــــــــــــــــــــ
[1] جدير بالذكر أن مصنفات الصوفية مشحونة بالحكايات والأخبار؛ لما عُلم من شغف القوم بحكاية خوارق العادات، والهواتف، والمنامات، ونحوها.
[2] القول بوحدة الوجود يغاير القول بالحلول والاتحاد، بل يضاده، فالقول بالحلول يقتضي التغاير بين الخالق والمخلوق؛ لكي يحدث الحلول والاتحاد في زعمهم، وهذا ما ينفيه أهل الوحدة، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.
[3] أكثر نقول بلاثيوس كانت من الفتوحات، وهو من أوسع تصانيف ابن عربي إن لم يكن أوسعها، مع الأخذ في الاعتبار أن بلاثيوس قد بحث في الكتاب تأثر الصوفية عمومًا - وابن عربي خصوصًا - بالتراث النصراني، وتأثير ابن عربي في الفكر النصراني والشيعي في عصور تَلَتْه، فلم يكن الكتاب ترجمة خالصة.
[4] المدافعون عن ابن عربي، والمتوقِّفون فيه ليس لهم إلا أحد سبيلين لا ثالث لهما: إما التشكيك في نسبة الكلام الصريح في الوحدة له، أو محاولة تأويله تأويلات بعيدة متكلَّفة، وإن لم يجدوا تأويلاً متكلَّفًا، قالوا: لعل هناك تأويلاً، وكلا الأمرين لا يفيدانِهما شيئًا في الدفاع عنه، أو التوقف فيه، فكلامه في الوحدة كثير، متناثر في تصانيفه - وليس في فصوص الحكم فحسب - ووصفه بذلك كثير من متصوِّفة عصره الذين لقوه، وكثير من كلامه لا يمكن تأويله، بل الذهاب إلى تأويله يعد استخفافًا بالعقول إلى أبعد الحدود؛ لأنها لم تكن عبارات مشكِلة في ثنايا كلام له، بل كانت شرحًا لمذهب يدين به الرجل، ويبسط الأدلَّة عليه، ففرق بين فلتة لسان أو سبق قلم لم يحسن صاحبه التعبير عنه، ولم يقصد ما بدا لنا منه، ومذهب كامل يشرحه صاحبه وينتصر له، فكيف يؤول مثل هذا؟ وإنَّما عمدت إلى الإشارة إلى نتاج المخالفين لأهل السنة بشأن ابن عربي؛ إظهارًا لوضوح أمره وضوحًا خرج عن كونه مما يختص أهل السُّنة بمعرفته وبيانه، بل تعداهم إلى غيرهم.
هذا مع كون إجماعهم لا يفتقر إلى غيرهم، ولا ينخرق بمخالفته.

المصدر الأصلي: شبكة الألوكة