المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مسالخ التَّجريح



أهــل الحـديث
05-12-2013, 05:40 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


إن تعقَّبت الأمور كلَّها، وتدبَّرت أحوال الدنيا انتهيت إلى أن الحقيقة هي العمل للآخرة فقط.. وذلك أنَّ كلَّ أملٍ ظفرت به فعقباه حزن إما بذهابه عنك، وإما بذهابك عنه، ولا بد من أحد هذين السبيلين إلا العمل لله تعالى فعقباه على كلِّ حال سرور في الدنيا والآخرة.

فإذا فهمت هذا فاعلم:
أنَّ مِحَن الإنسان في دهره كثيرة، ومن أعظمها محنته بأهل نَوْعِهِ من الإنس، وأعظم هذه المحنة اتهام النَّاس بالباطل، وتجريحهم، والافتراء عليه، وأخذهم بالظن والوهم والاحتمال، وإطلاق الأحكام عليهم دون بيِّنة وتثبُّت.

ومن صور هذه المحنة:
1- نصب مسالخ التجريح ومشانق التسفيه والافتراء للشَّخص أو الجماعة أو الطَّائفة المراد إماتتها والقضاء عليها ماديًا ومعنويًا، بواسطة ألسِنة شقيَّة كالسِّياط، تُختار بعناية ودقة، دأبها التَّربُّص والتَّرصُّد وتتبُّع العورات والعثرات والزلَّات والهفوات -للشَّخص المراد أو الجماعة-، والفرح بها، واستخدامها بحرفيَّة وإذاعتها بين النَّاس، وهم من قبل قد صنعوا التوابيت حتى إذا قضى الأمر قبروهم فيها.

2- إيقاع الحكم بالكفر أو الفسق أو البدعة على شخص معيَّن أو جماعة معيَّنة من غير تحقق شروط ذلك، وانتفاء الموانع، وقيام الحجة، وإزالة الشبهة، وكذا بلازم القول أو المذهب دون أن يلتزم المعين هذا اللازم ويصرح به.

3- الحكم على فرد بمجرد انتمائه إلى طائفة أو جماعة، والحكم على طائفة أو جماعة من خلال فرد فيها.

4- قيام بعض المنتسبين إلى العلم والدعوة بالافتراء والوقوع في أعراض الأحياء والأموات وتنزيل الأحكام القاسية عليهم دون بيِّنة من القول بحجة التقويم والإصلاح أو سدِّ الذرائع، أو بحجة أن فلانًا من الوجهاء لديهم قد أساء إلى هؤلاء من قبل!، أو بتأويل تستغربه النفوس، وتمجُّه العقول.

"ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام، والظلم، والسرقة، وشرب الخمر، ومن النظر المحرم، وغير ذلك. ويصعب عليه التَّحفظ من حركة لسانه، حتى ترى الرجل يُشار إليه بالدين، والزهد، والعبادة، وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله لا يلقى لها بالًا، ينزل بالكلمة الواحدة منها أبعد ما بين المشرق والمغرب، وكم ترى من رجل متورِّع عن الفواحش والظلم ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات لا يبالي ما يقول"؛ الداء والدواء لابن القيم.

5- تفشِّى الغيبة في مجالس النَّاس ونواديهم وإعلامهم. ومن صور ذلك:
" أ- فمن النَّاس من يغتاب موافقة لجلسائه وأصحابه وعشائره، مع علمه أن المغتاب برئ مما يقولون، أو فيه بعض ما يقولون، لكن يرى أنَّه لو أنكر عليهم قطع المجلس واستثقله أهل المجلس ونفروا عنه، فيرى موافقتهم من حسن المعاشرة وطيب المصاحبة، وقد يغضبون فيغضب لغضبهم فيخوض معهم.

ب- ومنهم من يخرج الغيبة في قوالب شتي‏. تارة في قالب ديانة وصلاح، فيقول‏: ليس لي عادة أن أذكر أحدًا إلا بخير، ولا أحب الغيبة ولا الكذب، وإنما أخبركم بأحواله‏. ويقول‏: والله إنه مسكين، أو رجل جيد؛ ولكن فيه كيت وكيت‏. وربما يقول‏: دعونا منه، الله يغفر لنا وله، وإنما قصده استنقاصه وهضمًا لجنابه‏، ويخرجون الغيبة في قوالب صلاح وديانة، يخادعون الله بذلك، كما يخادعون مخلوقًا، وقد رأينا منهم ألوانًا كثيرة من هذا وأشباهه‏. ‏

ج- ومنهم من يرفع غيره رياء فيرفع نفسه، فيقول‏: لو دعوت البارحة في صلاتي لفلان، لما بلغني عنه كيت وكيت، ليرفع نفسه ويضعه عند من يعتقده‏، أو يقول‏: فلان بليد الذهن قليل الفهم، وقصده مدح نفسه، وإثبات معرفته، وأنه أفضل منه‏. ‏

د- ومنهم من يحمله الحسد على الغيبة فيجمع بين أمرين قبيحين‏: الغيبة، والحسد‏. وإذا أثني على شخص أزال ذلك عنه بما استطاع من تنقصه في قالب دين وصلاح، أو في قالب حسد وفجور وقدح؛ ليسقط ذلك عنه‏. ‏

هـ- ومنهم من يخرج الغيبة في قالب سخرية ولعب، ليضحك غيره باستهزائه ومحاكاته واستصغار المستهزئ به‏. ‏

و- ومنهم من يخرج الغيبة في قالب التعجب، فيقول‏: تعجبت من فلان كيف لا يفعل كيت وكيت‏؟‏‏!‏ ومن فلان كيف وقع منه كيت وكيت‏؟‏ وكيف فعل كيت وكيت‏؟‏ فيخرج اسمه في معرض تعجبه‏. ‏

ح- ومنهم من يخرج الاغتنام، فيقول‏: مسكين فلان، غمني ما جري له وما تم له، فيظن من يسمعه أنه يغتم له ويتأسف وقلبه منطو على التشفي به، ولو قدر لزاد على ما به، وربما يذكره عند أعدائه ليشتفوا به‏. وهذا وغيره من أعظم أمراض القلوب والمخادعات لله ولخلقه‏. ‏

ط- ومنهم من يظهر الغيبة في قالب غضب وإنكار منكر، فيظهر في هذا الباب أشياء من زخارف القول، وقصده غير ما أظهر، والله المستعان‏‏"؛ مجموع الفتاوى لابن تيمية (28/237-238).

لسان يتلقى عن لسان بلا تدبُّر ولا تثبُّت..

وكم أورثت هذه التُّهم والافتراءات الباطلة من أذى للمكلوم بها.. ولكن حسبه أن يتذكر ويتلو قوله تعالى يعزِّي نبيَّه - صلى الله عليه وسلم -: ﴿ مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [فصلت: 43].

وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 58].

وقال- صلى الله عليه وسلم -: " أَتَدْرُونَ ما الْمُفْلِسُ"؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال" إِنَّ الْمُفْلِسَ من أُمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شَتَمَ هذا وقَذَفَ هذا، وأَكَلَ مَالَ هذا، وَسَفَكَ دَمَ هذا وَضَرَبَ هذا، فَيُعْطَى هذا من حَسَنَاتِهِ وهذا من حَسَنَاتِهِ، فإن فنيت حَسَنَاتُهُ قبل أَن يُقْضَى ما عليه أُخِذَ من خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عليه ثم طُرِحَ في النار ". رواه مسلم (2581).

واعلم أنَّه لا يجوز للإنسان أن يتكلم في غيره إلا:
1- بعلم.

2- عدل وإنصاف - إن احتاج إلى ذلك شرعًا - وإلا فالصَّمت في هذا الموضع أَعْوَد على صاحبه من النُّطق؛ لأنَّ الصَّمت عن المجهول أو المشكوك في ثبوته أنفع من النُّطق بالمظنون والمتوهَّم والمحتمل. والتَّظاهر بالعجز في موضعه كالاستطالة بالقدرة في موضعها.

قال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَر وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا ﴾ [الإسراء: 36].

وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المائدة: 226].

وعليه فألق سمعك لما يأتي:
1- " مَن سلك طريق الاعتدال عظَّم من يستحق التعظيم وأحبه ووالاه وأعطى الحق حقه فيعظِّم الحق ويرحم الخلق ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات فيُحمد ويُذم ويُثاب ويُعاقب ويُحب من وجه ويُبغض من وجه هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافًا للخوارج والمعتزلة ومن وافقهم"؛ (منهاج السنة لا بن تيمية 4/544).

2- "الإنسان عليه أولًا أن يكون أمره لله، وقصده طاعة الله فيما أمره به، وهو يحب صلاح المأمور، أو إقامة الحجة عليه، فإن فعل ذلك لطلب الرياسة لنفسه ولطائفته، وتنقيص غيره، كان ذلك حميَّة لا يقبله الله، وكذلك إذا فعل ذلك لطلب السمعة والرياء كان عمله حابطًا، ثم إذا رُدَّ عليه ذلك وأوذي أو نُسب إلى أنَّه مخطئ وغرضه فاسد، طلبت نفسه الانتصار لنفسه، وأتاه الشيطان، فكان مبدأ عمله الله، ثم صار له هوى يطلب به أن ينتصر على من آذاه، وربما اعتدى على ذلك المؤذي.. " (منهاج السنة 5/254-255).

3- ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِين ﴾ [الحجرات: 6].

لا تقبل ولا تجب عن كلام نُقل إليك عن قائل حتى توقن أنه قاله، فإنه مَن نقل إليك كذبًا رجع من عندك بحق. " (الأخلاق والسير لابن حزم ص100).

وكما قال الحسن البصرى: "المؤمن وقَّاف حتى يتبيَّن".

4- الحرص على عدم إذاعة الشيء إلا بعد التيقن من ثبوته ومن معناه والمعرفة به، يؤخذ من قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ﴾ [النساء: 83] وهذا إنكار عليهم.. (انظر تفسير سورة النساء- ابن عثيمين 2/24).

5- لا يجوز لك أن تتعدى الظاهر الذى يبدو من الإنسان، حتى وإن وجدت قرائن تدل على خلاف ظاهره. والدليل: قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا ﴾ [النساء: 84] (انظر تفسير سورة النساء لابن عثيمين 2/96).

• وقام رجل إليه -صلى الله عليه وسلم - وهو يقسِّم مالًا بين أصحابه، فقال: يا رسولَ اللهِ اتقِ اللهَ، قال: (وَيلَك، أوَ لستُ أحقَّ أهلِ الأرضِ أن يتَّقِيَ اللهَ). قال: ثم ولَّى الرجلُ. قال خالدُ بنُ الوليدِ: يا رسولَ اللهِ، ألا أضرِبُ عُنُقَه؟ قال: (لا، لعلَّه أن يكونَ يُصلِّي). فقال خالدٌ: وكم من مُصلٍّ يقولُ بلسانِه ما ليس في قلبِه، قال رسولُ اللهِ- صلى الله عليه وسلم -: "إني لم أومَرْ أن أُنَقِّبَ قلوبَ الناسِ ولا أشُقَّ بطونَهم" (البخاري: 4351).

• عن أسامة بن زيد قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سرية. فصبحنا الحرقات من جهينة. فأدركت رجلا. فقال: لا إله إلا الله. فطعنته فوقع في نفسي من ذلك. فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" أقال: لا إله إلا الله وقتلته؟ " قال قلت: يا رسول الله! إنما قالها خوفا من السلاح. قال "أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا "، فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ، قال فقال سعد: وأنا والله لا أقتل مسلمًا حتى يقتله ذو البطين يعني أسامة، قال: قال رجل: ألم يقل الله: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ﴾ [الأنفال: 39]، فقال سعد: قد قاتلنا حتى لا تكون فتنة، وأنت وأصحابك تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة). (الأنفال / آية 19 )" (مسلم: 96).

فالأحكام في الدنيا تجري على الظاهر وآخر الأمر والله يتولى السرائر.

6- " وإذا كان الرجل يترك الصلوات، ويرتكب المنكرات، وقد عاشره مَن يخاف أن يفسد دينه: بيَّن أمرَه له لتُتَّقى معاشرته.

• وإذا كان مبتدعًا يدعو إلى عقائد تخالف الكتاب والسنة أو يسلك طريقا يخالف الكتاب والسنة، ويخاف أن يُضِلَّ الرجلُ الناسَ بذلك: بيَّن أمرَه للنَّاس ليتَّقوا ضلاله ويعلموا حاله.

• أن يستشار الرجل في مناكحته ومعاملته أو استشهاده ويعلم أنه لا يصلح لذلك؛ فينصحه مستشاره ببيان حاله كما ثبت في الصحيح أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم -قالت له فاطمة بنت قيس: قد خطبني أبو جهم ومعاوية فقال لها: " أما أبو جهم فرجل ضراب للنساء وأما معاوية فصعلوك لا مال" (مسلم: 1480) فبيَّن النَّبيَّ- صلى الله عليه وسلم - حال الخاطبين للمرأة.

وهذا كلَّه يجب أن يكون على وجه النُّصح وابتغاء وجه الله تعالى لا لهوى الشخص مع الإنسان: مثل أن يكون بينهما عداوة دنيوية أو تحاسد أو تباغض أو تنازع على الرئاسة فيتكلم بمساوئه مظهرا للنصح وقصده في الباطن الغض من الشخص واستيفاؤه منه فهذا من عمل الشيطان و"إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" بل يكون الناصح قصده أن الله يصلح ذلك الشخص وأن يكفي المسلمين ضرره في دينهم ودنياهم ويسلك في هذا المقصود أيسر الطرق التي تمكنه "؛ (مجموع الفتاوى لابن تيمية: 28/220-221).

7- وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ ﴾ [الشعراء: 183].

احترم ما عند الآخرين من الخير، ولا تنكر على مَن أكثر الإساءة إذا أحسن في النُّدرة فإنه من قبيح الظلم.

8- قال- صلى الله عليه وسلم -: " مَن ذَبَّ عَن عِرْضِ أخِيهِ بِالغِيبةِ، كان حقًّا على اللهِ أنْ يُعْتِقَه من النارِ " (صحيح الجامع: 6240).

9- روى مِسعَر عن ابن عون قال: ذكر الناس داء، وذكر الله دواء.

قلت - أي الذهبي -: إي والله فالعجب منا ومن جهلنا، كيف ندع الدَّواء، ونقتحم الدَّاء، قال الله تعالى: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ﴾ [البقرة: 152] ﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾ [العنكبوت: 45]، وقال ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28].

ولكن لا يتهيأ ذلك إلا بتوفيق الله، ومن أدمن الدعاء، ولازم قرع الباب فتح له.

والحمد لله ربِّ العالمين.


http://www.alukah.net/Social/0/63421/