المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المنهج الوسط في عبادة الله تعالى



أهــل الحـديث
30-11-2013, 02:40 AM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم





المنهج الوسط في عبادة الله تعالى





الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد سيد الأولين والآخرين ، وعلى آله الطيبين وأصحابه الغر المحجلين ، وبعد : ...
أمر الله تعالى بعبادته وبيَّن الحكمة من خلق الخلق لأجل توحيده وإفراده بالعبادة فقال عز وجل : (( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ )) قال العلماء : أي يوحدون . ولسنا نتطرق إلى توحيد رب العالمين فلنا وقفة إن شاء الله مع هذا الموضوع العظيم . لكننا نقف مع منهج الوسط في عبادة الله عز وجل ؛ ذلك أن الناس فيه ثلاثة أصناف . طرفين ووسط ، طرف مغال ، وطرف جاف ، وطرف معتدل متمسك بما أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم .
وموضوعي ينطلق من حديث الرهط الثلاثة الذين جاءوا النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته.
فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أخبروا كأنهم تقالوها ، فقالوا : وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر .
قال أحدهم : أما أنا فإني أصلي الليل أبداً .
وقال آخر : أنا أصوم الدهر ولا أفطر .
وقال آخر : أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً .
فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ، فقال : " أنتم الذين قلتم كذا وكذا ، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ، لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني " .
هذا الحديث أصل في بناء شخصية المسلم على منهج الوسطية والاعتدال ، ويا لله ما أعظم رد معلم البشرية صلى الله عليه وسلم ، وكيف غرس في نفوسهم بيان دينه السمح ، وأن الاقتصاد في العبادة مع المداومة خير من الإكثار مع الترك ، وهذا ما كان يربي عليه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ، فقد أخرج أحمد في مسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان أحب الصلاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما داوم عليها وإن قلَّت .
ولا بأس لمن كان له نشاط أن يزيد في عبادته ، وليس هذا موضوعنا ، لكن الإفراط والتفريط نقيضان لا يجتمعان ولا يزيدان صاحبهما إلا وهناً . وخيرهما الوسط العدل . أما ترى النبي صلى الله عليه وسلم كيف عالج الرهط الثلاثة مع أن مطلبهما خير : عبادة وزيادة فيه ، ولو أعدنا النظر في مقترحهم ما وجدنا في الظاهر إلا خيراً لكن ما هكذا ربى محمد صلى الله عليه وسلم أصحابه :
الأول : يصلي الليل أبداً ، بمعنى يصلي ولا ينام الليل . ظاهر الأمر مطلب خير . لكن من أمعن النظر وجد في نهيه صلى الله عليه وسلم أموراً .
أولها : مخالفتهم للقرآن الكريم الذي قسم عبادة الليل للنبي صلى الله عليه وسلم فقال الله تعالى : ((إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ )) . قال بعض المفسرين : ذكر الله في أول هذه السورة أنه أمر رسوله بقيام نصف الليل أو ثلثه أو ثلثيه ، والأصل أن أمته أسوة له في الأحكام ، وذكر في هذا الموضع ، أنه امتثل ذلك هو وطائفة معه من المؤمنين . ولما كان تحرير الوقت المأمور به مشقة على الناس ، أخبر أنه سهل عليهم في ذلك غاية التسهيل فقال : (( وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ )) أي : يعلم مقاديرهما وما يمضي منهما ويبقى .
فانظر إلى رحمة الله تعالى كيف قسم الليل وقيامه رأفة ورفعاً للحرج على نبيه صلى الله عليه وسلم وأمته . وهؤلاء كيف شددوا على أنفسهم .
الثاني : مخالفتهم النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان يصلي الليل وهو أشد عبادة وخشية لله وقد جاء في صحيح البخاري عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال : قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه ..، ومع هذا القيام منه صلى الله عليه وسلم كان ينام الليل وبه أجاب الرهط .
الثالث : أن الدين جاء برفع الحرج والمشقة والتيسير على الأمة ، وهذا ما لا يطيقه الإنسان كما فيه تعب النفس وهلاكها ، فإن للنفس حظاً من النوم ، كما للأهل حظاً .
الرابع : لو أجاز لهم صلى الله عليه وسلم ذلك لابتدع الناس في دين الله تعالى ، ولأدخلوا فيه حسب أهواءهم ورغباتهم . وبه أجاب النبي صلى الله عليه وسلم : " فمن رغب عن سنتي فليس مني " .
قول الرجل الثاني : أنا أصوم الدهر ولا أفطر .
وفيه ما قدمناه وزيادة :
أولاً : أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن خير الصيام صيام داود عليه السلام فقد أخرج البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمرو : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا عبد الله ، ألم أخبر أنك تصوم النهار ، وتقوم الليل ؟ " ، فقلت : بلى يا رسول الله قال : " فلا تفعل صم وأفطر ، وقم ونم ، فإن لجسدك عليك حقاً ، وإن لعينك عليك حقاً ، وإن لزوجك عليك حقاً ، وإن لزورك عليك حقاً ، وإن بحسبك أن تصوم كل شهر ثلاثة أيام ، فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها ، فإن ذلك صيام الدهر كله " ، فشددت ، فشدد علي قلت : يا رسول الله إني أجد قوة قال : " فصم صيام نبي الله داود عليه السلام ، ولا تزد عليه " ، قلت : وما كان صيام نبي الله داود عليه السلام ؟ قال : " نصف الدهر " ، فكان عبد الله يقول بعد ما كبر : يا ليتني قبلت رخصة النبي صلى الله عليه وسلم .
وهذا الحديث فيه أيضاً دلالة لما سبق من عدم التشدد على النفس ، وحملها ما لا تطيق . وبيان الحقوق المتعلقة بالعبد من العباد كحق الزوجة والضيف ، وفيه نتيجة المخالفة والتشدد من عدم قبول رخصة النبي صلى الله عليه وسلم .
ثانياً : مخالفة الرجل لهدي النبي صلى الله عليه وسلم من نهيه عن صيام الدهر فقد أخرج ابن خزيمة في صحيحه عن مطرف ، عن أبيه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من صام الدهر ما صام ، وما أفطر ، أو لا صام ولا أفطر " . وهو ما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم الرجل فقال :" فمن رغب عن سنتي فليس مني " .
أما الرجل الثالث : أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً ..
أيضاً قد خالف الكتاب والسنة :
فالله عز وجل يقول : (( فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا )) .
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول رداً على الرجل الثالث : " وأتزوج النساء " . ولأن الإنسان بطبيعته التي خلقها الله تعالى يحتاج إلى من يستأنس معه ويشاركه أمره قال تعالى : ((وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا )) ليناسبها ، فيسكن إليها ، وتتم بذلك النعمة ، ويحصل به السرور .
ثم أعطى النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء المتنطعون المشددون على أنفسهم بما لم يوجبه الله تعالى ولا نبيه صلى الله عليه وسلم علاجاً لمن أراد السير على منهاجهم أو اقتفاء طريقتهم بأنه ليس من هديه ولا من سنته هذا الفعل " فمن رغب عن سنتي فليس مني " ، وإن كنتم تظنونه خيراً كما قال ابن مسعود رضي الله عنه : وكم من مريد للخير لن يصيبه . لكن ما لم يكن على هدي النبي صلى الله عليه وسلم فليس لأحد فعله وإن كان في نفسه خيراً .
ويقابل هذا الجانب المتنطع المتشدد ، جانب التساهل والاتكال وإن شئت فسمهم المتكاسلين ، الذين لا يحيون سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ولا يقيمون لها وزناً ، وليس لهم من الإسلام إلا اسمه ، وليس لهم من القرآن إلا رسمه . فالشهوات عندهم مفتوحة على مصراعيها ، والدنيا قد دخلت قلوبهم حتى تمكنت منهم ، وإن عملنا مع الرهط الثلاثة مقارنة علمت النقيضين وبان لك الوسطية والاعتدال :
فالأول : يصلي الليل أبداً ، وهذا المتكاسل لا يعرفه الليل إلا نائماً وكما قيل جيفة في الليل ... والوسط بينهما ما روته عائشة رضي الله عنها قالت : لا تدع قيام الليل ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يذره ، وكان إذا مرض أو كسل ، صلى قاعداً .
والثاني : يصوم الدهر ولا يفطر ، وهذا المتكاسل يفطر الدهر ولا يصوم ، وكم رأينا وسمعنا من أناس لا يصومون حتى في رمضان . والوسط بينهما قول النبي صلى الله عليه وسلم : " وإن بحسبك أن تصوم كل شهر ثلاثة أيام ، فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها ، فإن ذلك صيام الدهر كله " وكان من هديه صلى الله عليه وسلم صيام الإثنين والخميس .
والثالث : يعتزل النساء ولا يتزوج ، والمتكاسل أطلق شهوته وما أمسكها ، وأحل لنفسه ما حرم ربه تعالى ، وتعدى حدوده ، والوسط بينهما قول الله تعالى : ((فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا )) ..
إن الإسلام دين الحق جاء بالحنفية السمحة ونهى عن الإفراط والتفريط ؛ فلا غلو ولا جفاء . بل الوسطية والاعتدال عقيدة ومنهاجاً ، شريعة وسلوكاً وآداباً .
فقد ذم الله تعالى الغلو فقال : (( وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا )) والرهبانية : المبالغة في العبادة .
وذم التفريط فقال عز وجل : ((فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا )) وهذا خروج عن منهج الوسطية فإنهم ضيعوا الصلاة وهم لما سواها من دينهم أضيع ، والسبب الداعي لذلك ، أنهم اتبعوا شهوات أنفسهم وإراداتها فصارت هممهم منصرفة إليها ، مقدمة لها على حقوق الله .
ثم أمر الله عز وجل بالوسطية والاعتدال مربياً عليها النفوس ومعلماً فقال عز وجل : (( وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا )) . وقال عز وجل : (( وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ )) . في آيات كثيرة تدل على عدم الإفراط الموصل إلى التشدد والتنطع ، وعدم التفريط الدال على التكاسل والتقاعس وكلاهما مذمومان ليس من ديننا في شيء .
هذا ولعلي أطلت النفس قليلاً . فما كان من صواب فمن الله ورسوله ، وما كان من خطأ وزلل فمن نفسي والشيطان . وأستغفر الله واتوب إليه .
والحمد لله أولاً وآخراً ... وصلى الله وسلم على نبينا محمد .


وكتبه
ناجي بن إبراهيم الدوسري
24 / محرم / 1435
من هجرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم