المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الحكمة والتعليل بين السلف والمتكلمين



أهــل الحـديث
12-11-2013, 03:40 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم




مسألة



الحكمة والتعليل بين السلف والمتكلمين

كل ما خلقه الله تعالى فله فيه حكمة، والحكمة تتضمن شيئين :
أحدهما : حكمة تعود إليه تعالى، يحبها ويرضاها .
والثاني : حكمة تعود إلى عباده، هي نعمة عليهم، يفرحون بها، ويلتذون بها، وهذا يكون في المألات وفي المخلوقات .
فهو سبحانه حكيم، لا يفعل شيئاً عبثاً ولا بغير معنى ومصلحة وحكمة، هي الغاية المقصودة بالفعل، بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة لأجلها فعل، كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل، وقد دل كلامه وكلام رسوله على هذا وهذا في مواضع لا تكاد تحصى ، وقد ذكر ابن القيم بعضها .
وقد وقع الخلاف في مسألة تعليل أفعال الله على أقوال والمشهور فيها ثلاثة أقوال :
القول الأول : وهو قول المعتزلة ومن وافقهم :-
قالوا إن هذا العالم إنما خلق لحكمة وعلة وهي حكمة وعلة تعود إلى المخلوق، وهذه الحكمة هي نفع الخلق والإحسان إليهم، هكذا قال المعتزلة وأحسنوا بإثبات الحكمة وأخطأوا خطأ فاحشاً بتحديد الحكمة وأنها تعود إلى المخلوق وأنها النفع والإحسان إليه، وبناءاً على هذا القول انحرفوا في نواح كثيرة من مسائل القدر .
حيث زعموا أن الله ما دام خلق الخلق لينفعهم فإنه يجب عليه أن يفعل بهم
كل ما يوصلهم إلى هذه الغاية، فقالوا بوجوب الصلاح والأصلح على الله عز وجل وأتوا بالطامات في هذا الباب، وشرعوا لله طريقاً زعموا أنه يجب عليه أن يسلكه مع عباده من ناحية الصلاح والأصلح، ولتقرر هذا الأمر عندهم أنكروا عموم قدرة الله عزوجل، فزعموا أنه لا يقدر أن يهدي ضالاً ولا أن يضل مهتدياً، كما أنكروا عموم المشيئة وأن العبد هو الذي شاء الكفر أو الإيمان، ومشيئة الله لا تتعلق بهذا الأمر، وأنكروا عموم خلق الله لكل شيء، فقالوا إن العبد يخلق فعله، كما قرروا لأجل قولهم بهذه الغاية من الخلق قاعدة التحسين والتقبيح العقلي، فجعلوا كل ما يحسن في نظر العبد يحسن من الله عزوجل فيجب أن يفعله لأنه خلقه لينفعه، وكل ما يقبح في نظر العبد فإنه يقبح من الله فيجب أن لا يفعله لأنه خلقه لينفعه، ووقعوا بسبب هذا الانحراف في تشبيه فعل الله بفعل خلقه، إذ مدار التحسين والتقبيح عندهم على حسب الحال المشاهد من الإنسان، وهذا غاية في القبح والتحكم في أفعال الله عزوجل وكفى به انحرافاً وفساداً، كما أنه على القول بالتحسين والتقبيح العقليين إنهم أنكروا العفو عن المذنب في الآخرة أو إخراجه من النار بالشفاعة أو غيرها، لأن هذا في زعمهم إغراء بالمعصية قبيح لا يفعله الله عز وجل عندهم، وكل قول من هذه الأقوال يدل على انحرافهم في هذا الباب وفساد قولهم إذ الحق يجب أن ينسجم مع جميع لوازمه، وما يترتب عليه باطل فهو باطل.
وهذا القول من المعتزلة في الحكمة والتعليل وما أداهم إليه من الأقوال المخالفة لصريح الشرع هو الذي جعل الأشاعرة ومن تابعهم ينفون الحكمة عن الله عز وجل، ويقابلون المعتزلة في كل نقطة من نقاط انحرافهم مقابلة الضد، فأنكروا التحسين والتقبيح العقليين ولم ينزهوا الله عن فعل ولا أمر لعدم الحكمة والغاية في خلقه وأمره عندهم ولأن الجميع ملكه وفي تصرفه، ولو نظر كل فريق من هؤلاء إلى الشرع لدلهم إلى الحق الذي لا يلزم منه اللوازم الفاسدة المخالفة للعقل والشرع في كلا القولين .
القول الثاني : قول من نفى الحكمة وأنكر التعليل :-
وهؤلاء الذين يقولون إن الله لم يخلق هذا العالم لغاية ولم يخلق شيئاً لشيء، وأوامره لا لعلة ولا لداع ولا باعث، بل فعل ذلك لمحض المشيئة والإرادة .
وهذا قول الأشعري وأصحابه، وبه قال طوائف من أتباع الأئمة الأربعة منهم القاضي أبي يعلى الحنبلي وابن الزاغوني وغيرهم .
ولهذا زعم هؤلاء أن جميع ما يفعله الله بالعباد لا علة فيه ولا حكمة سواء في ذلك من ناحية أمره وشرعه أو من ناحية فعله، فأجازوا من ناحية أمره أن يكلف العبد ما لا يطيق، وزعموا أن الأفعال ليس فيها حسن وقبيح قبل ورود الشرع، لأن الشرع هو المحسن والمقبح للأفعال، كما أجازوا من ناحية فعله أن يعذب الطائع ويثيب العاصي وينصر أعداءه ويخزي أولياءه وليس في ذلك خروج عن الحكمة ولا ظلم لأنه لا توجد حكمة عندهم في الفعل، أما الظلم فإن الظالم عندهم من تصرف بما لا يملك وجه حق - والسموات والأرض وما فيهما ملك لله عزوجل فكيفما تصرف فيها فلا ظلم ولا خروج عن الحكمة - وهذا قول باطل فاسد يدل على فساده الشرع والعقل والواقع، فقد نص الله جل وعلا على أنه الحكيم العليم الخبير في آيات كثيرة، فإذا لم تكن الحكمة في أفعاله وأوامره يصبح وصفه بـ الحكيم اسماً على غير مسمى ووصفاً من غير صفة وهذا باطل، وهو تعطيل لأسماء الله وصفاته جل وعلا.
ولأن الحكمة لا تظهر إلا في الفعل والأمر كالكريم والخالق، وهي صفات ذاتية فعلية فهو موصوف بأنه الخالق وأنه الحكيم والكريم قبل وجود الخلق والأمر الدال على الحكمة والكرم . كما أن هذا الكون بكل ما فيه من سماء وأرض وكواكب وحيوان يدل على الحكمة ورحمة بالغة، وهذا ظاهر في التشريعات الإلهية من صلاة وزكاة وحج وصيام، كما هي أظهر في الأمور التي تتعلق بحياة الناس وتنظيمها من الناحية المالية والناحية الاجتماعية والجنايات والحدود، وغير ذلك وما خفي على الناس وجه الحكمة فيه فإن ذلك راجع إلى قصور الأذهان عن إدراك حكمته البالغة جل وعلا.
يقول الشهرستاني فى نهاية الإقدام ص397 : القاعدة الثامنة عشر : في إبطال الغرض والعلة في أفعاله تعالى : مذهب أهل الحق أن الله تعالى خلق العالم بما فيه من الجواهر والأعراض وأصناف الخلق والأنواع، لا لعلة حاملة له على الفعل سواء قدرت تلك العلة، نافعة له أو غير نافعة، إذ ليس يقبل النفع والضر، أو قدرت تلك العلة نافعة للخلق، إذ ليس يبعثه على الفعل باعث فلا غرض له في أفعاله ولا حامل بل علة كل شيء صنعه ولا علة لصنعه .
وقال الآمدي فى غاية المرام ص224 : مذهب أهل الحق أن الباري تعالى خلق العالم وأبدعه لا لغاية يستند الإبداع إليها، ولا لحكمة يتوقف الخلق عليها، بل كل ما أبدعه من خير وشر ونفع وضر، لم يكن لغرض قاده إليه، ولا لمقصود أوجب الفعل عليه .
ويقول الرازي فى الأربعين فى أصول الدين ص249 : المسألة السادسة والعشرون: في أنه لا يجوز أن تكون أفعاله تعالى معللة بعلة البتة. اتفقت المعتزلة على أن أفعال الله تعالى أحكامه معللة برعاية مصالح العباد وهو اختيار أكثر المتأخرين من الفقهاء وهذا عندنا باطل .
وقال الإيجي وشارحه : المقصد الثامن في أن أفعاله تعالى ليست معللة بالأغراض، إليه ذهبت
الأشاعرة، وقالوا: لا يجوز تعليل أفعاله تعالى بشيء من الأغراض والعلل الغائية، ووافقهم على ذلك جهابذة الحكماء وطوائف الإلهيين .([1] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn1))
ومن هذه النصوص يبدو جلياً أن الأشاعرة من نفاة التعليل لأفعاله تعالى بالحكم والمصالح والأغراض والغايات .
أما نفيهم للغرض والعلة فهم يطلقون ذلك بدون استثناء في مصنفاتهم .
وأما الحكمة، فإنهم لا ينفونها، وإنما ينفون أن تتوقف أفعاله على الحكم .، بل الحكم مترتبة على أفعاله، وحاصلة عقيبها أي ليست هذه الحكم مقصودة ومطلوبة بالفعل كما يراه المعتزلة ومن وافقهم .([2] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn2))
وقد احتج الأشاعرة على مذهبهم بعدة حجج أهمها :
- أن ذلك يستلزم التسلسل، فإنه إذا فعل لعلة، فتلك العلة أيضاً حادثة فتفتقر إلى علة، وهكذا إلى غير نهاية وهو باطل .
وقد رد شيخ الإسلام على هذه الحجة من وجوه ([3] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn3)):
1-يقال لهم في الحكمة ما يقولونه هم في «الفعل»، وذلك بأن يقال لهم: لا يخلو إما أن يكون الفعل قديم العين أو قديم النوع، أو لا يمكن ذلك. فإن جاز أن يكون قديم العين أو قديم النوع، جاز في الحكمة التي يكون الفعل لأجلها أن تكون قيدمة العين أو قديمة النوع .
2- يقال لهم في الحكمة ما يقال في الأسباب، فإذا كان تعالى خلق شيئاً بسبب، وخلق السبب بسبب آخر حتى ينتهي إلى أسباب لا أسباب فوقها فكذلك خلق لحكمة والحكمة لحكمة حتى ينتهي إلى حكمة لا حكمة فوقها .
3- أن هذا التسلسل الذي يدعونه إنما هو تسلسل في الحوادث المستقبلة لا في الحوادث الماضية، فإنه إذا فعل فعلا لحكمة كانت الحكمة حاصلة بعد الفعل - والتسلسل في المستقبل جائز عند جماهير المسلمين وغيرهم، والجنة أكلها دائم.
- والحجة الثانية للأشعرية على نفي الحكمة والتعليل هي حجة الكمال والنقصان، ومعناها - عندهم - أن الله « لو خلق الخلق لعلة لكان ناقصاً بدونها مستكملاً بها ، فإنه إما أن يكون وجود تلك العلة وعدما بالنسبة إليه سوءا، أو يكون وجودها أولى به، فإن كان كالأول امتنع أن يفعل لأجلها، وإن كان الثاني

ثبت أن وجودها أولى به، فيكون مستكملا بها، فيكون قبلها ناقصا ».([4] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn4))
وقد ناقش شيخ الإسلام هذه الحجة هنا من وجوه([5] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn5)):
1- أن هذا منقوض بنفس ما يفعله من المفعولات ، فما كان جوابا في المفعولات ، كان جوابا عن هذا ، ونحن لا نعقل في الشاهد فاعلا إلا مستكملا بفعله .
2- أن قولهم «مستكمل بغيره» باطل، لأن هذا إنما حصل بقدرته ومشيئته، لا شريك له في ذلك، فلم يكن في ذلك محتاجا إلى غيره وإذا قيل: كمل بفعله الذي لا يحتاج فيه إلى غيره، كان كما لو قيل كمل بصفاته، وبذاته .
3- أن العقل الصريح يعلم أن من فعل فعلاً لا لحكمة، فهو أولى بالنقص ممن فعل لحكمة كانت معدومة، ثم صارت موجودة في الوقت الذي أحب كونها، فكيف يجوز أن يقال: فعله لحكمة يستلزم النقص، وفعله لا لحكمة لا نقص فيه .
4- إنه ما من محذور يلزم بتجويز أن يفعل للحكمة، إلا والمحاذير التي تلزم بكونه يفعل لا لحكمة أعظم وأعظم ...
وأما قول هؤلاء إن الله قادر على أن يوجد العباد صالحين وأن يزيل أسباب الفساد وأن يدخلهم الجنة مباشرة بدون تكليف وما إلى ذلك من القول فإن هذا حق من ناحية قدرته عز وجل فكما قال عن نفسه ) وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( وهي قدرة مطلقة لا يحده شيء ولا يخرج عنها شيء، لكن الخلق خلقوا لغاية وهي كما قال ) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (([6] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn6))، فهذا يدل على أن الخلق خلقوا للعبادة وهي عبادة مطلوبة بالاختيار لا بالإكراه، والحياة جعلت للابتلاء ليظهر الصالح من الطالح كما قال عز وجل ) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (([7] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn7)) ، فمن تصور هذه الغاية من الخلق وهي العبادة الواقعة بالاختيار وأن الطريق إليها ضمن الابتلاء بالأوامر والنواهي ليظهر الصالحون ويتميزوا ويعرف غيرهم ويتميزوا .
من أدرك هذا تمام الإدراك أدرك كثيراً من نواحي حكمة الله البالغة في خلقه الإنسان على هذه الكيفية المناسبة لهذه الغاية، وأدرك الحكمة من خلق وإيجاد الأمور الموصلة للخير من بعث الأنبياء وإنزال الكتب وما إلى ذلك، كما يدرك الحكمة من إيجاد الأمور الموصلة إلى الشر من خلق إبليس والشهوات والأهواء وما إلى ذلك وبهذا يتبين بطلان هذا القول .
القول الثالث : وهو قول السلف الذين هم وسط في الأقوال :-
قالوا بأن الله موصوف بأنه حكيم فكل ما يصدر عنه جل وعلا إنما يصدر عن حكمة بالغة سواء في ذلك فعله أو أمره، وأن هذه الحكمة ترجع إليه جل وعلا، فهي صفة من صفات ذاته كما أقروا أن الخلق خلق لغاية ولم يخلق سدى ولا عبثاً وهذه الغاية هي عبادته، وأقروا بعموم قدرة الله على كل شيء ومشيئته النافذة في كل شيء وأنه الخالق لكل شيء، فعليه نزهوا الله عن إيجاب شريعة عليه يلزمه الالتزام بها ولم يوجبوا عليه إلا ما أوجبه هو جل وعلا على نفسه، كما أقروا له بالحكمة في كل فعل وأنه لم يأمر جل وعلا إلا بكل ما هو حسن ولم ينه إلا عن كل ما هو قبيح، كما أقروا بأنه المحمود في كل فعل وأمر، والأدلة على هذا القول ظاهرة بحمد الله في كل صغير وكبير من أمره وفعله .
و يقولون إنه يفعل ما يفعل سبحانه لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى وقد يعلم العباد أو بعض العباد من حكمته ما يطلعهم عليه وقد لا يعلمون ذلك. والأمور العامة التي يفعلها تكون لحكمة عامة ورحمة عامة كإرسال محمد ﷺ فإنه كما قال تعالى ) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (([8] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn8))فإن إرساله كان من أعظم النعمة على الخلق وفيه أعظم حكمة للخالق ورحمة منه لعباده كما قال تعالى )لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ(([9] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn9))وقال تعالى ) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (([10] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn10))
بل جميع ما يحدثه في الوجود من الضرر فلا بد فيه من حكمة قال الله تعالى )صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ([11] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn11))(
وقال )الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ(([12] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn12)) والضرر الذي يحصل به حكمة مطلوبة لا يكون شراً مطلقاً وإن كان شراً بالنسبة إلى من تضرر به؛ ولهذا لا يجيء في كلام الله تعالى وكلام رسوله ﷺ إضافة الشر وحده إلى الله؛ بل لا يذكر الشر إلا على أحد وجوه « ثلاثة » إما أن يدخل في عموم المخلوقات فإنه إذا دخل في العموم أفاد عموم القدرة والمشيئة والخلق وتضمن ما اشتمل عليه من حكمة تتعلق بالعموم وإما أن يضاف إلى السبب الفاعل وإما أن يحذف فاعله .
وإذا علم العبد من حيث الجملة أن لله فيما خلقه وما أمر به حكمة عظيمة كفاه هذا ثم كلما ازداد علماً وإيماناً ظهر له من حكمة الله ورحمته ما يبهر عقله ويبين له تصديق ما أخبر الله به في كتابه حيث قال )سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ(([13] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn13)) فإنه ﷺ قال في الحديث الصحيح «الله أرحم بعباده من الوالدة بولدها»([14] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn14))وفي الصحيحين عنه أنه قال: « إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة فبها يتراحم الخلق حتى إن الدابة لترفع حافرها عن ولدها من تلك الرحمة واحتبس عنده تسعا وتسعين رحمة فإذا كان يوم القيامة جمع هذه إلى تلك فرحم بها عباده ».([15] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn15))أو كما قال رسول الله ﷺ .
هذا مذهب الجمهور من المسلمين وغيرهم كأئمة المذاهب الأربعة وغيرهم من السلف والعلماء الذين يثبتون حكمته فلا ينفونها - كما نفاها الأشعرية ونحوهم .([16] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn16))
· معنى الحكمة وحقيقتها عند السلف :-
فالحكمة تتضمن معنيين : المعنى الأول :
حكمة تعود على الرب سبحانه وتعالى يحبها ويرضاها .
والمعنى الثاني : حكمة تعود على العبد فيها منفعة له ونعمة يفرح بها، ويتلذذ بها، وينشرح صدره لها.
هذه هي الحكمة التي يثبتها السلف ، فالله عز وجل عندما خلق الخلق وشرع الشرائع والأوامر فإنه خلقهم لحكمة، وقبل أن يخلقهم علم هذه الحكمة، وخلق الخلق لها، وكذلك قبل أن يشرع الشرائع شرعها لحكمة سبحانه وتعالى، هذه الحكمة التي في المخلوقات والمأمورات تعود إلى الله عز وجل وعباده .
فأما معنى عودها إلى الله عز وجل فمعناه : أنه خلقها سبحانه وتعالى، وهو يعلم المصلحة المترتبة عليه ، وهو يحب ما أمر به سبحانه وتعالى، وله في خلقه أيضاً حكمة عظيمة ؛ حتى المخلوقات التي ظاهرها أنها ضرر وشر، ولهذا جاء في الدعاء المعروف: « والشر ليس إليك »، ومعنى الشر ليس إليك مع وجود بعض المخلوقات الشريرة في الحياة : أن الشر لا يعود إلى فعل الله عز وجل، وإنما يعود إلى مفعوله، يعني مخلوقه، وهو سبحانه وتعالى ما خلق شيئاً من الخلق –
حتى إبليس- إلا لحكمة عظيمة ومصلحة متعلقة بالخلق .
فمثلاً : إبليس خلقه الله سبحانه وتعالى ابتلاء واختباراً للناس حتى يرى سبحانه وتعالى من يصدق المرسلين، ويتبع كلامه سبحانه وتعالى، ويعصي عدوه، ويجاهده، ويصبر على هذا الجهاد، بل قد يترتب عليه أنه يموت في هذا السبيل، وهذه لا شك أنها من أعظم الحكم وأجل الغايات، بل فيها من ظهور أسماء الله عز وجل وصفاته الشيء الكثير .
ففيها مثلاً: ظهور صفة العفو والمغفرة للعباد المخطئين .
وأيضاً : ظهور صفة المعية الخاصة لعباده المؤمنين، فكل ما خلق الله عز وجل من خلق فإنه خلقه لحكمة تعود عليه من جهة، وتعود على الخلق من جهة أخرى .
ولهذا تحدث ابن القيم رحمه الله كثيراً في كتابه - شفاء العليل- عن هذه القضية، حتى المخلوقات الشريرة المعروفة فإنها لحكمة عظيمة وهدف كبير .
وأما المأمورات فليس فيها شر؛ لأن مأمورات الله عز وجل كلها مصالح ومنافع للعباد علمها من علمها، وجهلها من جهلها .
إذاً : حكمة الله عز وجل تكون في خلقه وأمره .([17] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn17))
· أدلة السلف على إثبات الحكمة والتعليل : -
قد أفرد الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه ( شفاء العليل ) فصلاً طويلاً في الاستدلال على حكمة الله عز وجل ، قال – رحمه الله - : الباب الثاني والعشرون في إثبات حكمة الرب تعالى في خلقه وأمره ، وذكر الغايات المطلوبة له بذلك ، والعواقب الحميدة التي يفعل لأجلها ويأمر لأجلها .
ثم ذكر الأدلة التي تدل على حكمة الله عز وجل، وميزة هذا الفصل : أنه وزع هذه الأدلة التي حصرها وجعلها على شكل أنواع، في كل نوع من الأنواع مجموعة من الأدلة .([18] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn18))
فمثلاً يقول : النوع الأول: التصريح بلفظ الحكمة وما تصرف منها، كقوله تعالى ) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ (([19] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn19))، وكقوله ) وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ (([20] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn20))، وقوله ) وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا (([21] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn21)) .
النوع الثاني: إخباره أنه فعل كذا لكذا، يعني: الإتيان بلام التعليل، كقوله تعالى ) ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ (([22] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn22))، وموطن الشاهد قوله ) ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا (.
وقوله أيضاً ) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (([23] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn23)) .
ومن ذلك أيضاً : قول الله عز وجل) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى
شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ (([24] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn24))إلى آخر الآيات التي ذكرها .
وفرق أيضاً في هذا النوع بين لام التعليل ولام العاقبة، فإن لام التعليل هو فعل الشيء لعلة معينة، لكن لام العاقبة، مثل قول الله عز وجل) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا (([25] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn25))يعني: آل فرعون ما التقطوه من أجل أن يكون لهم عدواً وحزناً، لكن المقصود باللام هنا العاقبة، وبين ذلك، قال: فإن ما بعد اللام في هذا ليس هو الغاية المطلوبة، ولكن لما كان الفعل منتهياً إليه، وكانت عاقبة الفعل، دخلت عليه لام التعليل، وهي في الحقيقة لام العاقبة .
ثم ذكر أنواعاً أخرى قال: النوع السادس: ذكر ما هو من صرائح التعليل وهو من ( أجل )، كقوله تعالى ) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ ( وهذا صريح في أن الله عز وجل فعل هذا الفعل من أجل ذلك .
) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا (([26] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn26)) .
قال : النوع الثامن: ذكر الحكم الكوني والشرعي عقيب الوصف المناسب له، فتارة يذكر ( بأن ) ، وتارة يقرن ( بالفاء )، وتارة يذكر مجرداً، فالأول كقوله تعالى ) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (([27] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn27))، وهكذا ذكر مجموعة كثيرة .
النوع العاشر: إخباره عن الحكم والغايات التي جعلها في خلقه وأمره ؛ كقوله ) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ (([28] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn28))، وذكر مجموعة كثيرة من الأنواع التي فيها إثبات حكمة الله عز وجل، وأن الله عز وجل يخلق الشيء لحكمة .
دلالة العقل والقياس على حكمة الله تعالى في الخلق والتشريع :-
ثم إن خلق الله عز وجل للشيء لحكمة لا شك أنه يدل عليه العقل أيضاً، فإنه لا يمكن أبداً أن يخلق الله عز وجل الخلق بدون أن يكون لهذا الخلق حكمة وغاية حميدة؛ فإن الإنسان العاقل عندما يفعل الفعل يسأل: لماذا فعلت هذا الفعل؟ فإذا فعله لحكمة مُدِح، وإذا فعله لغير حكمة ذم، فإذا كان هذا في المخلوق وهو مخلوق، فالخالق سبحانه وتعالى أولى بذلك وأعظم، كما هو معلوم من قياس الأولى .
إذاً : حكمة الله عز وجل ثابتة ولا شك فيها من ناحية العقل والشرع، والأدلة القرآنية مليئة بذلك، ولهذا كان من الأدلة الشرعية الكتاب والسنة والإجماع والقياس، فالقياس دليل من الأدلة الشرعية وهو دليل معتبر، والقياس المراد به هو قياس الفرع الذي يراد أن يحكم فيه على أصل محكوم فيه سابقاً؛ لوجود علة بينهما، وهذه العلة صحيحة وواضحة، والقياس دليل من الأدلة الشرعية اتفق عليه أهل العلم جميعاً، ولم يخالف فيه إلا الظاهرية .
إذاً: القياس دليل مبني على العلة، وهذا دليل على أن الله عز وجل يشرع أحكامه لحكم وعلل حميدة ومفيدة، ولهذا فإن الذين أنكروا الحكمة والتعليل تورطوا في فهم القياس .
ولهذا تجد الأشاعرة الذين نفوا صفة الحكمة لله عز وجل نفوها في كتبهم المتعلقة بعلم الكلام، فلما جاءوا إلى كتبهم المتعلقة بأصول الفقه وبالأحكام وبالفقه ونحو ذلك تورطوا؛ لأنهم يثبتون القياس، فنجد عدداً كبيراً من الأشاعرة يثبتون القياس، مثلاً الفخر الرازي له كتاب (نهاية العقول)، و(معالم أصول الدين)، و (المطالب العالية)، وغيرها من الكتب الكلامية، يقرر فيها ما يقرره أصحابه من نفي الحكمة، لكنه له كتب في أصول الفقه مثل (المحصول) ، وهكذا الغزالي له ( الاقتصاد فى الاعتقاد ) في علم الكلام ، وله ( المستصفى ) في علم أصول الفقه، فلما جاءوا إلى أصول الفقه وأرادوا أن يقرروا الأدلة الشرعية بدءوا يحددونها أولاً: القرآن، وثانياً السنة، وثالثاً الإجماع، ورابعاً القياس، ولما عرفوا القياس قالوا: هو قياس فرع غير محكوم فيه على أصل محكوم فيه لعلة .
فقيل لهم : أنتم تنفون العلة في أمر الله وخلقه فكيف تثبتونها هنا ؟ فتورطوا.
وإنما أُتِى الأشاعرة من جهة قياس الغائب على الشاهد ، فقاسوا الحكم والعلل في أفعال الله تعالى على الحكم والعلل في أفعال العباد ، فهذه الأخيرة هي المقتضية للنقص والحاجة ، أما المتصرف في كونه بما يشاء بحكمة بالغة فلا يتقضى نقصاً ولا عيباً ، وهو سبحانه الذي جعل الأسباب والعلل ورتب بعضها على بعض بمحض مشيئته واختياره لا لحاجه ولا لنقص فى قدرته.
· مسألة : هل الإرادة تقتضي المحبة أم لا ؟
هذه المسألة مرتبطة بشكل قوي بالمسألة السابقة - مسألة تعليل أفعال الله - لأن الذي حدا بالأشاعرة إلى أن ينكروا التعليل ما توهموه من وجود تعارض بين الأمر والقدر، وكيف يريد الله أمرا إرادة كونية كالكفر والمعاصي، ثم هو لا يحبها ولا يرضاها ولا يريدها دينا؟ فرأوا أن الخروج من هذا المأزق يكون بإنكار الحكمة والتعليل في أفعال الله وأوامره. وموضوع الإرادة وهل هي مستلزمة للرضى والمحبة مما خاض فيه أهل الأهواء، وضلوا فيه عن الحق وأدى بهم ضلالهم إلى انحراف خطير جدا في مسألة القضاء والقدر وفي مسألة الأمر والنهي، وعلاقة هذه بتلك .
وقد وقع الخلاف في هل الإرادة تستلزم الرضى والمحبة على قولين :
القول الأول : أن الإرادة تستلزم الرضى : وهذا قول المعتزلة والجهمية وأغلب الأشاعرة ([29] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn29))، وبعض الأشاعرة لهم عبارات تخفف من هذه المقالة، مثل قول بعضهم بحمل المحبة والرضا على الإرادة، ولكنه يقول: « إذا تعلقت الإرادة بنعيم ينال عبدا فإنها تسمى محبة ورضى، وإذا تعلقت بنقمة تنال عبدا فإنها تسمى سخطا » ([30] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn30))، فمن جوز إطلاق المحبة على الإرادة قالوا : إن الله يحب
الكفر ويرضاه كفرا معاقبا عليه .([31] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn31))
ولكن هؤلاء الذين اتفقوا على أن الإرادة بمعنى المحبة والرضى - اختلفوا فيما بينهم على قولين جعلت أقوالهم تتباين كثيراً في مسألة القدر:
أ-فالمعتزلة القدرية : قالوا قد علم بالدليل أن الله يحب الإيمان والعمل الصالح، ولا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، ويكره الكفر والفسوق والعصيان، ولما كان هذا ثابتا لزم أن تكون المعاصي ليست مقدرة له ولا مقضية، فهي خارجة عن مشيئته وخلقه، قالوا: ولما كنا مأمورين بالرضى بالقضاء، ومأمورين بسخط هذه الأفعال وبغضها وكراهتها، فإذن يجب أن لا تكون واقعة بقضاء الله وقدره فأنكروا لذلك مرتبة المشيئة والخلق .
ب-والأشاعرة ومن معهم : قالوا قد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولما ثبت عندهم أن المشيئة والإرادة والمحبة والرضى كلها بمعنى واحد - قالوا: فالمعاصي والكفر كلها محبوبة لله لأن الله شاءها وخلقها .([32] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn32))
وهكذا انتهى الأمر بهاتين الطائفتين إلى قولين باطلين : إما إخراج بعض المقدورات أن تكون مقدرة ومرادة لله كما فعل المعتزلة، وإما بالقول بأن الله يحب الكفر والمعاصي كما فعلت الأشعرية الذين خالفوا نصوص الكتاب والسنة .
القول الثاني : أن الإرادة لا تستلزم الرضى والمحبة، بل بينهما فرق : وهذا قول عامة أهل السنة المثبتين للقدر، وهؤلاء يقولون إن قول المعتزلة والأشاعرة مخالف للكتاب والسنة والإجماع، فإنهم متفقون على أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وعلى أن الله لا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، وأن الكفار يبيتون ما لا يرضى من القول. كما هو صريح النصوص .
ولكن هل بين النصوص تعارض كما توهمه أولئك ؟
أهل السنة يرون أن النصوص الواردة في المشيئة والإرادة، وفي المحبة والرضى ليس بينهما تعارض مطلقاً إذا أعطيت حقها من الفهم والتفسير الصحيح .
وذلك أن أهل السنة يقولون إن الخطأ الذي وقع فيه المخالفون لهم من المعتزلة والأشاعرة وغيرهم، هو ظنهم أن الإرادة في النصوص كلها بمعنى واحد .
والحق أن الإرادة نوعان :
أحدهما : نوع بمعنى المشيئة العامة، وهذه هي الإرادة الكونية القدرية :-
فهذه الإرادة كالمشيئة شاملة لكل ما يقع في هذا الكون، وأدلة هذا النوع كثيرة، منها قوله تعالى ) فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا (([33] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn33)) ، فهذه الإرادة لا تستلزم المحبة، وليست بمعناها .
والثاني: نوع بمعنى المحبة والرضى، وهذه هي الإرادة الدينية الشرعية :-
كقوله تعالى ) يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ (([34] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn34))، وهذه الإرادة هي المستلزمة للمحبة والرضى، وهي المستلزمة للأمر([35] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn35)) .
وعلى هذا فبالنسبة لوقوع المراد، وفي أي النوعين يتعلق - تكون الأقسام أربعة :
أحدها : ما تعلقت به الإرادتان الكونية والدينية، وهو ما وقع في الوجود من الأعمال الصالحة، فهذه مرادة ديناً لأنها أعمال صالحة مأمور بها، ومرادة كوناً لأنها وقعت .
الثاني : ما تعلقت به الإرادة الدينية فقط، وهو ما أمر الله به من الطاعات والأعمال الصالحة، فعصى ذلك الكفار ولم يأتوا به، فهذا مراد شرعاً لأنه من الأعمال الصالحة، وغير مراد كوناً لأنه لم يقع من الكفار والعصاة .
الثالث : ما تعلقت به الإرادة الدينية فقط، كالمباحات والمعاني التي لم يأمر بها الله إذا فعلها العصاة ، فهي غير مرادة ديناً ، ولكنها مرادة كوناً لأنها وقعت .
الرابع : ما لم تتعلق به الإرادتان، وذلك مما لم يقع ولم يوجد من أنواع المباحات والمعاصي .([36] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn36))
وبهذا التفصيل - الذي دلت عليه النصوص - يتبين رجحان مذهب أهل السنة والجماعة .
أما محاولة بعض الأشاعرة أن يجيبوا عن النصوص التي دلت على أن الله لا يحب الكفر ولا الفساد - بأن هذا خاص بمن لم يقع منه الكفر والفساد، والمعنى أن الله لا يحب الفساد لعباده المؤمنين ولا يرضاه لهم - فهذا جواب فاسد لأن لازم هذا أن الله لا يحب الإيمان ولا يرضاه من الكفار، لأنه لم يقع منهم، لأن المحبة عندهم كالإرادة إنما تتعلق بما وقع دون ما لم يقع. وهذا من أعظم الباطل .
ولا شك أن تخبط الأشاعرة ومعهم المعتزلة في هذه المسائل أدى بهم إلى الانحراف في مسألة القدر وأفعال العباد .([37] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn37))

([1])شرح المواقف 8/202 .، وقد أوردت المتن ممزوجا مع الشرح للشريف الجرجاني .

([2])الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى لمحمد ربيع المدخلي ص 62 .

([3])انظر : موقف ابن تيمية من الأشاعرة 3/1313 .

([4])انظر : المحصول للرازي ص 149 ، والانتصار فى الرد على المعتزلة 2/467 ، ومجمع الفتاوى 8/83 .

([5])انظر : مجموع الفتاوى 8/146 – 183 .

([6])سورة الذاريات : الآية ( 56 ) .

([7])سورة الملك : الآية ( 2 ) .

([8])سورة الأنبياء : الآية ( 107 ) .

([9])سورة آل عمران : الآية ( 164 ) .

([10])سورة الأنعام : الآية ( 53 ) .

([11])سورة النمل : الآية (88) .

([12])سورة السجدة : الآية (7) .

([13])سورة فصلت : الآية (53) .

([14])صحيح : أخرجه البخاري برقم 5999 ، ومسلم برقم 2754 وغيرهما .

([15]) أخرجه البخاري برقم 6469 ، ومسلم برقم 2752 وغيرهما .

([16])انظر : مجموع الفتاوى 8/93 وما بعدها .

([17])شرح الواسطية – دروس صوتية للشيخ عبد الرحيم العلياني السلمي ، الدرس الخامس .

([18])انظر : شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل ص190 وما بعدها .

([19])سورة القمر : الآية (5) .

([20])سورة النساء : الآية (113) .

([21])سورة البقرة : الآية (269) .

([22])سورة المائدة : الآية (97) .

([23])سورة الطلاق : الآية (12) .

([24])سورة الحديد : الآية (29) .

([25])سورة القصص : الآية (8) .

([26])سورة المائدة : الآية (32) .

([27])سورة الأنبياء : الآية (89 - 90) .

([28])سورة البقرة : الآية (22) .

([29])انظر: المغني في أبواب التوحيد والعدل 6/51 ، والإنصاف للباقلاني ص44-45 .

([30])الإرشاد للجوينى ص239 ، وشرح المواقف للإيجى ص288 .

([31])انظر : لباب العقول للمكلاتى ص288 .

([32])انظر : الإحتجاج بالقدر لابن تيمية ص66-67 ت/الشيخ الألبانى ، الطبعة الرابعة المكتب الإسلامى – بيروت .

([33])سورة الأنعام : الآية ( 125 ) .

([34])سورة البقرة : الآية ( 185 ) .

([35])انظر: في ذلك مراتب الإرادة - مجموع الفتاوى 8/ 188 - 190، 197، ومنهاج السنة 1/ 360 .

([36])انظر: مراتب الإرادة - مجموع الفتاوى 8/ 189 .

([37])موقف ابن تيمية من الأشاعرة 3/1316 وما بعدها ، وموسوعة الفرق المنتسبة إلى الإسلام 2/64 وما بعدها .