المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تَفرد الثقة والصَدوق بالحَديث [ بحثٌ مُختصر ] ...



أهــل الحـديث
19-10-2013, 09:20 AM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم




مسألة تفرد الصدوق وتفرد الثقة بين القبول والرد



الحمد لله الذي بعث في كل فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضلّ إلى الهدى ويبصرون بكتاب الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس وما أسوأ أثر الناس عليهم، ينفون عن دين الله تحريف الغالين وتأويل المبطلين ونزعات الجاهلين، وأشهد أن لا اله الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد :
إن مِن بركة العلم نسب الفضل لأهلهِ وقد مَن الله علينا بقراءة مقالٌ ماتع نافع لفضيلة الشيخ الفذ / خالد الدريس - وفقه الله - وأنا أتصفح كِتابه النفيس جداً : " الحديث الحسن لذاته ولغيره دراسة استقرائية نقدية " وقد أجاد وأفاد وأحسن التعليق وأسهبَ فيه فلله دره ، لا شك أن مسألة تفرد الثقة أو الصدوق من أهم مسائل العلل وأدقها وفي هذه الدراسة سنقومُ بمُناقشة مسألة تفرد الصدوق والثقة وهل تفرد الصدوق كتفرد الثقات أم أنهُ خلافه وهل يقبل تفرد الصدوق في حالات أم لا يقبل ، وأما تفرد الثقات فإن القَول بنكارته في بعض الأحيان لا يسري مسار العُموم بل يسري مسار الخُصوص وهو مرهونٌ بالقرائن والمُلابسات ويتحقق في سبر مروياته وتَحقيق الخبر تحقيقاً رسيناً ومتيناً فلا نرد تفردات مَن عرف حالهُ وعرفت وثاقته تَماماً وهذا لم نجد أحداً يقول بهِ ، وتفرد الصدوق لابد فيه من ترجيح حال ومسألتهُ مُهمة جداً لذوي العقل والمَعرفة ولابد من الفهم والتنبيه لمسألة التفرد وما اختارهُ جُمهور الأئمة المُتقدمين والمتأخرين ما بين القبول والتوقف في تفرد الصدوق والثقة في الحَديث ولابد من التنبيه لهذا الأمر تنبيهاً علمياً رزيناً.
واعلم علمني الله تعالى وإياك أن الحافظ ابن حجر - رحمه الله - يقبل تفرد الصدوق حسن الحَديث مالم يأتي بمُخالفة فإن خَالف من هو أولى منه كان في العدد أم في الضبط صار عند الحافظ ابن حجر شاذاً والذي عليه جُمهور المُتأخرين مِن أئمة الحَديث كالحاكم أبي عبد الله النيسابوري والذي لا يفرق بين الصحيح والحسن وابن حبان والحافظ ابن حجر وابن الصلاح الذي يرى أن الراوي إن تفرد بحديث ولم يأتي بمُخالفة أو لم يخالف فإن تفردهُ محمولٌ على الحَسن وهذا بالجُملة أيها القارئ الكريم الفكرة التي سار عليها المُتأخرين مُجملة في هذه الكلمات البسيطة.
ومِن هذا المُنطلق كَانت الفِكرة في أن التفرد كَان للصدوق أو كان للثقة عند جُملة من المُتأخرين - رحمهم الله - مقبولاً دُون قرائن ومُرجحات فإن قَول من قال بالتوقف في تفردهم كاد أن يندثر كما قَال فضيلة الشَيخ خالد الدريس ، فقد أفاد وأجاد الحافظ الذهبي والحافظ ابن رجب في تقرير هذه المسألة والتنبيه عليها في تحقيقاتهم ، فكَان حرياً التَنبيه على ما نبه عليه الحافظان وتَوجيه النَظر إليها دُون التعصب والتبديع - غفر الله لفاعله - !.
قَال الحَافظ الذهبي في الموقظة (1/77) : (( وقد يَتوقَّفُ كثيرٌ من النقَّاد في إطلاق "الغرابة" مع "الصحة" في حديثِ أتباعِ الثقات. وقد يُوجَدُ بعضُ ذلك في الصحاح دون بعض ، وقد يُسمِّي جماعةٌ من الحفاظ الحديثَ الذي ينفرد به مثلُ هُشَيْم وحفص بن غِياثٍ: (منكراً) . فإن كان المنفردُ مِن طبقة مشيخة الأئمة، أطلقوا النكارةَ عَلَى ما انفردَ به مثلُ عثمان بن أبي شيبة، وأبي سَلَمة التَّبُوذَكِيّ، وقالوا: (هذا منكر) )) وقَد قال : (( فإن رَوَى أحاديثَ من الأفراد المنكرة، غَمَزُوه وليَّنوا حديثَه، وتوقفوا في توثيقه. فإن رَجَع عنها، وامَتَنع مِن روايتها، وجَوَّز على نفسِه الوَهَمَ: فهُو خيرٌ له، وأرجَحُ لعدالته. وليس مِن حَدِّ الثقةِ أنَّهُ لا يَغلَطُ ولا يُخطِئ، فَمَن الذي يَسْلَمُ مِن ذلك غيرُ المعصومِ الذي لا يُقَرُّ على خطأ ! )) ، فها أنت تَرى أن الحافظ الذهبي وقد قَال عنه الحافظ ابن حجر - رحمهم الله - أنه مِن : [ أهل الإستقراء التام ] يَقول أنهم قد يطلقون على تَفردات الثقات كهشيم وحفص بن غياث [ مُنكراً ] وهُما مِن جُملة الثقات الضابطين إلا ما أخذ على هشيم من التدليس ، وقد يُطلقون هذا اللفظ على جُملة مِن الثقات وإن تأول أحدهم قَولهُ (( قد )) على قِلة الأمر ! فإن العِبرة ليست بقلتهِ او كثرتهِ العبرةُ بوقوع التَعليل بمُجرد التَفرد وإطلاق مُصطلح النكارة على ما ينفرد به أمثال هؤلاء الثقات ! وإني لأعجب كيف يتأول أحدهم قول الحَافظ الذهبي فيقول أن ( قد ) على قلة حصول هذا ! بل إن المعمول به عند المُتقدمين وأعلامهم على التوقف في قبول التفرد مالم تَكن هُناك قرائنٌ تَدل على تَحمله ! كذلك إن هذا لا يمكن أن يعتبر على القلة فكم من تفردٍ أطلق عليه النكارة وليس على القلة ؟! وهذا والله المستعان من سوء فهم كلام الأعلام والأئمة نعوذُ بالله من هذا.
ودُونك الحَافظ ابن رجب في شرح العلل يَقول (1/274) : (( فهذا الحديث لأئمة الإسلام فيه طريقان، أحدهما مسلك الإمام أحمد ومن وافقه، وهو يرجع إلى الكلام في إسناد الحديث، لشذوذه وانفراد طاوس به، وأنه لم يتابع عليه، وانفراد الراوي بالحديث مخالفا للأكثرين هو علة في الحديث، يوجب التوقف فيه، وأنه يكون شاذا ومنكرا إذا لم يرو معناه من وجه يصح، وهذه طريقة المتقدمين كالإمام أحمد، ويحيى القطان ويحيى بن معين )) ، قُلت : وطاوس مِن الثقات الأثبات إلا أنهُ كان يرسل ! وتفردهُ هُنا مَع عدم مُتابعة أحدٍ لهُ عليه عَده الأئمة نَكارةً ، ثُم يَقول الحافظ ابن رجب - رحمه الله - مُعقباً : (( ومتى أجمع علماء الأمة على اطراح العمل بحديث وجب اطراحه، وترك العمل به )) أهـ ، ومثل هذا لا أحسب أحداً يُنكرهُ أو قد يُخالف فيه !.
وحاصلهُ أن مِن أفراد الثقات وغرائبهم ما يرد وما يقبل ولا يُرد جُملة وتفصيلاً كما يَظن الكثيرين وأن ذلك مرهونٌ بالقرائن والمُرجحات قَال الحَافظ ابن رجب في شرح العلل (1/208) : (( وأما أكثر الحفاظ المتقدمين فإنهم يقولون في الحديث إذا تفرد به واحد وإن لم يرو الثقات خلافه: "إنه لا يتابع عليه " ويجعلون ذلك علة فيه اللهم إلا أن يكون ممن كثر حفظه واشتهرت عدالته وحديثه كالزهري ونحوه، وربما يستنكرون بعض تفرد الثقات الكبار، ولهم في كل حديث نقد خاص، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه )) ، وعَليه فإنكَ تجد المُتقدمون من أئمة الحَديث يُعلون تَفرد الثقة مالم يتابع عليه أو لم يكن معروفاً عندهم وكثيرة هي الأقوال عنهم في ذم الغريب الذي لا يعرف إلا مِن طريق واحد أو لم يعرف لفظهُ عندهم - رحمهم الله - ومِن ذلك انظر قول الإمام ابو داود السجستاني في رسالته إن لم تَخني الذاكرة لأهل مكة : (( والأحاديث التي وضعتها في كتاب السنن أكثرها مشاهير، وهي عند كل من كتب شيئاً من الحديث إلاّ أنَّ تمييزها لا يقدر عليه كل الناس والفخر بها أنها مشاهير، فإنه لا يحتج بحديث غريب ولو كان من رواية مالك ويحيى بن سعيد والثقات من أئمة العلم، ولو احتج رجل بحديث غريب وجدت من يطعن فيه ولا يحتج بالحديث الذي قد احتج به إذا كان الحديث غريباً شاذاً )) ، قُلت ومَعناهُ أن الأئمةَ لم يكنوا يَقبلون الغَريب بل إن لذلك عندهم فيه ضابطٌ يعود للقرائن والمُرجحات فلو أن ما تفرد به الثقة لم يكن معروفاً إلا من طريقه وخالفهُ أحد من تلامذة من انفرد عنهُ أو لم يأتي من طريقهم فذلك يستدلون به على علةٍ في الحَديث.
يَقول شَيخنا الدُكتور ماهر الفَحل : (( والتفرد ليس بعلة في كُلّ أحواله، ولكنه كاشف عن العلة مرشد إلى وجودها ... - ثُم قال مُحرراً مَعنى قول الحافظ ابن رجب - معنى قوله: ((ويجعلون ذَلِكَ علة)) ، أن ذَلِكَ مخصوص بتفرد من لا يحتمل تفرده، بقرينة قوله: ((إلا أن يَكُوْن ممن كثر حفظه …)) ، فتفرده هُوَ خطؤه، إِذْ هُوَ مظنة عدم الضبط ودخول الأوهام، فانفراده دال عَلَى وجود خلل ما في حديثه، كَمَا أن الحمّى دالة عَلَى وجود مرض ما، وَقَدْ وجدنا غَيْر واحد من النقاد صرح بأن تفرد فُلاَن لا يضر، فَقَدْ قَالَ الإمام مُسْلِم: ((هَذَا الحرف لا يرويه غَيْر الزهري، قَالَ: وللزهري نحو من تسعين حديثاً يرويها عن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لا يشاركه فِيْهَا أحد بأسانيد جياد)) )) وهذا ومثيلهُ مِن دقة التَحري وفهم النص ولا يُمكن حَمل قَول مَن تكلم في تفرد الصدوق والثقة إلي كَون هذا المسير والطريق طعنٌ في السنة والأحكام ! وهذا قولٌ غريب ولا يصحُ وهو على صاحبه مردود الحُجة والبيان والصوابُ ان هذه المسألة كان فيها المُتكلم فيها على الإنصاف والعدل وأن تَفرد الثقة مِنه ما يقبل ومنهُ ما يرد وأن يُعل أحدٌ من الأئمة التفرد بالنكارة فإن ذلك سائرٌ في عرف الأئمة المُتقدمين وإطلاق القبول مُطلقاً لم نعرفهُ في عرفهم - رضي الله عنهم - فتنبه.
ومما تقدم فإن هذه النصوص وإن كانت في حق الثقات فإن الصدوق يدخل بها من باب أولى لأن الصدوق كما قال الشيخ الدريس أقل مرتبة ممن قال فيه ثقة ، وقد أشار إلي حصول هذا الحافظ ابن الصلاح - رحمه الله - فقال مقدمة ابن الصلاح (1/80) : (( وَإِطْلَاقُ الْحُكْمِ عَلَى التَّفَرُّدِ بِالرَّدِّ أَوِ النَّكَارَةِ أَوِ الشُّذُوذِ مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ )) أهـ.
قَال الشَيخ الدريس : ((ومما يدل على أن بعض النقاد من المحدثين كان يرد بعض الأحاديث بالتفرد، ما وجدناه في كلام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري (ت310هـ) عند كلامه على علل الأخبار التي يخرجها في كتابه (تهذيب الآثار) يقول : (وهذا الحديث عندنا صحيح سنده، لا علة فيه توهنه، ولا سبب يضعفه، وقد يجب أن يكون على مذهب الآخرين سقيماً غير صحيح، لأنه خبر لا يعرف له مخرج عن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ إلا من هذا الوجه، والخبر إذا انفرد بنقله عندهم منفرد وجب التثبت فيه) )) أهـ.
ولو أنك أمعنت النظر في كِتاب الجرح والتعديل حين نقل ابن أبي حاتم الفاظ الجرح والتعديل عن أباهُ فأشار إلي أن الصَدوق يُتوقف في حديثه وينظر فيه وليس مَفادها التوقفُ مُطلقاً في حديثهِ بل يَرجع إلي القرائن ، قَال الحَافظ ابن رجب في شرح العلل (2/659) : (( فتلخص من هذا أن النكارة لا تزول عند يحيى القطان والإمام أحمد والبرديجي وغيرهم من المتقدمين إلا بالمتابعة، وكذلك الشذوذ كما حكاه الحاكم )) وقَال : (( وفرق الخليلي بين ما ينفرد به شيخ من الشيوخ الثقات، وما ينفرد به إمام أو حافظ، فما انفرد به إمام أو حافظ قبل واحتج به، بخلاف ما تفرد به شيخ من الشيوخ، وحكى ذلك عن حفاظ الحديث، والله أعلم )) ، وقَد قال الشَيخ الدريس : (( وقد ذكر الحافظ أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي (ت474هـ) كلاماً في (تفرد حماد بن سلمة وغيره من الشيوخ عن قتادة عن أنس، وأنه إذا كان الحديث معروفاً من غير تلك الطريق عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن أنس لم يُردَّ، وإن كان لا يُعرف من حديث أنس ولا من حديث النبي صلى الله عليه وسلم من غير تلك الطريق فهو منكر )) أهـ ، والمُتأمل لمَا مضى من الأقوال فإن منهم من صرح بالتوقف ومنهم من صرح بالرد في مسألة التفرد وهو عينُ ما ذهبنا إليه في تقريرنا الأول.
قَال فضيلة الشَيخ الدريس - حفظه الله - في مسألة التَفرد : ((لا يُشك أن تفرد الصدوق ليس كتفرد الضعيف المتفق على ضعفه، فوجب التفريق بينهما؛ لأن تفرد الصدوق مشكوك فيه عند من لا يقبله، وأما تفرد الضعيف فالمترجح في الظن أنه خطأ، ولهذا فالأولى أن يُستعمل لفظ (التوقف) بدل الرد إلا بالنسبة لمن صرح بالرد كالبرديجي مثلاً فيُحافظ على عبارته كما قالها، وأما من حيث عموم المذهب فلفظ (التوقف) أولى ، حقيقة التوقف المقصود هنا يعني التريث والنظر طلباً للترجيح في حديثٍ بعينه من أحاديث ذلك المنفرد، فهو توقف نظر وفحص وتثبت، وليس توقفاً مطلقاً لكون الأدلة متكافئة كما هو موقف من توقف في راوٍ أوفي مسألة لعدم التوصل إلى رأي راجح، والفرق بين التوقفين أن التوقف الأول وقتي، والغرض منه البحث والتفتيش لاحتمال وجود قرينة ترجح قبول ذلك التفرد، أما التوقف الثاني فهو توقف دائم فهو نتيجة للبحث والنظر حصل بعدهما التوقف بصفته نتيجة ما بعد البحث )) أهـ ، وقد يتراجع الإمام عَن الوصف بالنكارة في رواية الفرد لما تبين عنده أنه قد تُوبع من غيره ! وهذا رأينا الشيخ خالد الدريس يشير إليه .
وقد نقل عن الإمام أحمد بن حنبل أنه لا يقبل تفرد الثقات مطلقاً وهذا فيه نظر إذ أن في العلل ومعرفة الرجال ما يثبت خلاف ذلك مِن أنه قد يَقبلها لقرائن ومُرجحات تُحيط بأنه قد احتمل تفرد هذا الثقة والعبرة بأنهم قد يردونها لما يترجح عندهم من القرائن على الخطأ وقد رد الإمام مسلم في التمييز بعض الأحاديث للثقات بمجرد التفرد لاحتمال وقوع الخطأ والوهم منهم ، فنسبة رد التفرد مُطلقاً ليست مِن قولنا ولا قول أحد من العُلماء بل إن الصحيح أن قول مَن قال بقبول تفرد الثقة مُطلقاً بل حتى الصدوق فإنهُ جانب الصواب والحقُ أن النصوص السابقة وإن كانت في تفردات الثقة والتي قد يُعلها الأئمة بالنكارة لما يترجح عندهم من قرائن ومُرجحات أولى بها الصدوق من الثقة الحافظ الثبت لأنهم قد يقبلونه إذا علموا أنهُ قد تُوبع أو لم يُخطئ في الحَديث أو لم يقع الوهم في حديثه ، وأما الصدوق فالخطأ عليه أكبر ولذلك نَقلت في بداية الأمر قول الحافظ الذهبي وهو من أهل الاستقراء على قَول الحافظ ابن حجر في في الميزان (3/144) : (( إن تفرد الثقة المتقن يعد صحيحاً غريباً ، وإن تفرد الصدوق ومن دونه يعد منكراً )) ، بل إنهُ قد أشار إلي أن الأئمة يتوقفون في إطلاق الغرابة مع الصحة في حديث الثقات وقد يتوهم الناظر إلي أن هذا تناقضاً وليس بصحيح ، كما أن تَفرد الصدوق مُنكرٌ لما قد يقع من الصدوق من الوهم والغلط فهو دُون الحافظ الإمام الثقة بمراتب وقد أبان ابن أبي حاتم إلي أن حديثه ينظر فيه ومعناه يتوقف وليس مُطلقاً .
- مثالٌ مِن علل ابن أبي حاتم للاعلال بالتفرد .
قَال ابن أبي حاتم في العلل (2/399) : (( وسألتُ أَبِي عَنْ حديثٍ رواه بُرْدُ ابن سِنَان ، عَنِ الزُّهْري، عَنْ عُرْوَة، عن عائِشَة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم : أَنَّهُ كَانَ يصلِّي، فاستَفْتَحْتُ البابَ، فجاء النبيُّ صلى الله عليه وسلم ففتح البابَ، ومضى فِي صَلاتِه.
قلتُ لأَبِي: ما حالُ هَذَا الحديث؟ فَقَالَ أَبِي: لم يَرْوِ هَذَا الحديثَ أحدٌ عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم غيرُ بُرْدٍ، وَهُوَ حديثٌ مُنكَرٌ، لَيْسَ يَحْتَمِلُ الزُّهْريُّ مثلَ هَذَا الحديث، وَكَانَ بُرْدٌ يرى القَدَر )) .
قُلت : فها أنتَ ترى الإمام أبو حاتم الرازي يُعل الحَديث لتَفرد الصدق عَن الزهري بهِ - رضي الله عنهم - بَل قال ابن رجب في "فتح الباري" (6/382) : «واستنكره أبو حاتم الرازي، والجوزجاني؛ لتفرد بُرْدٍ به» ، وانظر: "شرح العلل" له (2/483) ، فقد استنكرهُ الإمام أبو حاتم لتفرده بالحَديث وقد حسنه الشيخ الألباني لذاته لأنه يرى تفرد الصدوق مُحتمل ، وأما أبو حاتم فقد اعتبر تفرده عن الزهري منكراً وإلا فأين أصحاب الزهري عن هذا الحديث على إمامته وجلالته ! فلو تأمل المُتأمل بعين المنصف قول الإمام أبو حاتم لعرف أنهُ يعل تفرد الصدوق لأن القرائن أحاطت على عَدم تحمله إياه عن الزهري فلا هو مروي من طريق أحد أصحابه ؟! ولا هُو ممن يعرف بالحفظ والإتقان في حديثه ! فلم يُحتمل تفردهُ في هذا الباب فتأمل ، ويعرف الباحث أن الحافظ إبن حجر قد أشار إلي أن الإمام أحمد بن حنبل والإمام النسائي قد يطلقون على المُتفرد برواية الحديث ولم يشاركه فيه أحدٌ بالنكارة وقد استفدتُ هذه الأمثلة من كِتاب الشيخ وفقهُ الله تعالى للخير المذكور في بداية الحَديث فنفع الله بذلك الكِتاب الضخم .
ومِن الغَريب أن المُستنكر علينا قَولنا أن الراوي الصَدوق لو تَفرد عَن شيخٍ لهُ تلامذةٌ كثر وهم على إختصاصهم به ومعرفتهم بحديثه وأنك لا تَجد حديثه يخرج إلا من عندهم أن يَقول هذا عجيبٌ أليس لنا الحق أن نتسائل أين أصحاب هذا الشيخ الموصوفون بالحفظ والإتقان وأنهم في هذا الشأن جبالٌ راسياتٌ وهم أهل خصوصية في شيخهم عن ما تفرد به هذا الصدوق أو الثقة لقرائن تُقوي أن تفردهُ علةٌ قد تقدحُ في صحة ثبوته ؟! قَال ابن معين في التَاريخ رواية الدَوري (3/364) : (( فَقَالَ يحيى بن معِين نعم يرويهِ يحيى بن آدم عَن سُفْيَان عَن زبيد وَلَا نعلم أحدا يرويهِ إِلَّا يحيى بن آدم وَهَذَا وهم لَو كَانَ هَذَا هَكَذَا لحَدث بِهِ النَّاس جَمِيعًا عَن سُفْيَان وَلكنه حَدِيث مُنكر هَذَا الْكَلَام قَالَه يحيى أَو نَحوه )) ويحيى بن آدم من الثقات الذين يروون عن الإمام سفيان ؟! .
وقد قال أبو حاتم في العلل (1/112) : (( إِنَّمَا رَوَاهُ الحسَنُ بْنُ يَزِيد الأَصَمُّ، عَنِ السُّدِّيِّ، وَهُوَ شَيْخٌ، أَيْنَ كَانَ الثَّوْري وشُعْبة عن هذا الحديث؟! وأخافُ ألاَّ يكونَ محفوظًا )) ، كذلك إنك تَجد الإمام البخاري كثيراً ما يقول : " لا يتابع عليه " ولو أنكَ رأيت في العلل الكبير للترمذي فإن الإمام البخاري كان يُطلق عبارة لا يتابع عليه في كثير من الأحاديث وفي جُملتها ما هو من أحاديث الثقات ولا يمكن طرد هذا بالإطلاق والعُموم فالأئمة عندهم ذلك يقوم مقام القرينة والحُجة والبرهان.
ومِن الشواهد إلي أنهم يعلون بما استنكرهُ علينا المُستنكر بأن قَال : " ما شاء الله ! " مُتعجباً ما روي في العلل عن أبي حاتم أنه قال : (( فلو كان هذا الحديث عن الحرِّ كان أول ما يسأل عنه، فأين كان هؤلاء الحفَّاظ عنه )) وقوله : (( ولو كان هذا الحديث عند شعبة كان أول ما يسأل عن هذا الحديث )) وقد أسهب الشيخ خالد الدريس في ذلك تِلكَ القرآئن لمَن أرد الفائدة فلينظر كِتابه .


الخاتمة في المبحث الخَفيف

وعِندَ النَظر في قَول الفريقين فإن المُترجح هو قول أكثر قدماء نقاد الحَديث وهذا المعنى المتقدم ـ وهو أن الثقة ومن في حكمه قد يستنكر عليه بعض ما يتفرد به " والحكم في التفرد كغيره من مسائل هذا الفن ، يخضع لنظر الناقد فيما لديه من قرائن وأدلة ، وربما وصل فيه إلى ما وصل فيه غيره ، لاجتماع قرائن وتعاضدها ، وقد يخالف غيره ، وهذا ما يفسر لنا استنكار ناقد لحديث ، وغيره يراه صحيحا محفوظا ، وفي الصحيحين أشياء من هذا القبيل لا أطيل بذكرها " ، وقد سبر الحافظ الذهبي أقوال الأئمة وكان كما يظهر على أمرين ذكرهما الدُكتور اللاحم :
1- قوة الراوي واشتهاره بالحفظ والضبط ، فلا شك أن هذا يجبر ما يقع منه من تفرد ، ومن هذا الباب قول مسلم ( للزهري نحو تسعين حديثا يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيه أحد ، بأسانيد جياد ) ، وقدَ أسلفنا إلي أن بعضها قد يُرد عندهم بالنَكارة وليس ذلك مُطلقاً.
2- طبقة الراوي ، فلا شك ان التفرد يحتمل في رواية التابعي عن الصحابي ، وكذلك مع الحفظ والضبط ـ يحتمل في رواية تابع التابعي عن التابعي ، وأما بعد ذلك ، أي في عصر انتشار الرواية ، وحرص الرواة على التقصي والتتبع والرحلة إلى البلدان الأخرى بغرض الرواية وانتشار الكتابة ، فإن وقوع التفرد وهو تفرد صحيح فيه بعد ، فالغالب أن يكون خطأ من المتفرد ، ولذا يستنكره الأئمة من الثقة الضابط أيضا .



*************************