معلم
17-10-2013, 07:40 PM
المال 1
فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
www.albahre.com (http://www.albahre.com/)
أما بعد ، فيا عباد الله :
إن ديننا الإسلامي دين عظيم في أحكامه ، دين عظيم في تنظيماته لمعاملة الخلق ، دين إذا سبرت أحكامه وجدتها لا تتصادم مع العقل ، ولا تتعارض مع الفطر.
ومن هنا عباد الله ، وفي المقابل تظهر حقائق ذلك ، وتبرز أهمية هذا الدين وأنه صالح لكل زمان ومكان
وهو ليس بحاجة إلى أن يُشهَد له ، فأحكامه وآدابه وتشريعاته تشهد له بذلك حتى إن أرباب الكفر ممن أنصفوا وعدلوا في أقوالهم ، ولم تصب عقولهم الانحرافات والزيغ شهدوا بعظم هذا الدين .
قال الشاعر :
شهد الأنام بفضله حتى العِدَا
والفضل ما شهدت به الأعداء
عباد الله :
هذا الدين العظيم لا يتصادم مع الفطر ، ومن ثَم فإن الله جل وعلا جبلَ خلقه على محبوبات يحبها ، ويتمنى أن تتحقق له وأن تظهر في حقيقة واقعه.
وهذه المحبوبات التي جُبل عليها الإنسان كثيرة جدا ولكن ليكن مصب اهتمامنا على محبوب تتطلع إليه النفوس البشرية .
ذلكم المحبوب :" هو المال "
المال – عباد الله – تتطلع إليه النفوس البشرية ، وتلك هي طبيعة ابن آدم
ولا يتأتى لأحد أن ينكر هذه الحقيقة أو أن يجهلها أو أن يتجاهلها ـــ لم ؟
لأن نفس العبد مقبلة على حب هذا المال ، ولذا ذكر جل وعلا ذلك في كتابه فقال : {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ }
فالخير هنا : هو " المال "
وقال عز وجل : {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً }
وقال نبيكم صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم : (( لو كان لابن آدم واد من ذهب لابتغى إليه ثانيا ، ولو كان له واديان لابتغى ثالثا ، ولا يملأ فاه إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب ))
ومعنى :
أنه لا يملأ فاه إلا التراب "أن النفس البشرية تحب هذا المال حتى آخر رمق يكون في بدن ابن آدم .
ولذا فإنه لا يشبع من هذا المال حتى يُهال عليه التراب في قبره .
ثم بيّن عليه الصلاة والسلام هذا الحديث بقوله : (( ويتوب الله على من تاب ))
ففيه دعوة إلى أن يجمل العبد في طلب هذا المال وألا يكثر من السعي خلفه .
وقد قال عليه الصلاة والسلام – كما في مسند الإمام أحمد - : (( لو كان لابن آدم واد من نخل لتمنى أن يكون له واديا ثانيا ، وتمنى أن يكون له أودية ، ولا يملأ فاه إلا التراب ))
عباد الله :
هذا المال مع أنه محبوب لدى النفوس البشرية إلا أنه نعمة من الله جل وعلا
هذا المال نعمة ، ولذا يمتنّ الله جل وعلا به على أهل الثروة ، وأهل الغنى .
فهو بهجة الحياة الدنيا زينتها :
قال جل وعلا : ((الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا))
ولكن لم تنتهِ الآية وإنما ختمها جل وعلا بجمل عظيمة تدل على أن ما يقدمه العبد من أعمال صالحة هي خير له من هذا المال ، وهو خير ما يؤمله الإنسان عند ربه يوم القيامة إذا لاقاه .
قال جل وعلا بعد ذلك : ((وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ))
عباد الله :
المال نعمة ، ولذا وصفه اله جل وعلا بالخيرية ، فقال : {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ }
الخير هنا : هو " المال "
وقال عز وجل : {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ{
فكلمة خير في هذه الآية إنما يراد به " المال "
ولذا قال عليه الصلاة والسلام – كما في مسند الإمام أحمد - : (( نِعم المال الصالح للمرء الصالح ))
المال نعمة ، ولذا دعا النبي صلى الله عليه وسلم لأنس بأن يعطيه الله مالا ، وأن يبارك له فيه .
جاء في صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم سُليم ( وهي أم أنس ) زوجة أبي طلحة الأنصاري ، فقدمت له سمنا وتمرا ، فقال عليه الصلاة والسلام :(( أعيدوا سمنكم في سقائه ، وتمركم في وعائه فإني صائم )) ثم تنحى فصلى عليه الصلاة والسلام صلاة غير المكتوبة ثم دعا لأم سليم وأهل بيتها ، فقالت أم سليم : يا رسول الله إن لي إليك خويصة ( يعني حاجة وخاصة ) فقال عليه الصلاة والسلام : (( وما هي ))
قالت : خادمك أنس ادعُ الله له .
قال أنس : فما ترك النبي صلى الله عليه وسلم دعوة في أخرى ولا في دنيا إلا دعا بها فقال : (( اللهم ارزقه مالا وولدا وبارك له فيه ))
قال أنس : وإني لمن أكثر الأنصار مالا
وقالت أُمينة ( وهي ابنته الكبرى ) قالت : وقد دُفن لصلبه مقدم الحجاج في سنة السبعينات ، دُفن بضع وعشرون ومئة ، وبقي من صلبه – كما جاء في في في صحيح مسلم أنه قال : (( وإن ولدي وولد ولدي ليصلون نحو المئة ))
وقال أنس رضي الله عنه كما في صحيح مسلم قال : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لي بثلاث ، رأيت اثنتين منها في الدنيا ، وإني لأرجو الثالثة ."
الثالثة بينتها رواية " ابن سعد " أن النبي عليه الصلاة والسلام قال :(( اللهم ارزقه مالا وولدا ، وأطل عمره ، واغفر له ذنبه ))
فالتي في الآخرة هي مغفرة الذنوب.
وقد جاء عند الترمذي عن " أبي العالية " أنه قال : " وإن بستان أنس ليحمل في السنة مرتين ، وإنه لينبت فيه ريحان يخرج منه ريح المسك "
وجاء عند " أبي نعيم " أن أنس رضي الله عنه قال :" وإن أرضي لتثمر في السنة مرتين ، وليست هناك أرض في المدينة تثمر في السنة مرتين غيرها "
المال نعمة – عباد الله – شريطة أن يُوفق العبد إلى أن ينفقه في مرضات الله عز وجل ، وان يخرج حقوقه .
ولذا قال عليه الصلاة والسلام – كما في الصحيحين - : (( لا حسد إلا في اثنتين ))
الحسد مذموم ؛ وذلك أن يتمنى العبد زوال النعمة عن أخيه ، لكن الحسد الممدوح المحمود : هو أن يتمنى العبد مثل ما لأخيه من الطاعات دون ان يتمنى زوالها .
فقال عليه الصلاة والسلام :((لا حسد ( يعني محمودا ) لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا فسلّطه على هلكته في الحق ، ورجل آتاه الله الحكمة( يعني العلم ) فهو يعلم بها الناس ، ويقضي بينهم ))
وموضع الشاهد :
قال :(( ورجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ))
يعني : أنه أهلك هذا المال في وجوه الحق .
فهذا الذي لم يصل المال إليه ، لكن نيته طيبة يكون أجره كأجره ، لدلالة حديث" أبي كبشة الأنماري " عند الترمذي : أن النبي عليه الصلاة والسلام قال :(( إنما الدنيا لأربعة نفر :
رجل آتاه الله مالا وعلما ، فهو يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه فهو في أعلى المنازل .
ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا فيقول : لو ان لي مالا مثل فلان لعملت به كعمل فلان فهما في الأجر سواء
ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علما فهو لا يتقي فيه ربه ، ولا يصل فيه رحمه فهذا في أخبث المنازل
وجل لم يؤته الله مالا ولا علما فهو يقول : لو أن لي مالا لعملت به كعمل فلان فهما في الوزر سواء ))
عباد الله :
المال نعمة ،ولذا فإن الرب جل وعلا يقرر عبده يوم القيامة حتى يظهر هذه المنة والمنحة التي منحها جل وعلا إياها وهي المال ، حتى يقرره جل وعلا بذلك :
جاء في صحيح مسلم ان النبي عليه الصلاة والسلام قال : (( يُؤتى بالعبد يوم القيامة فيقول الله جل وعلا : " ألم أجعل لك سمعا وبصرا ومالا وولدا وتركتك ترأس وتربع أكنتَ تظن أنك ملاقيّ ؟ قال : " لا " قال : " فاليوم أنساك كما نسيتني ))
المال نعمة ، وممن ؟ ـــــــــــ من الله جل وعلا .
لا بذكائك ، ولا بعقلك ، ولا من أشرافك ، ولا من أسيادك ، ولا من أجدادك
لا كما قاله قارون : ((إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي))
فما هي النتيجة ؟
((فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ ))
ولذا قال جل وعلا : ((وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ))
لم تظفرعليه أيها الغني لا بجهدك ، ولا بقوتك ، ولا بذكائك إنما هو من الله جل وعلا
ولذا قد تجد الرجل المعتوه قليل الفكر والرأي يملك ملايين الريالات
ولذا قال الشاعر عن العاقل الذي لديه فكر وعقل وهو يبحث عن المال ، يقارن بينه وبين العاجز :
قال :
ويظل ملهوفا يروم تحيُّلا
والرزق ليس بحيلة يُستجلَبُ
كم عاجز في الناس يؤتى رزقه
رغدا ويُحرم كيِّس ويُخَيَّبُ
المال – عباد الله – نعمة إذا أخذه العبد من طريقه الصحيح ، فإن الله جل وعلا يبارك له فيه كما جاء في الصحيحين : قال عليه الصلاة والسلام : (( إن هذا المال حلوُ خضر ، فمن أخذه بحقه بورك له فيه ، ومن أخذه بإشرافة نفس لم يُبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع )) ثم ختم عليه الصلاة والسلام الحديث بقوله : (( واليد العليا خير من اليد السفلى ))
ما هي اليد العليا ؟
بيّنها النبي عليه الصلاة والسلام بأنها " المنفقة " وأن اليد السفلى هي " السائلة "
ففي ختام هذا الحديث بهذه الجملة يدل على أنه يجب على العبد أن يأخذ المال من طريقه الشرعي الصحيح ثم ينفقه في طريقه الشرعي الصحيح .
المال نعمة – عباد الله – إذا اُستعين به على طاعة الله عز وجل .
ولذا النبي عليه الصلاة والسلام – كما جاء في مستدرك الحاكم :" يستعيذ بالله من الفقر والعيلة "
ولذا جاء عند الترمذي في حديث يضعفه البعض ، ويقبله البعض قال عليه الصلاة والسلام فيما رُوي عنه قال : (( بادروا بالأعمال سبعا ( يعني سارعوا بالأعمال الصالحة قبل أن تقدم عليكم سبعة أشياء) بادروا بالأعمال سبعا : هل تنتظرون إلا فقرا منسيا ــــــــ (( وذلك لأن الفقر إذا حلّ بالعبد أشغله عن أمور طاعته ))
المال – عباد الله – نعمة من الله جل وعلا ؛ ولذا جعل الإسلام له حصانة وحماية ، فقال الله جل وعلا في حق أموال اليتامى ، وان على الأولياء أن يعملوا بها على مقتضى المصلحة لا على ما تهواه أنفسهم :
قال جل وعلا :((وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ))
وقال جل وعلا :((وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ))
بل إن الشرع نهى أن يُعطى هؤلاء أموالهم حتى يرشدوا : {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً }
ولذا جاء عند الترمذي موقوفا على عمر رضي الله عنه ، ويحسنه العراقي مرفوعا : (( من ولي يتيما له مال ــــــ ماذا يصنع به ؟ - فليتجر به حتى لا تأكله الصدقة ))
المال نعمة حتى إن الشرع حمى الأموال العامة ليس في حق هؤلاء القُصَّر ، وإنما في حق المال العام :
قال عليه الصلاة والسلام كما في المسند : (( لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه ))
وقال عليه الصلاة والسلام – كما في صحيح مسلم - : (( كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ))
وقد نهى النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث المشهور في الصحيحين نهى عن إضاعة المال .
بل إن الشرع أمرنا حال النفقة أن نكون متوسطين في النفقة :
فقال جل وعلا في وصف عباد الرحمن : {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً }
وقال عليه الصلاة والسلام – كما في سنن النسائي : (( كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير إسراف ولا مخيلة ))
عبد الله أقول ما تسمع وأستغفر الله لي ولك ، فاستغفره وتب إليه إن ربي كان توابا رحيما .
الخطبة الثانية
أما بعد فيا عبادَ الله :
المال نعمة من الله جل وعلا إذا أخرج العبد حقوقه كالزكاة أو في المشاريع الخيرية .
وإذا أخرج هذه الحقوق فهذا يدل على كمال إيمانه ـــــــ لم ؟
لأن المال محبوب ، فما قدمه إلا لما هو أحب إليه من هذا المال .
ولذا فإن الله عز وجل لما ذكر البر وذكر صفات البار قال جل وعلا في مطلع آية في سورة البقرة : ((لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ))
وهذا هو موضع الشاهد ((وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ )) أي لكونه محبوبا إليه على أحد وجهي التفسير .
وقال عز وجل في وصف عباد الله الأبرار كما في سورة الإنسان : {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً } إلى أن قال في صفاتهم :
{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً }
ولذا النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين لما سئل:عن أي الصدقة أفضل ؟ قال : " أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى "
وقد ضرب الصحابة رضي الله عنهم أروع الأمثلة في إنفاق هذا المال في وجوه الخير :
فقد امتدح الله جل وعلا المهاجرين لكونهم ضحوا بأنفسهم وأموالهم من أجل هذا الدين :
قال جل وعلا : ((لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً))
وامتدح الأنصار لكونهم قدموا أموالهم لإخوانهم المهاجرين فقال جل وعلا : ((وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ))
بل أذكر صنفا من صنف هؤلاء الأبرار الأخيار صحابة النبي صلى الله عليه وسلم .
فإليكم صنفا واحدا من الأنصار :
جاء في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أنه قال : كان أبو طلحة الأنصاري أكثر الأنصار مالا ، وكان عنده بيرُحاء ، وهي " بستان " بيرحاء ، وهي أحب أمواله إليه ، وكانت مستقبلة المسجد ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل فيها ويشرب منها ، من ماء طيب فيها ، فأنزل الله عز وجل : ((لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ)) فأتى أبو طلحة الأنصاري إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن الله أنزل قوله تعالى : ((لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ)) وإن أحب أموالي إليّ بيرحاء ، وإني أهبها وأجعلها صدقة أرجو ذخرها وثوابها عند الله جل وعلا ، فقال عليه الصلاة والسلام : (( بخٍ بخٍ )) – وهي كلمة لتفخيم الأمر ، قال : (( بخ بخ ذاك مال رابح ))
وفي رواية فقال عليه الصلاة والسلام : (( ذاك مال رايح )) يعني رايح في طاعة الله
فقال عليه الصلاة والسلام : (( أرى أن تجعلها في الأقربين ))
فجعلها أبو طلحة في بني عمه وأقربائه.
هذا هو أبو طلحة الأنصاري ، صورة من صور أفراد الأنصار رضي الله عنهم .
أما صور المهاجرين فإليكم ما ذكره البخاري ومسلم في صحيحيهما :" أن عمر رضي الله عنه قال : يا رسول الله ما أصبتُ مالا قطُ هو أنفس عندي من سهمي الذي بخيبر ، فماذا أصنع به ؟
فقال عليه الصلاة والسلام : احبس الأصل ، وسبِّل المنفعة .
وليس هناك أعظم من أبي بكر رضي الله عنه في صحابة النبي صلى الله عليه وسلم في تقديم الخير لله ولرسوله ، ولعموم المسلمين .
ولذا قال عليه الصلاة والسلام – كما في المسند وسنن ابن ماجة – قال :(( ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر ))
فقال أبو بكر رضي الله عنه –كما عند ابن ماجة – فقال : يا رسول الله ، وهل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله .
إذن المال الحقيقي الذي تملكه – عبد الله – أن تنفقه في طاعة الله عز وجل
أما ما تستبقيه فإنه ليس لك .
ولذا قال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم من حديث المفرق عن أبيه أنه قال : " انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول :((أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ)) فقال : يقول العبد : " مالي مالي ، وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت ))
وجاء في صحيح البخاري أن النبي عليه الصلاة والسلام سأل أصحابه رضي الله عنهم ذات يوم ، فقال : (( أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله ؟ ))
فقالوا : يا رسول الله كلنا ماله أحب إليه من مال وارثه .
فقال عليه الصلاة والسلام : (( فإن ماله ما قدّم ، وإنما لوارثه ما أخَّر ))
ولذا قال الشاعر :
إذا المرء لم يعتق من المال نفسه
تملَّكه المال الذي هو مالكهْ
ألا إنما مالي الذي أنا منفقٌ
وليس لي المال الذي أنا تاركهْ
المال نعمة ، فلا شك في ذلك ، ولكن ليس هذا على إطلاقه فقد يكون المال نقمة على العبد واشتباه آخر .
وهذا هو محل حديثنا في الجمعة القادمة إن شاء الله تعالى .
نشر في : Jun 27th, 2013 - 01:20:07
فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
www.albahre.com (http://www.albahre.com/)
أما بعد ، فيا عباد الله :
إن ديننا الإسلامي دين عظيم في أحكامه ، دين عظيم في تنظيماته لمعاملة الخلق ، دين إذا سبرت أحكامه وجدتها لا تتصادم مع العقل ، ولا تتعارض مع الفطر.
ومن هنا عباد الله ، وفي المقابل تظهر حقائق ذلك ، وتبرز أهمية هذا الدين وأنه صالح لكل زمان ومكان
وهو ليس بحاجة إلى أن يُشهَد له ، فأحكامه وآدابه وتشريعاته تشهد له بذلك حتى إن أرباب الكفر ممن أنصفوا وعدلوا في أقوالهم ، ولم تصب عقولهم الانحرافات والزيغ شهدوا بعظم هذا الدين .
قال الشاعر :
شهد الأنام بفضله حتى العِدَا
والفضل ما شهدت به الأعداء
عباد الله :
هذا الدين العظيم لا يتصادم مع الفطر ، ومن ثَم فإن الله جل وعلا جبلَ خلقه على محبوبات يحبها ، ويتمنى أن تتحقق له وأن تظهر في حقيقة واقعه.
وهذه المحبوبات التي جُبل عليها الإنسان كثيرة جدا ولكن ليكن مصب اهتمامنا على محبوب تتطلع إليه النفوس البشرية .
ذلكم المحبوب :" هو المال "
المال – عباد الله – تتطلع إليه النفوس البشرية ، وتلك هي طبيعة ابن آدم
ولا يتأتى لأحد أن ينكر هذه الحقيقة أو أن يجهلها أو أن يتجاهلها ـــ لم ؟
لأن نفس العبد مقبلة على حب هذا المال ، ولذا ذكر جل وعلا ذلك في كتابه فقال : {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ }
فالخير هنا : هو " المال "
وقال عز وجل : {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً }
وقال نبيكم صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم : (( لو كان لابن آدم واد من ذهب لابتغى إليه ثانيا ، ولو كان له واديان لابتغى ثالثا ، ولا يملأ فاه إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب ))
ومعنى :
أنه لا يملأ فاه إلا التراب "أن النفس البشرية تحب هذا المال حتى آخر رمق يكون في بدن ابن آدم .
ولذا فإنه لا يشبع من هذا المال حتى يُهال عليه التراب في قبره .
ثم بيّن عليه الصلاة والسلام هذا الحديث بقوله : (( ويتوب الله على من تاب ))
ففيه دعوة إلى أن يجمل العبد في طلب هذا المال وألا يكثر من السعي خلفه .
وقد قال عليه الصلاة والسلام – كما في مسند الإمام أحمد - : (( لو كان لابن آدم واد من نخل لتمنى أن يكون له واديا ثانيا ، وتمنى أن يكون له أودية ، ولا يملأ فاه إلا التراب ))
عباد الله :
هذا المال مع أنه محبوب لدى النفوس البشرية إلا أنه نعمة من الله جل وعلا
هذا المال نعمة ، ولذا يمتنّ الله جل وعلا به على أهل الثروة ، وأهل الغنى .
فهو بهجة الحياة الدنيا زينتها :
قال جل وعلا : ((الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا))
ولكن لم تنتهِ الآية وإنما ختمها جل وعلا بجمل عظيمة تدل على أن ما يقدمه العبد من أعمال صالحة هي خير له من هذا المال ، وهو خير ما يؤمله الإنسان عند ربه يوم القيامة إذا لاقاه .
قال جل وعلا بعد ذلك : ((وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ))
عباد الله :
المال نعمة ، ولذا وصفه اله جل وعلا بالخيرية ، فقال : {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ }
الخير هنا : هو " المال "
وقال عز وجل : {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ{
فكلمة خير في هذه الآية إنما يراد به " المال "
ولذا قال عليه الصلاة والسلام – كما في مسند الإمام أحمد - : (( نِعم المال الصالح للمرء الصالح ))
المال نعمة ، ولذا دعا النبي صلى الله عليه وسلم لأنس بأن يعطيه الله مالا ، وأن يبارك له فيه .
جاء في صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم سُليم ( وهي أم أنس ) زوجة أبي طلحة الأنصاري ، فقدمت له سمنا وتمرا ، فقال عليه الصلاة والسلام :(( أعيدوا سمنكم في سقائه ، وتمركم في وعائه فإني صائم )) ثم تنحى فصلى عليه الصلاة والسلام صلاة غير المكتوبة ثم دعا لأم سليم وأهل بيتها ، فقالت أم سليم : يا رسول الله إن لي إليك خويصة ( يعني حاجة وخاصة ) فقال عليه الصلاة والسلام : (( وما هي ))
قالت : خادمك أنس ادعُ الله له .
قال أنس : فما ترك النبي صلى الله عليه وسلم دعوة في أخرى ولا في دنيا إلا دعا بها فقال : (( اللهم ارزقه مالا وولدا وبارك له فيه ))
قال أنس : وإني لمن أكثر الأنصار مالا
وقالت أُمينة ( وهي ابنته الكبرى ) قالت : وقد دُفن لصلبه مقدم الحجاج في سنة السبعينات ، دُفن بضع وعشرون ومئة ، وبقي من صلبه – كما جاء في في في صحيح مسلم أنه قال : (( وإن ولدي وولد ولدي ليصلون نحو المئة ))
وقال أنس رضي الله عنه كما في صحيح مسلم قال : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لي بثلاث ، رأيت اثنتين منها في الدنيا ، وإني لأرجو الثالثة ."
الثالثة بينتها رواية " ابن سعد " أن النبي عليه الصلاة والسلام قال :(( اللهم ارزقه مالا وولدا ، وأطل عمره ، واغفر له ذنبه ))
فالتي في الآخرة هي مغفرة الذنوب.
وقد جاء عند الترمذي عن " أبي العالية " أنه قال : " وإن بستان أنس ليحمل في السنة مرتين ، وإنه لينبت فيه ريحان يخرج منه ريح المسك "
وجاء عند " أبي نعيم " أن أنس رضي الله عنه قال :" وإن أرضي لتثمر في السنة مرتين ، وليست هناك أرض في المدينة تثمر في السنة مرتين غيرها "
المال نعمة – عباد الله – شريطة أن يُوفق العبد إلى أن ينفقه في مرضات الله عز وجل ، وان يخرج حقوقه .
ولذا قال عليه الصلاة والسلام – كما في الصحيحين - : (( لا حسد إلا في اثنتين ))
الحسد مذموم ؛ وذلك أن يتمنى العبد زوال النعمة عن أخيه ، لكن الحسد الممدوح المحمود : هو أن يتمنى العبد مثل ما لأخيه من الطاعات دون ان يتمنى زوالها .
فقال عليه الصلاة والسلام :((لا حسد ( يعني محمودا ) لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا فسلّطه على هلكته في الحق ، ورجل آتاه الله الحكمة( يعني العلم ) فهو يعلم بها الناس ، ويقضي بينهم ))
وموضع الشاهد :
قال :(( ورجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ))
يعني : أنه أهلك هذا المال في وجوه الحق .
فهذا الذي لم يصل المال إليه ، لكن نيته طيبة يكون أجره كأجره ، لدلالة حديث" أبي كبشة الأنماري " عند الترمذي : أن النبي عليه الصلاة والسلام قال :(( إنما الدنيا لأربعة نفر :
رجل آتاه الله مالا وعلما ، فهو يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه فهو في أعلى المنازل .
ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا فيقول : لو ان لي مالا مثل فلان لعملت به كعمل فلان فهما في الأجر سواء
ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علما فهو لا يتقي فيه ربه ، ولا يصل فيه رحمه فهذا في أخبث المنازل
وجل لم يؤته الله مالا ولا علما فهو يقول : لو أن لي مالا لعملت به كعمل فلان فهما في الوزر سواء ))
عباد الله :
المال نعمة ،ولذا فإن الرب جل وعلا يقرر عبده يوم القيامة حتى يظهر هذه المنة والمنحة التي منحها جل وعلا إياها وهي المال ، حتى يقرره جل وعلا بذلك :
جاء في صحيح مسلم ان النبي عليه الصلاة والسلام قال : (( يُؤتى بالعبد يوم القيامة فيقول الله جل وعلا : " ألم أجعل لك سمعا وبصرا ومالا وولدا وتركتك ترأس وتربع أكنتَ تظن أنك ملاقيّ ؟ قال : " لا " قال : " فاليوم أنساك كما نسيتني ))
المال نعمة ، وممن ؟ ـــــــــــ من الله جل وعلا .
لا بذكائك ، ولا بعقلك ، ولا من أشرافك ، ولا من أسيادك ، ولا من أجدادك
لا كما قاله قارون : ((إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي))
فما هي النتيجة ؟
((فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ ))
ولذا قال جل وعلا : ((وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ))
لم تظفرعليه أيها الغني لا بجهدك ، ولا بقوتك ، ولا بذكائك إنما هو من الله جل وعلا
ولذا قد تجد الرجل المعتوه قليل الفكر والرأي يملك ملايين الريالات
ولذا قال الشاعر عن العاقل الذي لديه فكر وعقل وهو يبحث عن المال ، يقارن بينه وبين العاجز :
قال :
ويظل ملهوفا يروم تحيُّلا
والرزق ليس بحيلة يُستجلَبُ
كم عاجز في الناس يؤتى رزقه
رغدا ويُحرم كيِّس ويُخَيَّبُ
المال – عباد الله – نعمة إذا أخذه العبد من طريقه الصحيح ، فإن الله جل وعلا يبارك له فيه كما جاء في الصحيحين : قال عليه الصلاة والسلام : (( إن هذا المال حلوُ خضر ، فمن أخذه بحقه بورك له فيه ، ومن أخذه بإشرافة نفس لم يُبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع )) ثم ختم عليه الصلاة والسلام الحديث بقوله : (( واليد العليا خير من اليد السفلى ))
ما هي اليد العليا ؟
بيّنها النبي عليه الصلاة والسلام بأنها " المنفقة " وأن اليد السفلى هي " السائلة "
ففي ختام هذا الحديث بهذه الجملة يدل على أنه يجب على العبد أن يأخذ المال من طريقه الشرعي الصحيح ثم ينفقه في طريقه الشرعي الصحيح .
المال نعمة – عباد الله – إذا اُستعين به على طاعة الله عز وجل .
ولذا النبي عليه الصلاة والسلام – كما جاء في مستدرك الحاكم :" يستعيذ بالله من الفقر والعيلة "
ولذا جاء عند الترمذي في حديث يضعفه البعض ، ويقبله البعض قال عليه الصلاة والسلام فيما رُوي عنه قال : (( بادروا بالأعمال سبعا ( يعني سارعوا بالأعمال الصالحة قبل أن تقدم عليكم سبعة أشياء) بادروا بالأعمال سبعا : هل تنتظرون إلا فقرا منسيا ــــــــ (( وذلك لأن الفقر إذا حلّ بالعبد أشغله عن أمور طاعته ))
المال – عباد الله – نعمة من الله جل وعلا ؛ ولذا جعل الإسلام له حصانة وحماية ، فقال الله جل وعلا في حق أموال اليتامى ، وان على الأولياء أن يعملوا بها على مقتضى المصلحة لا على ما تهواه أنفسهم :
قال جل وعلا :((وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ))
وقال جل وعلا :((وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ))
بل إن الشرع نهى أن يُعطى هؤلاء أموالهم حتى يرشدوا : {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً }
ولذا جاء عند الترمذي موقوفا على عمر رضي الله عنه ، ويحسنه العراقي مرفوعا : (( من ولي يتيما له مال ــــــ ماذا يصنع به ؟ - فليتجر به حتى لا تأكله الصدقة ))
المال نعمة حتى إن الشرع حمى الأموال العامة ليس في حق هؤلاء القُصَّر ، وإنما في حق المال العام :
قال عليه الصلاة والسلام كما في المسند : (( لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه ))
وقال عليه الصلاة والسلام – كما في صحيح مسلم - : (( كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ))
وقد نهى النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث المشهور في الصحيحين نهى عن إضاعة المال .
بل إن الشرع أمرنا حال النفقة أن نكون متوسطين في النفقة :
فقال جل وعلا في وصف عباد الرحمن : {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً }
وقال عليه الصلاة والسلام – كما في سنن النسائي : (( كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير إسراف ولا مخيلة ))
عبد الله أقول ما تسمع وأستغفر الله لي ولك ، فاستغفره وتب إليه إن ربي كان توابا رحيما .
الخطبة الثانية
أما بعد فيا عبادَ الله :
المال نعمة من الله جل وعلا إذا أخرج العبد حقوقه كالزكاة أو في المشاريع الخيرية .
وإذا أخرج هذه الحقوق فهذا يدل على كمال إيمانه ـــــــ لم ؟
لأن المال محبوب ، فما قدمه إلا لما هو أحب إليه من هذا المال .
ولذا فإن الله عز وجل لما ذكر البر وذكر صفات البار قال جل وعلا في مطلع آية في سورة البقرة : ((لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ))
وهذا هو موضع الشاهد ((وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ )) أي لكونه محبوبا إليه على أحد وجهي التفسير .
وقال عز وجل في وصف عباد الله الأبرار كما في سورة الإنسان : {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً } إلى أن قال في صفاتهم :
{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً }
ولذا النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين لما سئل:عن أي الصدقة أفضل ؟ قال : " أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى "
وقد ضرب الصحابة رضي الله عنهم أروع الأمثلة في إنفاق هذا المال في وجوه الخير :
فقد امتدح الله جل وعلا المهاجرين لكونهم ضحوا بأنفسهم وأموالهم من أجل هذا الدين :
قال جل وعلا : ((لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً))
وامتدح الأنصار لكونهم قدموا أموالهم لإخوانهم المهاجرين فقال جل وعلا : ((وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ))
بل أذكر صنفا من صنف هؤلاء الأبرار الأخيار صحابة النبي صلى الله عليه وسلم .
فإليكم صنفا واحدا من الأنصار :
جاء في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أنه قال : كان أبو طلحة الأنصاري أكثر الأنصار مالا ، وكان عنده بيرُحاء ، وهي " بستان " بيرحاء ، وهي أحب أمواله إليه ، وكانت مستقبلة المسجد ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل فيها ويشرب منها ، من ماء طيب فيها ، فأنزل الله عز وجل : ((لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ)) فأتى أبو طلحة الأنصاري إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن الله أنزل قوله تعالى : ((لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ)) وإن أحب أموالي إليّ بيرحاء ، وإني أهبها وأجعلها صدقة أرجو ذخرها وثوابها عند الله جل وعلا ، فقال عليه الصلاة والسلام : (( بخٍ بخٍ )) – وهي كلمة لتفخيم الأمر ، قال : (( بخ بخ ذاك مال رابح ))
وفي رواية فقال عليه الصلاة والسلام : (( ذاك مال رايح )) يعني رايح في طاعة الله
فقال عليه الصلاة والسلام : (( أرى أن تجعلها في الأقربين ))
فجعلها أبو طلحة في بني عمه وأقربائه.
هذا هو أبو طلحة الأنصاري ، صورة من صور أفراد الأنصار رضي الله عنهم .
أما صور المهاجرين فإليكم ما ذكره البخاري ومسلم في صحيحيهما :" أن عمر رضي الله عنه قال : يا رسول الله ما أصبتُ مالا قطُ هو أنفس عندي من سهمي الذي بخيبر ، فماذا أصنع به ؟
فقال عليه الصلاة والسلام : احبس الأصل ، وسبِّل المنفعة .
وليس هناك أعظم من أبي بكر رضي الله عنه في صحابة النبي صلى الله عليه وسلم في تقديم الخير لله ولرسوله ، ولعموم المسلمين .
ولذا قال عليه الصلاة والسلام – كما في المسند وسنن ابن ماجة – قال :(( ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر ))
فقال أبو بكر رضي الله عنه –كما عند ابن ماجة – فقال : يا رسول الله ، وهل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله .
إذن المال الحقيقي الذي تملكه – عبد الله – أن تنفقه في طاعة الله عز وجل
أما ما تستبقيه فإنه ليس لك .
ولذا قال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم من حديث المفرق عن أبيه أنه قال : " انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول :((أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ)) فقال : يقول العبد : " مالي مالي ، وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت ))
وجاء في صحيح البخاري أن النبي عليه الصلاة والسلام سأل أصحابه رضي الله عنهم ذات يوم ، فقال : (( أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله ؟ ))
فقالوا : يا رسول الله كلنا ماله أحب إليه من مال وارثه .
فقال عليه الصلاة والسلام : (( فإن ماله ما قدّم ، وإنما لوارثه ما أخَّر ))
ولذا قال الشاعر :
إذا المرء لم يعتق من المال نفسه
تملَّكه المال الذي هو مالكهْ
ألا إنما مالي الذي أنا منفقٌ
وليس لي المال الذي أنا تاركهْ
المال نعمة ، فلا شك في ذلك ، ولكن ليس هذا على إطلاقه فقد يكون المال نقمة على العبد واشتباه آخر .
وهذا هو محل حديثنا في الجمعة القادمة إن شاء الله تعالى .
نشر في : Jun 27th, 2013 - 01:20:07