المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : وقفات مع يوم عرفات



أهــل الحـديث
13-10-2013, 10:20 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم



بسم الله الرحمن الرحيم

هذه أيها الأحبة مقالة جديدة لشيخنا أبي عبد الله حمزة النايلي ( وفقه الله) نفعنا الله وإياكم بها.


وقفات مع يوم عرفات

الحمد لله رب العالمين و الصلاة والسلام على أشرف المرسلين،نبينا محمد و على آله،وصحبه أجمعين.
أما بعد:
إن يوم عرفة أيها الأحبة الكرام من أفضل أيها العام،وأحبها للملك العلام،فهو اليوم المشهود الذي ذُكر في كتاب ربنا المعبود،قال سبحانه:(واليوم الموعود (2)شاهد ومشهود) [البروج:2-3]
قال الإمام الشوكاني-رحمه الله-:"ذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى أن الشاهد يوم الجمعة، وأنه يشهد على كل عامل بما عمل فيه والمشهود يوم عرفة، لأنه يشهد الناس فيه موسم الحج وتحضره الملائكة،قال الواحدي:" وهذا قول الأكثر".فتح القدير (5/411)
ويؤيد ما ذهب إليه الأكثر، ما جاء عند الإمام الترمذي في سننه (3339)،وحسنه الشيخ الألباني –رحمه الله-، من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَالْيَوْمُ الْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ".
إن هذا اليوم المبارك أيها الأفاضل اجتمع فيه فضل الزمان والمكان بالنسبة لحجاج بيت الرحمن، فهم يقفون في وقت واحد على صعيد عرفة، بعد أن قدموا من كل الأقطار وجاءوا من كل البلدان والأمصار،نراهم قد اجتمعوا فيه وهمهم واحد وهو التضرع والاستغفار وطلب الرحمة من العزيز الغفار.
إن هذا الاجتماع المبارك الذي يحصل منهم في هذا اليوم الفاضل، يُفرح الغفور المنان، ويُبغض ويُحزن عدو الله الشيطان وكل أولياءه من الإنس و الجان.
يقول الشيخ السعدي-رحمه الله-:"وفي أيام عشر ذي الحجة، الوقوف بعرفة الذي يغفر الله فيه لعباده مغفرة، يحزن لها الشيطان فإنه ما رئي الشيطان أحقر ولا أدحر منه في يوم عرفة لما يرى من تنزل الأملاك والرحمة من الله لعباده،ويقع فيها كثير من أفعال الحج والعمرة، وهذه أشياء معظمة مستحقة أن يقسم الله بها". تفسير السعدي ( ص923)
فيُباهي المولى العلام بهم ملائكته الكرام،فعن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول:"إن اللَّهَ عز وجل يُباهي مَلاَئِكَتَهُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِأَهْلِ عَرَفَةَ،فيقول:انْظُرُوا إلى عبادي آتوني شُعْثاً غُبْراً ".رواه الإمام أحمد ( 2/224)،وصححه العلامة الألباني –رحمه الله-.
يقول الإمام ابن القيم –رحمه الله-:"فَللَّه كم به من ذنب مغْفور،وعثرة مُقالة،وزلة معفو عنها، وحاجة مقضية،وكربة مفروجة، وبلية مرفوعة،ونعمة متجددة، وسعادة مكتسبة، وشقاوة ممحوة،كيف وهو الجبل المخصوص بذلك الجمع الأعظم والوفد الأكرم الذين جاؤوا من كل فج عميق وقوفا لربهم مستكينين لعظمته خاشعين لعزته، شُعْثًا غبرا حاسرين عن رؤوسهم يستقيلونه عثراتهم ويسألونه حاجاتهم فيدنو منهم ثم يباهي بهم الملائكة فلله ذاك الجبل وما ينزل عليه من الرحمة والتجاوز عن الذنوب العظام".مفتاح دار السعادة (1/220)
فيمن عليهم الرحمن بالغفران والعتق من النيران،فعن عائشة–رضي الله عنها-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما من يَوْمٍ أَكْثَرَ من أَنْ يُعْتِقَ الله فيه عَبْدًا من النَّارِ من يَوْمِ عَرَفَةَ،وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلَائِكَةَ، فيقول:ما أَرَادَ هَؤُلَاءِ". رواه مسلم (1348)
قال الإمام النووي-رحمه الله-:"هذا الحديث ظاهر الدلالة في فضل يوم عرفة".شرح النووي على صحيح مسلم (9/117)
ويقول الملا على قاري –رحمه الله-:"(ما أَرَادَ هَؤُلَاءِ ):أي شيء أراد هؤلاء حيث تركوا أهلهم وأوطانهم،وصرفوا أموالهم وأتعبوا أبدانهم، أي ما أرادوا إلا المغفرة والرضا والقرب واللقاء، ومن جاء هذا الباب لا يخشى الرد، أو التقدير ما أراد هؤلاء فهو حاصل لهم، ودرجاتهم على قدر مراداتهم ونياتهم...".مرقاة المفاتيح (5/510)
فعلى من وفق لأداء مناسك الحج هذا العام والاجتماع في هذا المكان المبارك، أن يحمد الله جل جلاله على هذه النعمة العظيمة والمنحة الجليلة،وينوي بعمله هذا وجه الله الكريم، وليحذر من الرياء و الافتخار،وليبتعد عن كل ما يَخرم حجه و ينقص أجره من البدع،واللغو و الرفث،فإن ذلك ينافي الحج المبرور،وليحرص على تحقيق الاتباع، وسؤال أهل الذكر من أهل السنة إذا أشكل عليه شيء، وليجتنب أهل الأهواء،والابتداع.
إن من كرم الباري جل جلاله على عباده أجمعين أيها الأحبة الأفاضل،أن جعل فضل هذا اليوم وشرفه يلحق أيضا بغير الحجاج بيته الحرام، فهم يجتمع لهم كذلك فيه فضل الزمان،ويستحب لهم كذلك المسارعة في الطاعات من ذكر وصدقة وصلة رحم ، وغير ذلك من أنواع الخيرات،لعموم ما جاء في فضل العشر ذي الحجة ويوم عرفة منها ، فعن عبد الله بن عباس –رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام " يعني : العشر قالوا : يارسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟!قال:ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ، ثم لم يرجع من ذلك بشيء". رواه البخاري (969).
يقول الحافظ ابن رجب –رحمه الله- : "لما كان الله سبحانه وتعالى قد وضع في نفوس المؤمنين حنينا إلى مشاهدة بيته الحرام، وليس كل أحد قادرا على مشاهدته في كل عام فرض على المستطيع الحج مرة واحدة في عمره ، وجعل موسم العشر مشتركا بين السائرين والقاعدين فمن عجز عن الحج في عام قدر في العشر على عمل يعمله في بيته يكون أفضل من الجهاد الذي هو أفضل من الحج". لطائف المعارف(ص272)
وإن من أهم ما يُستحب لهم فيه،صيام يومه،لذا ينبغي على كل مسلم أن لا يضيع ذلك، لما فيه من الأجر العظيم والفضل الكبير، فعن أبي قتادة الأنصاري –رضي الله عنه- قال:قال صلى الله عليه وسلم:" صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده ".رواه مسلم(1161)
يقول الإمام النووي –رحمه الله-:" معناه يكفر ذنوب صائمه في السنتين، قالوا: والمراد بها الصغائر، وسبق بيان مثل هذا في تكفير الخطايا بالوضوء، وذكرنا هناك أنه أن لم تكن صغائر يرجى التخفيف من الكبائر، فإن لم يكن رفعت درجات".
الشرح على صحيح مسلم (8 /51)
لكن مما يثير الحيرة والاستغراب أيها الأحباب أن نجد من المسلمين من يضيع هذا اليوم المبارك في الشهوات والملذات!!، فتمر عليه ساعاته كباقي الأوقات!!دون أن يستشعر عظمته ومكانته عند رب البريات.
ومنهم من لم يكتف بما شرعه الوهاب، ونجد منه اجتهادا في ارتكاب البدع والمحدثات التي تخالف ما جاء بها خير البريات، ونسي هؤلاء أن الخير كل الخير في السنة والإتباع،وشر كل الشر في الإحداث و الابتداع ،وما علموا أن البدع هي مضلة عن الدين، مبعدة عن رب العالمين.
يقول الإمام أيوب السختياني–رحمه الله-:"ما ازداد صاحب بدعة اجتهادا إلا ازداد من الله بعدا".الحلية لأبي نعيم (3/9)
ومن هذه المخالفات التي يرتكبها بعض المسلمين في هذا اليوم المبارك، اجتماعهم في المساجد عشية يوم عرفة من كل سنة في غير عرفة،لا لأمر عارض بل يجعلون ذلك سنة راتبة،فيفعلون ما يفعله الحاج يوم عرفة من الدعاء والثناء من بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس، وهذه البدعة التي تسمى عندهم بـ"التعريف".
مع أن هذا العمل!أنكره السلف الصالح –رحمهم الله –قديما،وبينوا أنه ليس من هدي سيد المرسلين، ولا من نهجه القويم. يقول عبد الله بن عون-رحمه الله-:"شهدت إبراهيم النخعي سئل عن اجتماع الناس عشية عرفة؟،فكرهه، وقال: محدث". البدع و النهي عنها لابن وضاح القرطبي(ص 119)
ويقول الإمام ابن وهب –رحمه الله- : سمعت مالكاً - أي الإمام مالك (رحمه الله)- يُسأل عن جلوس الناس في المسجد عشية عرفة بعد العصر، واجتماعهم للدعاء، فقال: ليس هذا من أمر الناس،وإنَّما مفاتيح هذه الأشياء من البدع". الحوادث والبدع للطرطوشي (ص115)
وروى الإمام محمد بن وضاح القرطبي(ت 287هـ)-رحمه الله- عن أبي حفص المدني قال: اجتمع الناس يوم عرفة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، يدعون بعد العصر، فخرج نافع مولى ابن عمر من دار آل عمر،فقال : أيها الناس إن الذي أنتم عليه بدع، وليست بسنة،إنا أدركنا الناس ولا يصنعون مثل هذا، ثم رجع فلم يجلس، ثم خرج الثانية ففعل مثلها ثم رجع". البدع و النهي عنها لابن وضاح (ص93)
وقال الإمام محمد بن الوليد الطرطوشي الأندلسي ( ت520هـ) -رحمه الله- :"فاعلموا-رحمكم الله- أن هؤلاء الأئمة علموا فضل الدعاء يوم عرفة،ولكن علموا أن ذلك بموطن عرفة، لا في غيرها ولا منعوا من خلا بنفسه فحضرته نية صادقة أن يدعو الله تعالى،وإنما كرهوا الحوادث في الدين،وأن يظن العوام أن من سنَّة يوم عرفة بسائر الآفاق الاجتماع والدعاء ، فيتداعى الأمر إلى أن يدخل في الدين ما ليس منه ،وقد كنت ببيت المقدس،فإذا كان يوم عرفة حشر أهل السواد وكثير من أهل البلد، فيقفون في المسجد،مستقبلين القبلة مرتفعة أصواتهم بالدعاء،كأنه موطن عرفة،وكنت أسمع سماعاً فاشياً منهم أن من وقف ببيت المقدس أربع وقفات، فإنها تعدل حجَّة، ثم يجعلونه ذريعة إلى إسقاط فريضة الحج إلى بيت الله الحرام". الحوادث والبدع للطرطوشي (ص 116)
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-:" المداومة في الجماعات على غير السنن المشروعة بدعة، كالأذان في العيدين، والقنوت في الصلوات الخمس، والدعاء المجتمع عليه أدبار الصلوات الخمس، أو البَرْدَين منها، والتعريف المداوم عليه في الأمصار، والمداومة على الاجتماع لصلاة تطوع، أو قراءة أو ذكر كل ليلة، ونحو ذلك، فإن مضاهاة غير المسنون بالمسنون بدعة مكروهة كما دل عليه الكتاب والسنة والآثار والقياس ".مجموع الفتاوى (20/ 197)
ومن ذلك تخصيصه بأعمال أخرى كالذبح! وقد سئلت اللجنة الدائمة برئاسة الشيخ العلامة ابن باز -رحمه الله- عن ذلك! فقال السائل :"ما حكم الشرع في أناس يقومون بذبح ذبيحة يوم عرفة، بصفة مستمرة وهم من غير الحجاج، ويسمون هذه الذبيحة (إعرافه) ، ويذبحونها على نية أمواتهم من الأقرباء، مثل أحد الوالدين أو الأبناء أو الإخوان؟
فكان جوابهم -كتب الله أجرهم-: اعتياد الذبح في يوم عرفة على أنه قربة لا يجوز؛ لأنه بدعة، سواء نوى أن يكون ثواب هذه الذبيحة للأموات أو غيرهم؛ لأن هذا لا دليل عليه من الشرع، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)- رواه مسلم( 1718) من حديث عائشة ( رضي الله عنها)-" . فتاوى اللجنة الدائمة (1/69)
فعلينا أيها الأحبة أن نتمسك بهدي نبينا صلى الله عليه وسلم،وليسعنا صيام هذا اليوم المبارك كما وسِع سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين(رضوان الله عليهم أجمعين)، ولنكثر فيه من الأعمال الصالحة التي تقربنا من رب العالمين ، ومن ذلك الذكر و الدعاء ، ولنبتعد عن التقيد بأعمال لم يأت الشرع بها كتخصيص أمكنة للاجتماع أو أذكار معينة عند الدعاء، فالخير كل الخير في الاتباع السلف، و الشر كل الشر في ابتداع الخلف.
فالله أسأل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يوفقنا للاستغلال هذا اليوم المبارك فيما يحب ويرضى، ويجنبنا البدع و المحدثات وسائر المنكرات، وأن ينشر سبحانه السنة بين المسلمين في كل مكان، ويرفع رايتها، ويُعزَّ أهلها،ويرزقنا وإياكم اتباعها فإن في ذلك النجاح والفلاح،ويُميت البدع بينهم،ويهدي أهلها،ويخمد رايتها،ويجنبنا وإياكم العمل بها،فإن في ذلك الخذلان و الحرمان،والله المستعان،فهو سبحانه العزيز المنان.


وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


أبو عبد الله حمزة النايلي