تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : ( تأمّلاتُ حاجٍّ ) ...



أهــل الحـديث
08-10-2013, 11:30 AM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم



بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله الذي يسر لعباده مواسم الخيرات، وجعلها زاداً توصلهم إلى مرضاته، فتذكّر أهل الغفلة، وتدعوهم للتأمل وأخذ العبرة، فتزيد الصادق إيماناً وشوقاً والتجاء، ونحن في هذه الأيام في موسم من مواسم الخير من أبرزها عظة، وأجلها تذكرة، وسأقف في عجالة في عِبر يحسن بالحاجّ أن يتأملها:

أولها : حينما يُودّع الحاجُّ أهله، ويمضي نحو نسكه، استجابة لدعوة الخليل في قوله تعالي: (وأذّن في الناس بالحجّ يأتوك رجالاً وعلى كلّ ضامر يأتين من كل فجّ عميق) تبكي أمّه حين خروجه من منزله، خوفاً عليه من المتاعب والمشاق، وهي باكية عليه كذلك عند خروجه من الدنيا، شفقة عليه من الحساب ومن فتن الممات.

ثانيها: وعند وصوله إلى الميقات يخلع الحاجّ ملابسه التي اعتاد لباسها في دنياه، إلى لباس واحد يلبسه الغني والفقير، والصغير والكبير، والعالم والجاهل، قال ابن عثيمين رحمه الله: "وهذه السنة سنة لجميع الرجال، وإنما كانت على هذا الوجه من أجل اتفاق الناس على هذا اللباس، حتى لا يفخر أحد على أحد؛ لأنه لو أطلق العنان للناس لتفاخروا، وصار هذا يلبس ثوبا جميلا جدا، وهذا ثوبا رديئا، واختلف الناس، ولم تظهر الوحدة الإسلامية" أهــ. كما أن الأموات يكونون باللباس سواء، فيسن تكفينهم بلون البياض، والمحرم كذلك يسن أن يلبس البياض، كما أنه يسن أن يغتسل المحرم و يتنظف ويتطيب، فكذلك الميت أيضاً .

ثالثها: عندما يلبي الحاج (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) يستشعر بنعمة من أعظم نعم الله وهي أن تعرف توحيد ربك، وأن تخلص له، ولا تشرك معه أحد ، كما أنه من نعمه سبحانه أنعامه عليك بالوصول إلى البيت الحرام ، فكم من عازم على المضي صوبه، ولكن المنية قد سبقته، أو أن المانع قد منعه.

رابعها: وعندما يطوف بالبيت العتيق، يتذكر الإنسان نعمة ربه أن طاف بالبيت الحرام، مخلصاُ لربه غير مشرك به، كما أُنشأ على يد الخليل قال تعالى: (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئاً ...) لا ما يفعله أهل الجاهلية، وأهل البدع من الطواف، ولكن ليس على البيت الحرام بل على الأمر الحرام من طواف على القبور والأضرحة، فيشرك بربه ومولاه.


خامسها: وبعد طوافه بالبيت يسن أن يصلي الحاج ركعتي الطواف قارئاً بسورتي التوحيد (الكافرون و الإخلاص) كما قال ابن القيم رحمه الله: "ولهذا كان – النبي عليه السلام- يقرأ بهاتين السورتين في ركعتي الطواف، ويقرأ بهما في الحج الذي هو شعار التوحيد" فتزيده الصلاة حباً بأولياء الرحمن، وبعدأ عن حزب الشيطان، إلا إن حزب الشيطان هم الخاسرون.

سادسها: وعند السعي بين الصفا والمروة، يتذكر الحاج، السعي على المحتاج والمسكين، والأرملة واليتيم، فيتفقد حالهم، ويقضي حاجتهم، كما كانت أمّنا أم إسماعيل تبحث عمن ينقذ ابنها من الهلكة والجوع.

سابعها: الاستعداد النفسي والبدني للعبادة في يوم التروية، حيث يستعد الحجيج لاستقبال أيام العبادة، بالمكوث حتى زوال الشمس من يوم عرفة.

ثامنها: وفي يوم عرفة يوم الإنابة والدعاء، وهو يوم مباهة الله بالعباد، حيث إنه في عشيته ينزل ربنا إلى سماء الدنيا يباهي بأهل الموقف الملائكةَ ويقول: ( انظروا إلى عبادي! جاءوا شعثاً غبراً ماذا يريدون؟ فيقولون: يا رب! يرجون رحمتك، ويخشون عذابك.) فيغفر الله بفضله لهم، فيكون الشيطان ذليلاً حقيراً لما يرى من تنزل الرحمات، فتعلم من هذا الحديث أن الشيطان لك عدو مبين، يسوؤه ما يفرحك، وأن الطاعات تذله وتحقره، فتزيد منها، محاربة له.

تاسعها: ثم بعد غروب يوم عرفة، تنفر صوب مزدلفة بالسكينة كما أمر بذلك المصطفى عليه السلام، غير مؤذٍ لإخوانك الحجاج، وتمكث ليلك فيها، متأهباً ليوم النحر، حيث تقصد فيه جمرة العقبة وترمي الجمرة، وليست عملاً بدنياً محضاً، بل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " إنما جعل الطواف بالبيت، وبالصفا والمروة، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله» قال ابن عثيمين رحمه الله: " لإنّ كون الإنسان يأخذ حصى يرمي به هذا المكان يدل على تمام انقياده، إذ إن النفوس قد لا تنقاد إلى الشيء إلا بعد أن تعرف المعنى الذي من أجله شرع، وأما ما يذكر من أن الرمي هنا إنما هو لإغاظة الشيطان، فإن هذا لا أصل له، إلا أن يكون من حيث عموم العبادة لأن الشيطان يغيظه أن يقوم العبد بطاعة الله".

عاشرها: أن أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله، فافهم هذه الأمور الثلاثة ولا تقتصر على الأمر الأول والثاني وحسب ! وتغفل عن الأمر الثالث وهو: ذكر الله، الذي هو حياة الروح وروح الحياة حيث قال الله تعالى: (فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا ...) قال ابن رجب في لطائفه: " وفي الأمر بالذكر عند انقضاء النسك معنى، وهو أن سائر العبادات تنقضي ويفرغ منها، وذكر الله باقٍ لا ينقضي ولا يُفرغ منه، بل هو مستمر للمؤمنين في الدنيا والآخرة" كما أن المبيت بمنى مما يزيد اللُحمة والأخوة، فهو كما قال سيد قطب: " مؤتمر للتعارف والتشاور وتنسيق الخطط وتوحيد القوى ، وتبادل المنافع والسلع والمعارف والتجارب . وتنظيم ذلك العالم الإسلامي الواحد الكامل المتكامل مرة في كل عام، في ظل الله، بالقرب من بيت الله، وفي ظلال الطاعات البعيدة والقريبة، والذكريات الغائبة والحاضرة، في أنسب مكان ، وأنست جو ، وأنسب زمان " .

الحادي عشرة: وعند التوجه لطواف الوداع ليكون آخر عهدك بالبيت الطواف، تذكر وداعك لدنياك ، وأن كل بداية ولها نهاية، وكل مشقة في سبيل الله يعقبها السعادة الأخروية، اسأل الله عز وجل أن يجعل آخر عهدك بالحياة عمل صالح، وقول حسن.

الثاني عشرة: أن الحاج إذا عوّد نفسه على ترك الفسق في أيام معدودات أن يدوام على ذلك في بقية وقته وحياته، فإن الحياة أيام وتمضي، وساعات تنقضي، ولتعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم رتّب على من حجّ ولم يرفث ولم يفسق أن يعود إلى أهله كيومَ ولدته أمه، فلا تتلطخ بعد نقاء الحج برجس المعصية.

وأخيراً:
من لم يستطع الحج لعارض منعه، فليأخذ هذه اللطيفة من لطائف ابن رجب -رحمه الله- إذ قال:"ومن فاته في هذا العام القيام بعرفة فليقم لله بحقه الذي عرفه، ومن عجز عن المبيت بمزدلفة فليبت عزمه على طاعة الله، وقد قربه وأزلفه، ومن لم يمكنه القيام بأرجاء الخيف فليقم لله بحق الرجاء والخوف، ومن لم يقدر على نحر هديه بمنى، فليذبح هواه هنا وقد بلغ المنا، ومن لم يصل إلى البيت؛ لأنه منه بعيد، فليقصد رب البيت فإنه أقرب إلى من دعاه ورجاه من حبل الوريد".


اسأل الله أن يحفظ حجاج بيت الله، وأن يوفقك لأداء المناسك، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.