المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العلماء والميثاق - الشيخ عبد العزيز الطريفي



أهــل الحـديث
15-09-2013, 08:50 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اللهم صلي وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فلا يخفى على كل ذي لب أن ما من خير وضعه الله عز وجل في هذه الأرض إلا وأصله ومادته من العلم، وما من شر إلا وأصله ومادته ومنبته من الجهل، ولذلك رفع الله بالعلم العلماء ووضع بالجهل الجهلاء وقد جعل الله لأهل العلم من الخير والفضل والمنقبة في الدنيا والآخرة ما لا يخفى، فالعلم فضله يدل العقل عليه، والجهل يكفي في بيان ذمه أن الجاهل يتبرأ منه، ويكفي في فضل العلم أن يلتمسه حتى أهل الجهالة:

يعد رفيع القوم من كان عالماً *** وإن لم يكن في قومه بحسيب

وإن حل أرضاً عاش فيها بعلمه *** وما عالم في بلدة بغريب

فلعلماء الإسلام سلطان على الأرواح، تخضع له العامة طواعية ورغبة خضوعاً فطرياً لا تَكَلُّفَ فيه لشعورهم أن العلماء هم المرجع في بيان الحق، ولذلك جعل الله أهل العلم بالمقام المحمود عنده.

إذا عُلِمَ أن الإنسان لا يمكن أن يَتَعَبَّدَ للهِ - عز وجل - بشيء من العبادات والقُرُبَات إلا بالعلم، عَلِمَ فضله وأنه ما من خير يعمل به الإنسان إلا لسابق علم أو أثاره وصلت إليه فَعَمِلَ بما عَلِم ولذلك أشهد الله العلماء على أشرف معلوم وهو توحيد الله فقال الله - سبحانه وتعالى - {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (آل عمران: 18).

توحيد الله أشرف وأعظم ما يُتَقَرَّبُ به إليه، هذا العظيم في حال الشهادة، يُطْلبُ له العلماء، ولذلك أشهد الله الملائكة ومن الناس العلماء، وذلك أنه لا يُشْهَدُ على العظيم إلا العظماء.

ورفع الله أهل العلم في الدنيا على أهل الجهالة فمراتبهم بين الناس على قدر علمهم وتمكنهم من وحي الله - سبحانه-.

وإذا أُطْلِقَ العلم في كلام الله وفي سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالمراد به العلم الشرعي، ولذلك يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في المسند والسنن ((العلماء ورثة الأنبياء، إن العلماء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر))[رواه أحمد (5/196) وأبو داود (3641)، والترمذي (2682)، وابن ماجة (223) من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه -.]

وقد أمر الله - عز وجل - نبيه عليه الصلاة والسلام أن يسأل زيادة من العلم فقال الله - جل وعلا - {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (طه: 114) فلم يأمر الله نبيه - عليه الصلاة والسلام - أن يسأل شيئاً من خيري الدنيا والآخرة زيادة فيه إلا زيادة في العلم - لفضله وجلالته - وأن الإنسان قدره عند الله بقدر علمه بوحيه، وعمله بذلك.

ووحي الله هو كتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - قال الله جل وعلا {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (المجادلة: 11) فدرجاتهم عند الله بقدر علمهم، ودركاتهم عنده بقدر جهلهم.

ولذلك ما عُصِيَ الله- عز وجل - إلا بجهالة، وما عُبِدَ إلا بعلم ومعرفة.

وقد كان أهل العلم هم أهل الحظوة والفوز عند الله وجاء الله بآيات كثيرة في مدحهم، وجاء بمدحهم في سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأحاديث ما لا يحصى.

ويكفي أن الأصل في العلماء العدالة، ولذلك يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في المسند وغيره ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله)[أخرجه ابن عدي في الكامل(1/152) و (3/256)، والعقيلي في الضعفاء (4/256)] قال ابن عبد البر رحمه الله "وفيه دلالة على أن العلماء عدول وهو الأصل فيهم"[التمهيد (1/28)] ونبه على هذا ابن القيم- عليه رحمة الله -[مفتاح دار السعادة (1/495- 496)]، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال هنا ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله)).

والمعنى في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا ظاهر.

ويكفي في ذلك أن الخير لا ينتشر في الأرض إلا بالعلماء، وأن الشر لا ينتشر في الأرض إلا بفقدهم، ولا ينقص الخير إلا بفقد العلماء.

مهمة العلماء أن يتصدوا للتيارات الجارفة بالأمة نحو الهلاك، هم القادة المصلحون الذين يقودون العباد والبلاد إلى بر الأمان، هم الطليعة الذين يتقدمون الشعوب نحو كل خير، وهم محل ثقة الناس عامة، وقد خصهم الله بالذكر ولذا قال الله في بيان فصلهم في هذه الأرض قال: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} (الأنبياء: 44).

وقال الله - جل وعلا - {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (الرعد: 41) والمراد بِنُقْصَانِهَا كما جاء عن غير واحد من المفسرين هو ذهاب العلماء والفقهاء، فقد روى وكيع عن طلحة بن عمير عن عطاء بن أبي رباح قال في قوله: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}(الرعد: 41) ذهاب فقهاءها وخيارها.[انظر جامع البيان للطبري (7/408)].

قال ابن عبد البر: "قول عطاء في تأويل هذه الآية حسن جداً، تلقاه أهل العلم بالقبول"[جامع بيان العلم وفضله (1/305)].

وروي هذا عن غير واحد من المفسرين، فقد روي ذلك عن مجاهد بن جبر كما رواه سفيان عن منصور عن مجاهد بن جبر قال في قول الله - عز وجل - {أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} (الأنبياء: 44).

قال "موت الفقهاء والعلماء"[(16/441- نووي)].

فأطراف كل شيء شريفه، وأفضل شيء فيه ولذلك يقول الفرزدق:

وأسأل بنا وبكم إذا وردت منى *** أطراف كل قبيلة من يمنع

أي: أشراف كل قبيلة.

ويقول الأعشى:

هم الطُّرُفُ البَادُ العَدُّوِّ وأَنْتُمُ *** بِقُصوى ثَلاثٍ تَأكلونَ الرَّقَائِصا

من نظر إلى الشر حينما ينتشر في الناس فإنه لا ينشر إلا بسببين لا ثالث لهما:

أحدهما: بفقد العلماء واندثارهم في هذه الأرض وهذا مصداق قول الله - جل وعلا - {نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (الرعد: 41).

والسبب الثاني: تقصير العلماء بالقيام بواجبهم وذلك حال وجودهم، ولذلك يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في البخاري ومسلم من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا))[رواه البخاري100ومسلم 2673] فإن أهل الجهالة لا يتصدرون إلا حينما يغيب أهل العلم الذين يقومون بأمر الله، فمهمتهم في هذه الأرض إن يدلوا الناس إلى الخير ويحذروهم من الشر، ويقودوا هذه الأمة إلى بر الأمان على مر الأزمان، وقد جعل الله لهم الثقة المفرطة بين العباد، وأمر الله بالرجوع إليهم عند المشكلات والمعضلات، يقول الله في كتابه العظيم: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النحل: 43).

وأمر الله حال نزول الفتنة والفِرقة والشقاق والنفاق بين الناس أن يكون مرجعهم كلام الله وكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بِفهمِ أهل العلم والمعرفة بكلام الله.

ولذلك يقول: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: 83).

والذين يستنبطونه منهم هم العلماء العارفون بكلام الله، وقد أمر الله عز وجل بالرجوع إليهم والنهل من علمهم، فإنهم هم أهل البصيرة لأنهم أعلم الناس بالله، ولذلك قد جعل الله لهم من الخيريه والمزية والفضل في هذه الدنيا ما لم يكن لغيرهم.

وجعل لهم كذلك في المقابل العذاب الأليم يوم القيامة إن خالفوا أمر الله.

وحينما يكون الإنسان بين ثواب جزيل إن وافق والعقاب الأليم إن خالف فإنه يكون أقرب الناس إلى الصواب وأحراهم بالتماسه وأدقهم بسلوكه والقرب من الحق، ولذلك كان أهل العلم أقرب الناس إلى الحق والصواب وأقربهم إلى فهم الحق والبينة وقد سموا النجوم فقد جاء ذلك على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففي المسند في حديث رشدين بن سعد عن عبد الله بن الوليد عن أبي حفص عن أنس مرفوعاً: ((إن مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء يُهْتَدَى بها في ظلمات البر والبحر، فإذا انطمست النجوم أوشك أن يضل الهداة))[رواه أحمد12189]

وجاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأصح من هذا بمعناه، ما في صحيح الإمام مسلم من حديث أبي موسى الأشعري حينما قال ((أنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذ ذهب أصحابي أتي أمتي ما يوعدون))[رواه مسلم2531].

والمراد بذلك العلم وليس المراد بذلك ذواتهم.

بل أن الله قد جعل الخيرية في أهل العلم كما جاء في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)).[رواه البخاري71 ومسلم1037].

وقال - عليه الصلاة والسلام - ((من سلك طريقا يلتمس فيه علما، سهل الله له به طريق إلى الجنة)).[رواه مسلم2699]

فالعلماء هم ورثة الأنبياء، والعلماء ورثوا العلم من أخذه أخذ بحظ وافر، فالأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهما، وإنما ورثوا العلم من أخذ به أخذ بالحظ الوافر.

وقد كان العلماء في الأرض كالنجوم يهتدى بها ولذا يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما روى الإمام مسلم من حديث سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن أبي موسى رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة المغرب، ثم قلنا: لو جلسنا حتى نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء قال فجلسنا فخرج علينا فقال: ((ما زلتم مكانكم هاهنا)).قال: قلنا نعم يا رسول الله، صلينا معك المغرب ثم قلنا نجلس حتى نصلي معك العشاء قال: ((أحسنتم، أو قال أصبتم)).[رواه مسلم2531]

قال: فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه إلى السماء، وكان كثيراً ما يرفع رأسه إلى السماء فقال - عليه الصلاة والسلام - ((النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهبوا أتى أمتي ما يوعدون))[رواه مسلم2531].

وهذا تشبيه بليغ لحملة الوحي، وحملة العلم أنهم كالنجوم يهتدى بهم، روى أبو نعيم في كتابه الحلية من حديث الحسن عن أبي مسلم الخولاني قال: "مثل العلماء مثل النجوم في الأرض إذا بدت لهم اهتدوا وإذا خفيت تحيروا"[(5/138)].

وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - مقامهم في أمته كالنجوم بالنسبة لمن يسلك البر والبحر ويعرف الجهات بعضها من بعض، وليس المراد بذلك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذواتهم ولكن بما نالوه من شرف الصحبة والقرب من الوحي والنهل من كلام الله سبحانه - وكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمعرفة فيه.

ولذلك كان الاختلاف والفِرقة فيهم أقل من غيرهم، قال عليه الصلاة والسلام ((خير القرون قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم))[رواه البخاري2652 ومسلم2533] والسبب في ذلك والحكمة البالغة هو قربهم من الوحي ومعرفتهم بمواضع التنزيل، فإنه كل ما كان الشخص إلى التنزيل أقرب كان به أعلم وهذا ظاهر كلام رسول الله: ((خير القرون قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم))[رواه البخاري2652 ومسلم2533].

ومن نظر إلى حديث أبي موسى في بيان فضل العلم والعلماء، وأنهم كالنجوم وأن الصحابة في هذه الأمة كالنجوم يهتدى بها فإذا ذهبوا أتى أمة محمد ما توعد، من نظر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وبقاءه في أمته كان موطن نزع للخلاف ودخض للشر وبيان للخير، مرجع ومآل، يأرز إليه كل من طلب خيراً، عرف فضل العلم.

وقد كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عصره على وفاق تام إلا من أظمر نفاقاً فإنه يظهر وفاقا لرسول الله وذلك من باب الخشية من قوة الإيمان، وقوة أهله وقوة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

ورسول الله صلى الله عليه وسلم - كان حامل الخير وحامل مشعل الهداية يهتدي به من جاء بعده من أصحابه ومن جاء بعدهم من أمته.

وقد كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعده الأمان لهذه الأمة لما يحملون من الوحي، فلم يلبث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أعلم الناس بالله - أن توفي حتى نشب الخلاف اليسير بين أصحاب رسول الله.

وأول خلاف نشب ورسول الله صلى الله عليه وسلم مسجى لم يدفن أمات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم لم يمت؟.

وهذا أول خلاف وقع في هذه الأمة بعد وفاة رسول الله مصداقاً لقوله ((أنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون))، تقول عائشة كما روي البخاري من حديث ابن عقيل، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة - عليها رضوان الله تعالى - قالت: "توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجاء أبو بكر من داره فدخل مسجد رسول الله ولم يحدث أحداً حتى دخل داري فجاء لرسول الله ويممه وهو مغشي بثوب حبرة فكشف عن وجهه وأكب عليه فقبله وبكى فقال يا رسول الله بأبي أنت وأمي والله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبها الله عليك فقد متها.[رواه البخاري1242].

قال الزهري رحمه الله: حدثني أبو سلمة، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: "خرج أبو بكر وعمر يكلم الناس، فأمره أن يجلس فأبى، فأقبل الناس إلى أبي بكر الصديق، وتركوا عمر فقام أبو بكر فيهم فقال: "أيها الناس من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت" قال الله - عز وجل - {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} (آل عمران:144).

قال عبد الله بن عباس: "والله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية أنزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا لما تلاها أبو بكر - فتلقاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشراً من الناس إلا يتلوها".

يقول سعيد بن المسبب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "والله لما سمعتها من أبي بكر حتى ما تقلني رجلاي، وحتى اهتويت إلى الأرض، حتى سمعته تلاها علمت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد مات".

وفي هذا أن أهل العلم مهما بلغوا بالعلم بوحي الله، أنهم في حال الفتنة واضطراب الزمن وما يحدث من نوازل قد يغيب عنهم من الدلائل والحجج الظاهرة ما يغيب عنهم كما غاب عن عمر بن الخطاب تلك البينة الظاهرة من كلام الله، وعَلِمَ أعلم الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسم - من الأمة أبو بكر، وحينئذ يلتمس لمن غاب عنه الدليل العذر كما عذر عمر بن الخطاب هنا لما تلا أبو بكر قول الله - جل وعلا - {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} (الزمر:30، 31).

وقول الله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} (آل عمران: 144).

فلم يلبث أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا لحظات أو ساعات من الزمن حتى ائتلفت كلمتهم؛ لأنه قد قام بهم أعلم الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستدل بوحي الله.

ثم لم يلبث رسول الله وهو مسجى ببردته حتى وقع خلاف آخر يسير لم يوقع الفرقة والشقاق، ولكنه لم يلبث أن نزع بالعالمين بالوحي، وكان أعلمهم أبو بكر فاختلفوا أين يدفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وهل يُغَسَّل وهل يُجَرَّد كما يُجَرَّد الموتى؟ أو يوضع الماء على ثيابه؟ ولذلك قد أخرج محمد ابن إسحاق من حديث يحيى بن عباد بن الزبير عن أبيه عباد عن عائشة رضي الله عنها قالت: (اختلف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَنُجَرِّدُ رسول الله كما نُجَرِّدُ موتانا، ونغسله كما نغسل موتانا أم نصب عليه الماء، قالت: فو الله لم يلبث الناس حتى غلبهم النعاس حتى طرقت ذقونهم، فناداهم منادٍ: أن اغسلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصبوا عليه الماء صباً.

ثم اختلف أصحاب رسول الله أين يُدْفَن رسول الله؟ أيدفن في مكة موطن مولده ومبعثه وقبر جده وقبلته؟، فقال قوم من أصحاب رسول الله يدفن في بيت المقدس قبلته الأولى وقبر جده، ومنهم من قال بالمدينة في هجرته ودار أنصاره، وأزواجه ومسجده حتى نزع الخلاف أعلم الناس في الأرض بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أمته أبو بكر فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:، فدفن رسول في البقعة التي توفي فيها في حجرة عائشة، "يدفن الأنبياء حيث يقبضون".

ثم حدث ما حدث من خلاف بين أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أول خلاف بعد ذلك من يلي الخلافة بعد رسول الله ولكنه أمر يسير، فقال الأنصار ببيعة سعد بن عبادة الخزرجي، وقام القرشيون بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - ((الأئمة من قريش))[رواه أحمد12489] فَنُزِعَ الخلاف بقول رسول الله، واجتمعت كلمة الأمة بكلامه والعلم بالوحي.

ثم حدث ما حدث حينما ارتد من ارتد من العرب، وخالف عمر بن الخطاب أمير المؤمنين أبا بكر في قتالهم، حتى سمعه يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الصلاة، فإن فعلوا ذلك فقد عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها))[رواه البخاري25 ومسلم22]

فأذعن عمر للحق لكلام رسول الله، فقام خير أهل الأرض، وأعلمهم بالله أبو بكر، قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤدوا الصلاة، فإن فعلوا ذلك فقد عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها))[رواه البخاري25 ومسلم22].

ثم ما حدث من الخلاف في إرث رسول الله وحسم الأمر أبو بكر بقوله: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((نحن معاشر الأنبياء لا نورَث ما تركناه فهو صدقة))[رواه البخاري3712 ومسلم1758].

خلاف يسير سَهُلَ دَحضُهُ بالعلم من العلماء العارفين، ولذلك كان أصحاب رسول الله أمنة لهذه الأمة، وذلك لما نالوه من العلم بالوحي.

ثم اجتمعوا بعد ما حدث من أمر يسير على قتال المرتدين من مَنْعِ الزكاة.

ثم اشتغلوا بقتال طُلَيْحَة حينما تنبئ حتى انهزم إلى الشام ورجع إلى الإسلام في خلافة عمر بن الخطاب وشهد مع سعد بن أبي وقاص نهاوند والقادسية وقتل في نهاوند.

ثم اشتغلوا بقتال مسيلمة وسجاح والأسود العنسي ثم بسائر المرتدين.

ثم اشتغلوا بقتال الروم والعجم وغيرهم، فقد كان أصحاب رسول الله على قول واحد في التوحيد والعدل والوعد والوعيد وإنما خلافهم في الفروع كميراث الجد مع الأخوة، والعول والكلالة وغير ذلك ما أمره يسير، وذلك مصداقا لكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((أصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون))[رواه مسلم2531].

ولذلك بقي أصحاب رسول الله على كلمة سواء ينزع فتيل الخلاف من أول وهلة بقيام العلماء بواجبهم بيان الحق، والصدع به ودحض أهل الشر بالدلائل من الكتاب والسنة، وبقوا على ذلك في خلافة أبي بكر وخلافة عمر وست من خلافة عثمان رضي الله عنه حتى نَقِمَ عليه من نَقِم وقتله ظالموه، ونشبت في أواخر عصره بين أصحاب رسول الله فرقة.

وما حدث مع على ابن أبي طالب رضي الله عنه من وقعة الجمل ومعاوية وصِفِّين، وحَكَمِ الحَكَمَين وغير ذلك من تبعاتها حتى ظهرت في أواخر عهد أصحاب رسول الله في عهد عبد الله بن عمر، ظهرت بدعة القدرية، أحدثوا القول بالقدر والاستطاعة.

وكذلك في عهد التابعين، في عهد الحسن البصري ظهرت بدعة الاعتزال وظهر واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، وأظهروا بدعة الاعتزال وهذا مصداق لكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون))[رواه مسلم2531].

وقد كان الصحابة على كلمة سواء في العدل والتوحيد والوعد والوعيد حتى بَعُدَ الناس عن العلم شيئاً فشيئاً وابتعدوا عن منهل العلم، ووقع الخلاف والفِرقة ولما قَصَّرَ العلماء في واجبهم ظهر الشر والفساد في الأرض، وظهر الجُهَّال مكان العلماء، فيضلون الناس بقولهم وبُعْدِهِم عن كلام الله ولذلك يقول النبي - صلى الله عليه وسلم – ((حتى إذا لم يُبْقِ عالما اتخذ الناس رؤساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا))[رواه البخاري100ومسلم 2673]