المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : **رحلة في باطن المادة**الحلقة الأولى



جواهر
10-12-2003, 09:36 PM
موضوع شيق يتعلق با الماااده........ ( قصة)


كل يوم حلقة وأن شاء الله تستفيدون***
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ

ومضى بنا الترحال في أرجاء الزمان والمكان حتى عثرت ذات يوم على رجل في خريف العمر، تعرفت عليه خلال زيارتي لإحدى أرجاء المعمورة. وقد تعرفت اليه عن قرب بسبب إقامتي الطويلة نسبياً في تلك الديار .. وعندما حدثته عن أسفاري وجولاتي في المكان والزمان وشكوت له قيد البعد المكاني الذي نعيش فيه وأنني لا أستطيع استطلاع الابعاد الكبيرة أو الصغيرة في الكون، نظر إلي نظرة فيها نوع من الفراسة، ثم سألني بنبرة شك:
ـ ولماذا تريد أن تجول في الأبعاد الأخرى؟
قلت:
ـ لأن هذا عالم لا يزال تحت ستار المجهول ولم نعرف عنه سوى بالتجارب المخبرية والحسابات النظرية. لكن هذه أيضاً محدودة ولا تخبرنا بالقطع عما يجول في تلك العوالم.. وأنا كما تعلم رجل لايهوى شيئاً سوى الترحال في رحاب الطبيعة وتتبع نواميس الله في هذا الكون معتمداً على ماتعلمته من علم الفيزياء لأنقل للبشرية نظرة عين مباشرة على العوالم التي طالما اعتبرها الكثيرون غير موجودة.

وأطرق الرجل المسن قليلاً إلى الأرض، ثم قال:ـ


حسناً، أعتقد أن بإمكاني مساعدتك أو على الأقل السعي لمساعدتك .. وأردف وهو ينظر في عيني اللتين ملأتهما إمارات الفضول والدهشة:
ـ تعال إلي غداً في الثامنة صباحاً .. وسوف نذهب إلى من أرجو أن يساعدك في تحقيق هذه التطلعات..

شكرت الرجل وغادرته وأنا لا أكاد أفهم شيئاً مما قال .. لكن النظرة العميقة التي كان يرمقني بها والهيئة التي أنخذتها قسمات وجهه جعلتني اتهيب من مناقشته او حتى استيضاح المزيد منه فلذت بالصمت ولم يكن لي أن أسلك أمامه سوى كطفل مطيع امام مجرب قدير أكن له كل هيبة وتقدير.

لم أستطع النوم تلك الليلة إلا لماماً وأنا أفكر فيما قاله الرجل وما عسى أن يكون الأمر عليه في صباح الغد. وفي تمام الساعة الثامنة كنت أطرق باب الرجل، وماهي الا هنيهة حتى كنا في طريقنا إلى حيث لا أدري .. فقد اكتفى الرجل بأن استقبلني بابتسامة عريضة أدخلت شعوراً جميلاً من الراحة إلى نفسي، كان يلبس ثياباً أنيفة أوحت إلي بأننا في طريقنا إلى شخص مهم. وخطر لي أن أسأله لكنني خشيت إظهار شيء من الفضول في ضوء مالمسته من صرامة الرجل بالأمس فآثرت الصمت والانتظار حتى تكشف الحقيقة عن ذاتها. وماهي إلا خطوات حتى توقفنا في محطة القطارات وبعد ربع ساعة كنا نستقل قطاراً ينطلق إلى الشمال بسرعة كبيرة جداً. ولم استطع معرفة المدينة أو المكان الذي نذهب إليه، لكنني وبناء على ما تعودت من الترحال كنت أعتبر الموضوع كله ممتعاً وإن كان الفضول يتملكني وربما بدا على وجهي كلما مررنا بمنطقة أو كلما توقف القطار في محطة. وفجأة، وبعد مرور حوالي أربع ساعات على انطلاقنا، وجدت الرجل يسألني:

ـ هل تعجبك الرحلة؟ فحاولت رسم ابتسامة على شفتي وأنا أجيبه:نعم، كثيراً ...
ـ لعلك تتسأءل .. إلى أين نمضي ..
ـ في الحقيقة، نعم ..
ـ حسناً، إننا ذاهبون إلى رجل فريد من نوعه .. له قدرات عجيبة، وربما كانت لديه طريقة لمساعدتك.
فقلت وقد زاد فضولي:
ـ ولكن ماهي طبيعة هذه القدرات العجيبة.

ـ لا ادري بالضبط ولكن الذي سمعته عنه أنه يقوم بأعمال خارقة، ويقال أنه من العلماء الصالحين وأنه يسلك نهج الرجل الذي ورد ذكره في القرآن الكريم في قصة سليمان عليه الصلاة والسلام حين طلب من جلسائه أن بأتوه بعرش ملكة سبأ، " قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آيتك به قبل أن يرتد اليك طرفك".
ـ ذلك مثير حقاً، ولكن هل سمعت مثالا على بعض هذه الأعمال؟
ـ ذكر عنه ذات مرة أنه سافر إلى الهند وعاد خلال ساعة واحدة، وهذه رحلة تستغرق بالطائرة مالايقل عن عشر ساعات ..
ـ وكيف تأكدوا من ذهابه الى الهند؟****
ـ لقد هاتف بعضهم أحد الناس الذي ذكر الرجل أنه زاره في الهند وقد أكد فعلاً أنه كان عنده في يوم كذا في ساعة كذا..
ولذت بالصمت وقد خالجني شعور بأن الرجل ربما يكون محتالاً، وربما قرأ الرجل شيئاً من ذلك في وجهي لكنه آثر أن يترك لي استكشاف حقيقة ما يقال عن الرجل. ونزلنا في المحطة التالية واستقلينا سيارة أجرة إلى حي ريفي هاديء وتوقفنا أمام منزل متواضع لكنه جميل، تحيط به شجيرات مزهرة وتتوسط ساحته الأمامية شجرة توت عالية يعمر ظلها الطريق المؤدي إلى مدخل البيت. قرع مرافقي الجرس وانتظرنا برهة قبل أن يفتح الباب رجل مسن لكنه يتمتع بقدر من الرشاقة والخفة. بادره مرافقي بطرح السلام، فرد الرجل على الفور وعلكيم السلام ورحمة الله وبركاته. ونظر إلينا نظرة فاحصة ظهر لي من خلالها أنه لا يعرف مرافقي، لكنه أردف وهو يتبسم ابتسامة عريضة وبصوت فيه نبرة من الحرارة والصدق:
ـ أهلاً وسهلاً، تفضلا بالدخول .. فسأله مرافقي بأدب وتهيب:
ـ هل هذا بيت العم برهان !!. ـ نعم نعم ، لقد وصلت .. أهلاً وسهلاً ..


*
*
*
وللحلقة بقية
*
*
*

مجروحة الزمن
11-12-2003, 04:29 PM
مشكوره اختي جواهر علي القصه الرائعه

وننتظر البقيه

تحياتي

جواهر
11-12-2003, 06:09 PM
الحلقة الثانيه*
*
*
ودخلنا البيت وسط كلمات الترحيب والحفاوة .. وسرنا خلف مضيفنا الذي يبدو أنه هو العم برهان ..
ودخلنا إلى غرفة الاستقبال حيث غاب عنا العم برهان ثوان معدودات في الداخل قبل أن يعود وفي يده دلة القهوة العربية .. وقال وهو يناول الفنجان إلى مرافقي:
ـ اهلاً وسهلاً ، لعل رحلتكم لم تكن طويلة .. فأجاب مرافقي ..
ـ الحمد لله، يسرها الله علينا، لقد جئناك ياعم برهان من مدينة الجداول ..
ـ آه .. إنها لرحلة، أرجو أن تأخذا قسطاً من الراحة، واعتبرا البيت بيتكما، وبعد الصلاة والغداء نتكلم إن شاء الله .. كانت هناك مرافق ملحقة بغرفة الاستقبال وقد توضأنا وتجهزنا للصلاة حيث ما لبث أن أذن لصلاة الظهر .. وذهبنا برفقة مضيفنا الى المسجد الذي لا يبعد كثيراً عن البيت، وما أن عدنا حتى كان الغداء جاهزاً. وبعد غداء بسيط لكنه متقن الإعداد شاركنا فيه ابنا العم برهان وهما محمد وعمار، الذين قاما بتجهيز المائدة وقاما على خدمتنا، جلسنا نحن الثلاثة بعد انسحاب الشابين. وبدأ مرافقي بالحديث موجهاً كلامه الى الشيخ برهان:
ـ أنا ياعمي الشيخ برهان رجل من أهل مدينة الجداول، اسمي محمود النجار وأكنى بأبي عثمان وهذا صديقي فارس الفرزدقي، رجل قدم إلينا من بلاد الله الواسعة منذ حوالي الشهرين، وهو رجل كثير السفر والترحال في المكان والزمان، متخصص في علم الفيزياء يبحث في ملكوت الله ويتتبع سنن الله تعالى في هذا الكون، ونظر إلي العم برهان نظرة فاحصة، وعاد يتابع حديث أبي عثمان.
ـ وقد أخبرني أخي فارس أنه يتوق إلى السفر في سلم الأبعاد الدقيقة والكبيرة، وهو ما اعتقدت أن اللجوء إليك فيه ربما يكون أمراَ حكيماً.

وصمت العم برهان مطرقاً إلى الأرض لحظات خلتها دهراً، ثم رفع رأسه إلي وسألني بنبرة متأنية وبأسلوب يجلله قدر من الود والرفق: ـ

وماهو مبتغاك يابني من هذه الرحلات؟

واعتدلت في جلستي ثم أخذت نفساً عميقاً وقلت:
ـ إنني ياعم أتمثل قول الله تعالى " قل سيروا في الأرض فا نظروا كيف بدأ الخلق " . وقد درست علم الفيزياء وحصلت فيه على درجة الماجستير، وأنا منذ أن وعيت ما حولي أحاول استكشاف الأشياء ودراسة كنهها وخصائصها وهذا ما قادني إلى أقطار الأرض في رحلاتي لطلب العلم وهذا ما حلق بي في بعض أرجاء الكون من خلال التلسكوبات وفي بعض زوايا الأشياء من خلال المجهر .. لكن وصف ما بعد هذا كله لم يتجاوز أن يكون وصفاً يوظف المخيلة لتخيل حقيقة الموجودات، أما اليقين فلا يأتي إلا من راي العين، ونحن كائنات حبيسة الأبعاد التي تعيش فيها. ثلاثة أبعاد مكانية وبعد زماني واحد وفي هذه الأبعاد ايضاً نحن مقصورون على درجة واحدة من سلم القياس الممتد من الصفر إلى اللانهاية وهذه الدرجة هي التي تقابل المتر والثانية والكليلوغرام. وغاية ما أتمناه هو أن أتمكن من الهبوط في هذا السلم لأرى ما دون المتر والسنتيمتر هبوطاً إلى الذرة لأراها وما دونها رأي العين .. وأن أصعد من جهة أخرى في هذا السلم لأرى المجموعات النجمية والكواكب والمجرات كما هي عن قرب .. وقد أفضيت بمكنون صدري هذا للعم أبي عثمان الذي جاء بي مشكوراً إلى هذا البيت الكريم.

كان كل من العم برهان والعم أبو عثمان يصغيان بانتباه .. حتى إذا انتهيت من كلامي، وبعد لحظة صمت قصيرة، تحرك العم برهان في مجلسه وقال ..

ـ أهلاً وسهلاً بكما وعلى الرحب والسعة .. ولكن الأمر الذي تطلب ليس بالأمر اليسير يابني . لقد خلقنا الله سبحانه في أحسن تقويم، وإذا ما رغبنا بالخروج من هذا التقويم فربما كان في ذلك تمرداً على إرادة الله وانكاراً لنعمته علينا!!

فأجبت بهدوء ونببرة اجتهدت أن تكون مسالمة : ـ

لكن الذي أرجوه من وراء ذلك هو الكشف عن بديع صنع الله تعالى وتبصير الناس بعظيم قدرته تعالى ودقة خلقه، وعلى كل حال فكل ما أرجوه هو زيارة لهذه العوالم لأنقل ما أصيبه فيها من علم إلى الناس لعلهم يزيدادون إيماناً بالله وإعجاباً وإقراراً بإعجاز الخلق في الصغير والكبير مما يبصرون وما لايبصرون .
ـ حسناً يابني ، لقد فهمت ما ترمي إليه، وأرجو أن يعينني الله تعالى على أجد لك ما يساعدك على تحقيق هذا المسعى . لكن ذلك يتطلب منك قدراً من التعب والجهد ..
ـ أنا على أتم الاستعداد لبذل مايلزم من الجهد ومنذ هذه اللحظة .
ـ لا باس عليك يابني .. ولكن دعنا نهئي أنفسنا أولاً قبل أن نبدأ .. وأنت يا أبا عثمان ، هل تحب أن تشارك فارس في هذه الجهود؟ فا جاب أبو عثمان وهو يبتسم ..
ـ أما أنا فحسبي من الرحلة هذا القدر، ولولا أن لدي أولاداً وأعمالاً في مدينة الجداول لكان يسرني البقاء معكم، أما ما أملكه لكم فهو الدعاء بالتوفيق، وأرجو أن تأذن لي يا أبا محمد بالمضي إلى أهلي قبل أن ينصرم النهار ..
ـ على رسلك يا أبا عثمان .. فهذه الليلة أنت ضيفي وفي الصباح إن شاء الله تتوجه إلى أهلك .. وها هو الهاتف فطمئن أهلك بوجودك هنا وأخبرهم بمبيتك ..

وهكذا قضينا الليلة في ضيافة العم أبي محمد وغادرنا العم أبو عثمان في الصباح أما أنا فقد بدأت مرحلة إعداد استمرت ثلاثة أشهر رافقني خلالها العم برهان وأحياناً أحد أولاده، وكانت الفترة في معظمها تتركز على الصلة بالله تعالى ودراسة عميقة في القرآن يتخللها ربط بآيات الله من حولنا وكان من ضمنها أيضاً خروج إلى الطبيعة وجلسات تأمل وتفكر ليليلة ونهارية استمر بعضها أسبوعاً متواصلاً كنت أقضيه دونما مقاطعة في منطقة هادئة وادعة في أطراف ضيعة العم برهان وكنت أحس خلال هذه الجلسات وأنا أتصفح ملكوت السماء في صمت وخشوع بعظمة الخالق سبحانه وتعالى. وبعظيم قدرته وإبداع خلقه ودقة صنعه.

كان الهدف الأول من هذه الجلسات هو تصفية الروح والقلب من كل ما قد يكون علق بهما من زخرف الدنيا خلال الحياة اليومية وهمومها والإحساس بالقرب من الله تعالى من خلال التسبيح والدعاء. وقد خلت نفسي في نهاية هذه الفترة كأنما ولدت من جديد .. وبعد عصر أحد الأيام دعاني العم برهان وجلسنا على انفراد فبدأ حديثه قائلاً :
ـ أعتقد يا بني أنك الآن مؤهل للقيام بالرحلات التي اعتزمت، لذلك أرجو منك أن تضع تصوراً لرحلتك هذه وأن توافيني في صباح الغد بوصف عام لما تعتزم، لنضع معاً خطة لتنفيذه وأرجو الله يكتب لنا التوفيق .. اذهب يابني لعملك وأراك إن شاء الله في صباح الغد.
ـ باذن الله ياعمي.
وقمت من عنده إلى غرفتي فرحاً وأنا أردد بيني وبين نفسي .. والآن إلى العمل.

جواهر
11-12-2003, 06:12 PM
الحلقة الثالثه:
*
*
*
ومضيت إلى غرفتي، وأخذت ورقة وقلماً، وجلست إلى المكتب الموجود في ركن الغرفة وبدأت أجول بفكري في المجالات التي يمكنني أن انسج منها خطة لرحلتي إلى أعماق المادة. وبدأت أستعرض مع نفسي المواد التي يمكنني التفكير فيها كميدان لرحلتي:
- ماهي المادة التي يمكن أن أحصل من التجوال فيها على أفضل النتائج؟!
- لا شك أن علي البدء بمادة سهلة، ولكن ما وجه سهولتها؟
- لنستعرض أنواع المواد:
- الغاز لا يجدي لأن جزيئاته وذراته متباعدة جداً وليس لها بنية ثابتة لأنها دائمة الحركة.
- وكذلك السائل إلى حد ما، لأن الحركة الدائبة لذراته قد تؤدي بي إلى التيه دون التمكن من الاطلاع الجيد على مكوناته، والعمليات التي تجري فيه بشكل جيد.
- واذن فالمادة الصلبة هي أفضل الخيارات، فالمفروض أن بنيتها ثابتة تمكنني من التجوال عبرها دون أن تتحايل علي بحركتها المستمرة.
- وأظن أن أوضح مثال على ذلك هو إعطاء عنوان لشخص يسكن في قارب على سطح البحر مقارنة بعنوان شخص يسكن في شقة بشارع معين في مدينة معروفة.
- لا شك أن القارب لن يبقى في مكان واحد سوى لبرهة قصيرة من الزمن. وإذا عدت إليه فلن يكون في الغالب في نفس المكان ..
- وإذن فالمادة الصلبة هي الخيار الأفضل.

و لكن المواد الصلبة أنواع كثيرة، فمنها المركبات ومنها العناصر النقية وهذه وتلك تتواجد على أحد شكلين: بناء بلوري أو تجمد عشوائي. وأعتقد أن بناء و ترتيب الشكل البلوري سوف يسهل علي التعرف على البنية الداخلية للمادة فضلاً عن أن الخلية البلورية الواحدة تتكرر في كل البناء البلوري مما يعفيني من مشقة استطلاع التكتلات المختلفة المتنافرة للبناء العشوائي.
- هذا جيد، إذن فعلي اختيار مادة صلبة ذات بناء بلوري، ولكن ما هو البناء البلوري الأنسب للدراسة؟
- لاشك أن الشكل البلوري الأكثر تماثلاً والأبسط هو المكعب، لذا فمن المفيد التجول في بلورة مكعبة.

وألقيت نظرة على كتاب فيزياء الحالة الصلبة فوجدت من العسير الحصول على بلورة مكعبة لعنصر صلب إذ أن المنغنيز والفسفور فقط هما العصنران الصلبان ذوا التركيب البلوري المكعب، ولاأدري إن كان بمقدوري الحصول على بلورة من أي منها، وأذن فلننظر إلى المركبات. في الحقيقة يراودني شعور بأن بلورة كلوريد الصوديوم قد تكون الأنسب لرحلتي، فهي موجودة في متناول اليد لأنها ببساطة ملح الطعام. وليس هذا هو السبب فقط، فهي من المركبات البسيطة ولا تحوي سوى عنصرين، صحيح أنها لاتصنف كبلورة مكعب بسيط بل هي بلورة مكعب ممتليء الأوجه، وذلك لأن كلاً من الكلور والصوديوم يشكل مكعباً في كل وجه من وجوهه ذرة إضافة إلى ذرات الرؤوس فيكون لبلورة الصوديوم ثماني ذرات على رؤوس المكعب وست ذرات تتوسط أوجهه الستة. و كذلك الأمر للكلور.

غير أن ما يهمني هو أن ذرات الصوديوم والكلور يقع كل منها على رأس مكعب يتشكل من أربع ذرات كلور وأربع ذرات صوديوم. كما يبين الشكل الذي أمامي في كتاب فيزياء الحالة الصلبة. وهكذا فسوف تشكل كل خلية بالنسبة لي غرفة مكعبة يقع على طرفي كل قطر من أقطارها الثلاثة ذرتين مختلفتين إحداهما كلور والأخرى صوديوم.

سررت لهذا التقدم الذي أحرزته في تقرير الخطوة الأولى لرحلتي. وإذن علي أن أفكر في كيفية البدء بالخطوات العملية للرحلة. حسناً أظن أن علي الدخول إلى البلورة بالتدريج، فإذا أمكن لجسمي أن يصغر تدريحياً وعلى مراحل فهذا سيجعلني في كل مرحلة أكثر قدرة على استطلاع الدقائق الداخلية في عمق المادة.


دعني أتخيل التتابع الآتي:
* يصغر حجمي في كل مرحلة إلى عُشر المرحلة السابقة، فطول خطوتي الآن هو حوالي المتر، وطولي 1,7 متراً.
* إذا بدأت المرحلة الأولى فيجب أن يصبح طول خطوتي 10سم وطولي 17سم. أما في المرحلة الثانية فطول خطوتي سيكون 1سم و طولي 1,7سم. وعلى هذا وإذا بدأت من خطوة طولها متر واحد فسوف أحتاج إلى 15 مرحلة لأصل بخطوتي إلى قطر نواة الذرة وهو ا فيرمي = 10 - 15 م، لأنه في مرحلة البداية يكون طول خطوتي هو 1× 10 0 = 1م.
* وفي المرحلة الأولى 1×10 -1م = 10 سم.
* وفي المرحلة الثانية 1×10 -2 = 1سم.
* ... المرحلة الخامسة عشرة ا×10-15= 1 فيرمي.
هذا جيد، ولأبدأ إذن بتفصيل مراحل البداية على الأقل للتخطيط لما أتوقع أن يحدث لي، وهذا يجعل لزاما علي الاجابة على بعض الأسئلة:
* أين أضع بلورة الملح؟ هل في صحن، أم على سطح الطاولة، أم على الأرض مباشرة؟ وإذا وضعتها في صحن فكيف سأدخل الصحن عندما يصبح طولي 1,7 سنتيمتراً؟
* أما على سطح الطاولة فهو الأنسب ولكن هذا يعني أن علي أن أقف ابتداء على سطح الطاولة وإلا فسوف يكون من العسير تسلق الكرسي إلى الطاوله وأنا بطول سنيتمرين.
* أما احتمال الأرض فسيكون جيداً إذا ضمنت أن لا تأتي نملة أو عنكبوت فتضرب البلورة برحلها فتتدحرج. أو أن يأتي قط فيدوسها فتنسحق وانا بداخلها..، ولكن مهلا! هل هذا واقعي؟ وهل سأتأثر لو انسحقت البلورة وأنا بداخلها.
* كلا كلا، الأسلم هو سطح الطاولة. لكن هذا يتطلب سطحاً مائلاً أضعه من الأرض إلى سطح الطاولة لأصعد إليه إذا ما انكمشت، دونما حاجة للتسلق .. و لأنزل عليه بعد عودتي الميمونة من هذه الرحلة الرائعة.

وأعدت التفكير في هذه الطريقة حيث لم ترق لي فكرة الصعود والتسلق وغيرها. وقررت أن أغلق أبواب ونوافذ الغرفة، وأن أضع طبقاً على الأرض أضع في وسطه بلورة الملح وعندما أبدأ في الانكماش على دفعات سيكون من السهل أن أبقى قريباً من البلورة. و لكن أليس من الافضل الآن أن أحصل على البلورة التي سأتجول في أرجائها؟ لكي يكون التخطيط على أرض الواقع. وإذا فلأحضر قليلا من الملح وأختار منه البلورة المناسبة.



http://www.geocities.com/awadkt/3.gif

جواهر
11-12-2003, 06:14 PM
الحلقة الراااابعة*
*
*
خرجت إلى السوق المجاور واتجهت إلى أول بقالة وسألته إن كان لديه ملح خشن. فاستغرب البائع وقال لي:
- يا أخي، في الغالب يطلب الناس ملحاً ناعماً وكلما كان أنعم كلما كان أكثر مبيعا.
فقلت له وأنا أبتسم:
- أما أنا فلا ينفعني إلا الملح الخشن الذي يمكنك أن تحصي بلوراته واحدة بعد الأخرى وليس ذلك المسحوق الذي لا تعلم إن كان فيه من الشوائب أو الرمل ما فيه.
اعتذر الرجل وطلبت منه نصيحة أين أجد ملحاً خشناً فنصحني بأن أذهب إلى المطحنة وهي تقع في الطرف الشمالي من المدينة:
- وهناك أطلب منهم تفصيل البلورة التي تريد ، قال الرجل مازحاً .

فشكرته ومضيت إلى محطة الباصات، وبعد نصف ساعة كنت أدخل مطحنة الملاح لطحن الملح والتوابل.. كانت هناك كتل من الملح كأنها الصخور وكان الرجال يكسرونها إلى قطع صغيرة ثم يدخلونها إلى المطحنة فتخرج مسحوقاً ناعماً أبيض في أكياس أنيقة مطبوع عليها بخط جميل اسم المطحنة والمعلومات الأخرى . وبعد أن حييت الرجال طلبت منهم بلورة ملح طعام .. استغرب الرجل الذي كنت أكلمه لكنه ذهب وعاد وفي يده قطعة ملح على شكل حجر مشوه نتيجة التكسير .. قلت له:
- لكن هذه ليست بلورة فنظر إلي الرجل نظرة متشككة وهم بأن ينصرف لكنني ابتسمت له وقلت بهدوء :
- أقصد أن هذا الملح قدتم تكسيره بشكل عشوائي .. وأردفت موضحاً : إن هذه القطعة تتكون من بلورات يمكن الحصول عليها ببعض المعالجة ، دعني أريك .. وأمسكت قطعة الملح ونظرت فيها ابحث عن مكسر ثم أخذت مطرقة كانت على الطاولة وطرقت برفق على خط المكسر فانكسرت كسراً مستوياً وكان السطح الذي حصلت عليه مستوياً أملس .. نظر الرجل إلي بدهشة ، ثم بحثت عن المكسر الآخر وطرقت عليه. وازدادت دهشة الرجل حتى قمت بإخراج بلورة مكعبة الشكل طول ضلعها حوالي السنتيمتر من الملح الذي كان بين يدي وكانت هذه البلورة نقية إلى حد أن بالإمكان رؤية ما خلفها فهي كالزجاج بينما كان شكل الحجر أبيض كالحاً. ونظر إلى الرجل مستفهماً ، فشرحت له الأمر بكلمات حاولت أن تكون بسيطة قلت له :
- يتكون ملح الطعام من عنصرين هما الكلور والصوديوم اللذان يكونان مركب كلوريد الصوديوم وهذا المركب يبنى على شكل خلية بلورية تتكون من هيكل مكعب توضع على كل راس من رؤوسه ذرة كلور أو ذرة صوديوم، وتأخذ هذه الذرات ترتيباً دقيقاً فلو أخذت خطاً في البلورة فستجد ذرة كلور تليها ذرة صوديوم ثم كلور وهكذا. وإذا أخذت مكعباً واحداً من مكعبات بنية البلورة ووضعته على الطاولة أمامك فستجد على رؤوس السطح العلوي المربع ذرتا صوديوم وذرتا كلور. تتقابل ذرتا الصوديوم قطرياً وكذلك ذرتا الكلور. أما المربع السفلي فيحوي أيضا ذرتا كلور وذرتا صوديوم لكنهما تقعان بحيث تخالف كل ذرة ما فوقها في المربع العلوي . وهكذا تتكرر هذه البنية لتكون هذه البلورة الكبيرة للملح التي أمسكها أمامك وهذا هو سبب سهولة كسر السطوح الموازية للمكعب لتخرج هذه البلورة مماثلة تماماً للخلية البلورية الصغرى .

نظرت في وجه الرجل مستطلعاً بعد كل هذا الشرح ، فوجدته يبتسم ويقول لي :
- هل وجدت بغيتك في هذه البلورة ، قلت له نعم ، قال : إذن حلال عليك، فهي هدية مني.

ولم أجد ما أقوله إزاء ابتسامته التي تتم عن أنه في عالم لا علاقة له بكل ما ورد في محاضرتي السابقة. فبادلته الابتسامة وشكرته بعمق واستدرت إلى حيث الباب وخطوت بهدوء تشيعني نظرة الرجل المؤطرة بنفس الابتسامة ويودعني الصرير المستمر لتروس المطحنة، وعندما صافحني نسيم الغسق في فناء المطحنة أحسست أن من الجميل أحيانا ترك بعض الناس يعيشون في عالمهم الذي صنعوه لأنفسهم عاماً بعد عام ما داموا يشعرون أنهم يعطون الحياة كل إمكاناتهم بصدق وإخلاص.

عدت إلى غرفتي وبيدي لفافة ورقية كانت تستقر بداخلها بلورة من ملح الطعام مكعبة الشكل طول ضلعها 2سم. ووضعت البلورة أمامي على المكتب ورحت أتأملها ... لا يبدو سطحها مصقولاً تماماً مع أنه مستو إلى درجة كبيرة جداً . وإذن فسوف أسبح في رحاب ملكوت الله داخل هذه البلورة إن شاء الله.

زمان الصمت
16-12-2003, 02:05 PM
من جد قصة أكثر من رائعه مشكوره أختي على هالموضوع القمه


الله يجزاك خير


واسفة مارديت الا متأخر :eek:

جواهر
16-12-2003, 10:03 PM
مجروحه مشكوووووره على مرورك



زماااانوه طيب قولي وين كنتي غاااطسه;)


أشكرك على مرورك


تحياتي لكم

زمان الصمت
17-12-2003, 04:35 AM
ههههههههههههههههههه


كنت مسخنه فيني الانفلونزا

جواهر
17-12-2003, 02:16 PM
زماااااانوووووووو


سلاااااااماتوووو ماااتشوفين شرووووووو


تحيااااااتوووووووو

عزوز
18-12-2003, 12:39 AM
ياهلا والله بصاحبة القلم السيال والمشاعر الفضفاضة التي تخاطب القلوب

كلام رزين ، وتنسيق متكامل ، يغمر القلوب بالعجب ، ويسحر العيون بأسلوبه

قصة رائعة ، قدمتها لنا شمعة المنتدى ،

أشكرك جدا على هذا الموضوع الرائع

تحياتي لكي اختي

جواهر
18-12-2003, 12:48 AM
مشكوووووووور عزوز


بس لا تحسبني مألفتهااا


أشكرك على مرورك


تحياااتي

بندر الحربي
08-07-2005, 02:29 PM
جزاك الله خيراً أختي الكريمه