المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حول توثيق العجلي



أهــل الحـديث
12-07-2013, 10:01 AM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


بحث حول توثيق العجلي للشيخ الدكتورحاتم بن عارف العوني الشريف


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وعلى آله وصحبه وتابعيهم ممن أقتفى أثره واتقى حده أما بعد ،،،
فإن علم الجرح والتعديل من أجل علوم الحديث النبوي ،ومن أهمها وأخطرها في آن واحد ،ولا تخفى أهمية هذا العلم على أحد من طلبة العلم ، إذ هو العلم القائد إلى تمييز صحيح السنة من سقيمها، ولولاه لما استطعنا معرفة عدول الرواة من غير العدول ،وحفاظهم من المخلطين .
وأهمية هذا العلم تقابلها خطورته ،وأن من تعرض له فقد تعرض للكلام عن الناس ، بما لولا مصلحة الحفاظ على السنة لما جاز أن تنال أعراضهم وأن يتكلم بغيبتهم بما يكرهون أحياناً كثيرة .
لكن مصلحة الحفاظ على الدين ، بالعناية بمصدره الثاني ( السنة ) أجل وأعظم من مفسدة ذكر عيوب الرواة وصفات النقلة المؤثرة على صحة المرويات أو ضعفها .
ولذلك تصدى لهذا الغرض الجليل والعلم المهم : الجرح والتعديل = فئام من علماء السنة وأئمة الدين ، قياماً بواجب الدفاع عن السنة وذب الكذب عنها .
وقد قاموا بهذا الفرض الكفائي فكفوا وشفوا ، وأحالوا من جاء بعدهم إلى جهدهم وما أصدروه من أحكام على الرواة ، دون احتياج منا إلا إلى الوقوف على ذلك الجهد وتلك الأحكام .
وكان هؤلاء العلماء ، ومن أئمة الجرح والتعديل " الإمام العجلي" .
وقد رأيت أن أخص هذه المقالة بهذا الإمام لأنه قد وقع بشأنه خطآن ، أحدهما في شرطه في كتابه ومسمى هذا الكتاب ، والثاني اتهامه بالتساهل في التوثيق وعدم اعتماد توثيقه بهذه الحجة .
لكني أقدم الحديث على هاتين النقطتين بترجمة لهذا الإمام :
· ترجمة العجلي :(1)
هو أحمد بن عبد الله بن صالح بن مسلم العجلي ، أبو الحسن الكوفي الأصل … ولد سنة (182هـ ) بالكوفة ، وطلب الحديث سنة (197هـ )، أي أنه طلب الحديث وله خمس عشرة سنة ، ثم انتقل أبوه عبد الله بن صالح إلى بغداد، ما بين سنتي (201هـ ) و (206هـ ) فسمع ابنه صالح من علمائها وفي حدود سنة (217هـ ) ابتدأ العجلي رحلته الواسعة ، فدخل البصرة ، ومكة والمدينة ، وجدة ،واليمن ، وبلاد الشام ، ثم مصر ، إلى أن هاجر إلى طرابلس المغرب واتخذها مستقراً له ، طلباً للتفرد والعبادة ، وربما أيضاً هرباً من الامتحان بخلق القرآن الذي كان قد ابتلي به علماء الأمة حينها .
· فمن أشهر شيوخه :
أبوه عبد الله بن صالح (ت211هـ ) ، وحماد بن أسامة (ت201هـ ) ، ويحيى بن آدم (ت203هـ ) ، ومحمد بن يوسف الفريابي (ت 212هـ ) ،وأبو نعيم الفضل بن دكين (ت219هـ ) ، وعفان بن مسلم (ت219هـ ) ، و يحيى بن معين (ت 233هـ ) ،وأحمد ابن حنبل (ت241هـ ) ، ويزيد بن هارون الواسطي (ت 206هـ ) ،ومسدد بن مسرهد ( ت 228هـ ) ونعيم بن حماد(ت229هـ ) ،وغيرهم كثير .
· ومن أشهر تلامذته :
ابنه صالح (ت322هـ ) ، وسعيد بن عثمان بن سعيد التجيبي (ت305هـ) ،ومحمد بن فطيس الغافقي (ت319هـ ) وغيرهم .
· أما مؤلفاته :
فلا أعلم له إلا كتابه في الجرح والتعديل الآتي ذكره ، الذي يرويه عنه ابنه صالح .

· وفاته :
ثم توفي : الإمام العجلي بطرابلس المغرب، سنة (261هـ ) عن تسع وسبعين سنة فرحمة الله عليه ، وجزاه عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وخدمتها أفضل جزاء وأوفره … أمين .
· ثناء العلماء عليه :
أما ثناء العلماء عليه فكثير ، أذكر هنا بعضه ، ويأتي عند الكلام عن اتهامه بالتساهل في التوثيق ذكر بعضه أيضاً :
- صح عن يحيى بن معين أنه قال عنه : " ثقة ابن ثقة ابن ثقة " (2)
فعلق الوليد بن بكر الأندلسي الحافظ الثقة (ت392هـ ) (3) على كلام ابن معين هذا بقوله : وإنما قال فيه يحيى بن معين بهذه التزكية لأنه عرفه بالعراق ، قبل خروج أحمد ابن عبد الله إلى المغرب ، وكان نظيره في الحفظ ، إلا أنه دونه في السن ، وكان خروجه إلى المغرب أيام محنة أحمد بن حنبل ،وأحمد بن عبد الله هذا أقدم في طلب الحديث ،وأعلى إسناداً وأجل عند أهل المغرب في القديم والحديث ورعاً وزهداً من محمد بن إسماعيل البخاري (!!!) وهو كثير الحديث ، خرج من الكوفة والعراق ، بعد أن تفقه في الحديث (4) .
وصح عن عباس بن محمد الدوري الحافظ الناقد تلميذ يحيى بن معين ( ت271هـ )(5) أنه قال عن العجلي : " إنا كنا نعده مثل أحمد بن حنبل ويحيى بن معين "(6) .
وقال مالك بن عيسى بن نصر القفصي – أحد أئمة الحديث ونقاده بالمغرب (ت 305هـ ) (7) وقد سئل : " من أعظم من رأيت بالحديث ؟ فقال : أما من الشيوخ فأبو الحسن أحمد بن عبد الله بن صالح الكوفي الساكن بأطرابلس المغرب"(8)
وقال علي بن أحمد بن زكريا بن الخصيب الأطرابلسي – فقيه محدث صالح عابد ( ت370هـ ) (9) - : " إن ابن معين واحمد بن حنبل قد كانا يأخذان عن العجلي "(10).
وقال عنه أيضاً : " ثقة ابن ثقة " (11) .
وقال الوليد بن بكر الأندلسي – المتقدم ذكره - : " كان أبو الحسن من أئمة أصحاب الحديث الحفاظ المتقنين من ذوي الورع والزهد " (12) .
وقال الخطيب : " كان ديناً صالحاً " (13)
وقال الذهبي: " الإمام الحافظ الأوحد الزاهد " (14)
وقال ابن ناصر الدين الدمشقي : " كان إماماً ، حافظاً ، قدوة ، من المتقنين وكان يعد كأحمد بن حنبل ويحيى بن معين "(15) .
هذا بعض ما قيل في الإمام العجلي ، مما يبين أنه من كبار النقاد وأعلام الحديث وأئمة الجرح والتعديل .
· كتابه في الجرح والتعديل :
( الاختلاف في اسمه ،وشرطه فيه ) (16):
لا شك أن معرفة الاسم الصحيح للكتاب من أهم ما ينبغي التأكد منه لمن أراد الاستفادة منه ،ومن أوائل اسس التحقيق السليم ، لأسباب كثيرة ، ليس هذا موطن ذكرها .
وتسمية كتاب العجلي التسمية الصحيحة لها أهمية خاصة لأن الاسم الصحيح هو أو مُعين لمعرفة شرط الكتاب وغايته ومضمونه ،وهي أمور وقع فيها خلاف نشأ عن الخطأ في تسمية الكتاب .
وقد طبع ترتيب كتاب العجلي عدة طبعات :
منها طبعة بتحقيق د . عبد المعطي القلعجي ، باسم ( الثقات للعجلي ) ، وطبع طبعة أخرى بتحقيق الأستاذ عبد العليم البستوي ، باسم ( معرفة الثقات من رجال أهل العلم والحديث ، ومن الضعفاء وذكر مذاهبهم وأخبارهم )(17)
وأما اسم الكتاب في نسختي ترتيبه فاسمه في النسخة المخطوطة لترتيب الهيثمي : ( ترتيب ثقات العجلي )(18)، وأسمه في نسخة ترتيب تقي الدين السبكي : (كتاب سؤالات أبي مسلم صالح أباه أبا الحسن أحمد بن عبد الله بن صالح العجلي الكوفي ، وهو مترجم بمعرفة الثقات من رجال أهل العلم والحديث ومن الضعفاء وذكر مذاهبهم وأخبارهم ، أملاه أبو الحسن أحمد بن عبد الله بن صالح العجلي الكوفي على ابنه أبي مسلم صالح بن أحمد بالمغرب –) رحمهمـا الله تعالى -)(19) .
أما الأسماء التي أطلقها الأئمة على الكتاب ، فمختلفة : فسموه بـ( الثقات) و ( الجرح والتعديل ) و( التاريخ ) و ( معرفة الرجال ) ، و( السؤالات) وقال عبد العليم البستوي في مقدمة تحقيقه : " يظهر بعد هذا أن كل هذه الأسماء العديدة لكتاب واحد ، وقد وصفه كل حسب ما بدا له بالنظر إلى موضوعه ومحتوياته فهو كتاب ( الثقات ) لغلبتهم عليه ، وهو كتاب ( الجرح والتعديل ) كما هو واضح ، وهو كتاب ( التاريخ ) بالمعنى المعروف عند المحدثين "(20) .
قلت : لكن تسمية الكتاب بـ( الثقات) جرت إلى خطأ كبير عن هذا الكتاب ، فلم يفهم على أن تسميته بـ (الثقات) لأن الثقات هم أغلب من ذكر فيه ، بل فهم على أنه كتاب مختص بـ( الثقات ) فقط ، كثقات ابن حبان وابن شاهين !! .
فمن الحفاظ : يقول خاتمتهم الحافظ ابن حجر في ( نزهة النظر ) : " ومنهم من أفرد الثقات بالذكر ، كالعجلي ، وابن حبان وابن شاهين " (21) .
ومن المعاصرين : يقول فضيلة العلامة الأستاذ الدكتور أكرم ضياء العمري في ( موارد الخطيب البغدادي ) :" أما كتب الثقات ، فأول من صنف فيها : أبو الحسن أحمد ابن عبد الله بن صالح العجلي "(22) .
إلا أن الصواب : أن كتاب العجلي ليس مختصاً بـ( الثقات ) ففيه جماعة جرحهم العجلي نفسه ، بالضعف تارة (23) وبالترك أخرى (24) ، وبالكذب أحياناً(25) ، وبالزندقة أيضاً (26) ، بل لقد بوّب لكتابه باباً بعنوانه : " ومن المتروكين " كما في الجزء المتبقي من أصل كتاب العجلي (27) .
إذن فكتاب العجلي ليس مختصاً بالثقات ، ولذلك فإن أعتبر تسمية كتابه بـ( الثقات ) خطأ ، جرّ إلى خطأ اعتقاد اختصاصه بالثقات ! .
وقد يجر إلى خطأ أخر وهو أن بعض الرواة الذين ذكرهم العجلي في كتابه لم يذكر فيهم جرحاً ولا تعديلاً (28) فمن ظن أن الكتاب مختص بالثقات أعتبرهم ثقات عند العجلي ، قياساً على ثقات ابن حبان .
وأقرب الأسماء إلى الصواب : أما (السؤالات ) ، أو ( معرفة الثقات … ومن الضعفاء ..) كما سبق عن نسخة ترتيب تقي الدين السبكي .
ويظهر من هذه التسمية الراجحة : أن شرط العجلي في كتابه أوسع من اختصاصه بـ ( الثقات ) كما سبق ، بل هو كتاب في ( الجرح والتعديل ) وفي ( تاريخ الرواة ) وفي (معرفة الرجال ) مطلقاً ، وهذه كلها تسميات أولى من : (الثقات) لأنها أصدق وصفاً لمضمون الكتاب .
· توثيق العجلي واتهامه بالتساهل فيه :
تقدم من ألفاظ الأئمة في الثناء على العجلي ، ما بين أنه إمام من أئمة النقد ، وأنه من كبار الحفاظ مع التدين المتين والورع والزهد ، حتى إنه كان يقرن في ذلك بيحيى بن معين والإمام أحمد بن حنبل إمامي السنة والجرح والتعديل .
وثناء الأئمة عليه بذلك استمر من عصره وفي حياته ، إلى زمن الإمام الذهبي وابن ناصر الدين ، بل إلى ما بعد ذلك ، حتى العصر الحديث حين اتهم بالتساهل كما يأتي !! .
بل لقد مضى الأئمة على اعتماد أقوال العجلي ،والنص على أنه من أئمة الجرح والتعديل المعتمدين ،وعلى الثناء على كتابه في الجرح والتعديل .
فكتاب العجلي أحد موارد الخطيب البغدادي ،والحميدي (ت488هـ ) وابن عساكر ، والمزي ، والذهبي ،وابن رجب الحنبلي ،والحافظ ابن حجر ، والسخاوي ، والسيوطي ، وابن العماد الحنبلي ،وغيرهم (29) .
وقد ذكره الإمام الذهبي في كتابه ( ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل)(30) وذكره السخاوي في ( المتكلمون في الرجال )(31) .
وقال الذهبي في ترجمته في ( سير أعلام النبلاء ) : " وله مصنف مفيد في الجرح والتعديل ، طالعته ، وعلقت منه فوائد يدل على تبحّره بالصنعة وسعة حفظه " (32) .
وقال نحو هذه العبارة الصفدي في (الوافي بالوفيات) (33) .
وقال ابن ناصر الدين : " وكتابه في الجرح والتعديل يدل على سعة حفظه وقوة باعه الطويل (34) .
وعلى هذا لم أجد أحداً من الأئمة السابقين – قبل العصر الحديث – من وسم العجلي بالتساهل في التوثيق وأنه لا يعتمد على توثيقه إذا انفرد به لراو لم نجد فيه قولاً لغيره .
وأول من وجدته وصف العجلي بالتساهل في التوثيق :العلامة المحقق عبد الرحمن ابن يحيى المعلمي (ت1386هـ ) حيث قال في ( طليعة التنكيل لما ورد في تأنيب الكوثري من الأباطيل ) : " والعجلي قريب من ابن حبان في توثيق المجاهيل من القدماء " (35).
وقال أيضاً في ( الأنوار الكاشفة ) : " وتوثيق العجلي وجدته بالاستقراء كتوثيق ابن حبان أو أوسع "(36) .
وتبعه على ذلك محدث العصر العلامة محمد ناصر الدين الألباني ، في مواطن كثيرة من كتبه ، منها قوله في ( سلسلة الأحاديث الصحيحة ) : " العجلي معروف بالتساهل في التوثيق ، كابن حبان تماماً ، فتوثيقه مردود إذا خالف أقوال الأئمة الموثوق بنقدهم وجرحهم "(37) .
ثم انتشر هذا القول بتساهل العجلي بين طلبة العلم وأصحاب التأليف ، حتى شاع واشتهر ، ولم تعد ترى فيهم من يدفعه أو يخالفه ، بل من يناقشه بالدليل والبرهان ، فأصبح من الأمور المسلمة عندهم ، لايحتاج إلى استدلال ، بل ربما لا يجوز ذلك فيه !! .
وخطأ ذوي الفضل – كالمعلمي والألباني – يزيد من فضلهم ، لأنه أجر واحد من مجتهد معذور ، يضاف إلى ما سبقت به أعمالهم – تقبلها الله – لكن تقليدهما فيه ، والتعصب لذلك جهلاً واستكباراً هو المأخوذ على صاحبه .
ولمناقشة هذه المسألة ، أذكر أدلة من اتهموا العجلي بالتساهل ، ثم أتبعها بالرد عليها ، قالوا : يدل على تساهله أموراً ثلاثة :
الأول : كثرة توثيقه لمن لم نجد لغيره فيهم كلاماً .
الثاني : مخالفته لغيره من أئمة النقد بتوثيقه رواة جهلهم غيره أو ضعفهم أو تركهم .
الثالث : عدم اعتماد الحافظ ابن حجر لتوثيق العجلي إذا انفرد .
والرد على هذه الشبه من وجوه :
الأول : أما توثيقه لمن لم نجد لغيره فيهم كلاماً ، فما وجه دلالته على تساهله ؟ وهل تزيد على أن أعلنا جهلنا ؟ وأننا عجزنا أن نعرف حال الراوي إلا من طريق العجلي ؟!
ثم إن كان هذا دليلاً على تساهل العجلي ، فلن ينجو إمام من ائمة الجرح والتعديل من أن يكون متساهلاً كالعجلي ، لأنه لا يخلو إمام – خاصة المكثرون من نقد الرواة – من أن نجد له توثيقاً لراو لا متكلم فيه غيره ، فصف يحيى بن معين ، وأحمد بن حنبل ،والبخاري ، بالتساهل إذن بنفس الحجة التي وصفت بها العجلى بذلك !!! .
الثاني : أما مخالفة العجلي بتوثيقه لرواة جهلهم غيره من الأئمة فمتى يكون من عنده زيادة علم مقدماً على غيره إذا لم نقبل توثيق العجلي في هذه الحالة؟!! .
إن قول الإمام عن راو : إنه ( مجهول ) إعلام من الإمام عن عدم معرفته له ، وإعلان منه أنه لا يخبر حاله ، فإذا قال إمام آخر عن ذلك الراوي : إنه (ثقة) فليس في ذلك مخالفة أصلاً ، ولا هذه المسألة من مسائل تعارض الجرح والتعديل ، لأن من جهل الراوي توقف عن الحكم عليه بالثقة والضعف أيضاً ، لعدم معرفته له ،ومن وثقه عرفه ، وعرف من حاله ما يستحق التوثيق ، فأصدر هذا الحكم عليه .
وهنا نقول : من كان عنده علم حجه على من لم يكن عنده علم .
والعجلي إمام كبير ، أكبر سناً وأعلى إسناداً من الإمام البخاري ، وكان يقرن بالإمام أحمد ويحيى بن معين في العلم ، كما سبق ، فمثله لا ينكر عليه أن يعرف من يجهله غيره من أئمة النقد ، ولا يستغرب منه أن يكون حجة على عدم علم غيره من حفاظ الحديث .
الثالث : أما مخالفة العجلي بتوثيقه لرواة ضعفهم غيره أو تركهم سواء فمن نجا من الأئمة من مثل ذلك ؟ !! .
إن إختلاف اجتهادات الأئمة في الرواة جرحاً وتعديلاً واقع واضح وضوح الشمس لكثرة تكرره ، ولجميع الأئمة، فلن تجد إماماً إلا وقد وثق من ضعفه غيره أو ضعف من وثقه غيره ، وربما كان الصواب مع من وثقه ،وربما كان العكس ، فلا كون الصواب مع الموثق بالدليل الكافي لوسم المضعف بالتشدد ،ولا كون الصواب مع المضعف بالبرهان الصحيح على اتهام الموثق بالتساهل وإلا لن يخلو إمام من أن يكون متشدداً متساهلاً في آن واحد !! لأنه لن يخلو إمام من أن يوثق من الصواب ضعفه أو يضعف من الصواب توثيقه .
الرابع : أما عدم اعتماد الحافظ ابن حجر على توثيق العجلي ، فليس بصحيح مطلقاً ، بل اعتمده مرات كثيرة خاصة مع توثيق ابن حبان .
فها هو قد ذكر حفص بن عمر بن عبيد الطنافسي في ( التقريب) وقال عنه : ( ثقة ) (38) مع أنه لم يذكر في التهذيب له موثقاً غير العجلي (39) .
وهاهو يقول عن أم الأسود الخزاعية في ( التقريب ) : (ثقة) (40) مع أنه لم يذكر أن أحداً تكلم عنها في ( التهذيب ) (41) غير توثيق العجلي .
ولما ذكر الحافظ في ( التهذيب ) : البراء بن ناجية الكاهلي ، وتوثيق العجلي وابن حبان له ، مع قول الذهبي عنه : فيه جهالة لا يعرف ، تعقب الحافظ قول الذهبي بقوله : قد عرفه العجلي وابن حبان فيكفيه (42) وأمثلة ذلك كثيرة جداً.
نعم .. هناك مواطن أخرى ينقل الحافظ بن حجر في ( التهذيب ) توثيق العجلي ، مع ذلك لا يقول عن ذلك الراوي الذي نقل فيه توثيق العجلي في (التقريب) : " ثقة " بل يقول : " مقبول " .
ولذلك أيضاً أمثلة كثيرة
فليس عدم اعتماد الحافظ لتوثيق العجلي في مواطن قاضياً على اعتماده عليه في مواطن أخرى بل العكس هو الصواب، لأن العجلي إمام من جلة أئمة الجرح والتعديل كما سبق من كلام الأئمة عنه فبأي حجة نعرض عن اعتماد قوله في راو لا مخالف له فيه أصلاً ؟
ونقول في هؤلاء الرواة الذي لم يعتمد الحافظ فيهم توثيق العجلي ما نقوله تماماً في رواة وثقهم يحيى بن معين (43) وعلي بن المديني (44) وأبو حاتم(45) وأبو داود(46) والنسائي (47)وغيرهم (48) وذكر الحافظ ذلك عنهم في ( التهذيب ) مع ذلك قال الحافظ عن هؤلاء الرواة الذين وثقهم أولئك الأئمة وأمثالهم في بعض الأحيان : " مقبول " فهل نقول إن الحافظ لا يعتمد توثيق أولئك الأئمة ؟! أم نلتمس الأعذار للحافظ ؟ ونقول : لعل له اجتهاداً ، أو لعله سبق قلم ، أو هو خطأ معذور صاحبه مأجور إن شاء الله تعالى .
المهم أن لا يكون عدم اعتماد الحافظ لتوثيق العجلي سبباً لعدم اعتمادنا نحن توثيقه ،وإلا ألجأنا القياس الصحيح على ذلك إلى عدم اعتمادنا توثيق يحيى بن معين وعلى ابن المديني وأبي حاتم وأبي داود والنسائي وهذا هو الباطل !! .
ثم لنفترض أن الحافظ لم يكن يعتمد توثيق العجلي ، فهل الحافظ حجة على غيره من الأئمة ، الذين وصفوا العجلي بالإمامة في الحديث ، حتى قرنوه بابن معين والإمام أحمد ؟!.
ويمكن أن نعارض الحافظ بتصرف غيره من الحفاظ كابن رشيد السبتي (ت721هـ ) الذي اعتمد توثيق العجلي لعمارة بن حديد (49) في مقابل جهالة ابي زرعة وأبي حاتم وابن عبد البر وغيرهم له (50) ليؤكد لنا بذلك عظيم اعتداده بتوثيق العجلي ، وليعطينا مثالاً واقعياً لما سبق أن ذكرناه ، من أن توثيق الإمام مقدم على جهل غيره من الأئمة لأن مع الموثق زيادة علم .
وبذلك نكون قد رددنا على أدلة وشبه من اتهم العجلي بالتساهل في التوثيق وبينا أن هذا القول قول مستحدث وأن جميع الأئمة السابقين على رأي واحد وهو: اعتقاد إمامة العجلي في علم الحديث وأنه أحد نقاد الآثار وصيارفة العلل ،وأئمة الجرح والتعديل ، لا يغمز بشيء في علمه ، ولايخطأ في منهجه ، وأنه يقرن بالإمام أحمد ويحيى بن معين .
فلا أرى – بعد ذلك – عدم الاعتماد على توثيق بدعوى تساهله ، إلا قولاً مرجوحاً ، فيه إهدار لأحكام جليلة من إمام جليل عليه رحمة الله .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ،والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وأصحابه والتابعين .

والله أعلم


(1) مصادر الترجمة : تاريخ بغداد للخطيب (4/214-215) وتاريخ الإسلام للذهبي – وفيات ما بين (261هـ ) إلى (280هـ ) –(49-50) وسير أعلام النبلاء له (12/505-506) وتذكرة الحفاظ له (560-561) . والعبر له (1/374) وطبقات علماء الحديث لابن عبد الهادي (2/251-252) والوافي بالوفيات للصفدي (7/79-80) والبداية والنهاية لابن كثير (11/33) والمقفى الكبير للمقريزي (1/514-515) وشذرات الذهب لابن العماد (3/266) ومقدمة عبد العليم البستوي لتحقيقه كـتاب العجلي (1/33-61 )

(2) تاريخ بغداد للخطيب (4/215 ) .

(3) ترجمته في سير أعلام النبلاء للذهبي ( 17/65-67 ) .

(4) تاريخ بغداد (4/215) .

(5) ترجمته في سير أعلام النبلاء للذهبي (12/522) .

(6) تاريخ بغداد (4/214) .

(7) ترجمته في علماء إفريقية للخشني (رقم65) وترتيب المدارك للقاضي عياض (5/124-125)

(8) تاريخ بغداد (4/215) .

(9) ترجمته في الديباج المذهب لابن فرحون (2/103) .

(10) تاريخ بغداد (4/214-215) .

(11) تاريخ بغداد (4/215) .

(12) تاريخ بغداد (4/214) .

(13) المصدر السابق .

(14) سير أعلام النبلاء للذهبي (12/505) .

(15) شذرات الذهب لابن العماد (3/266)

(16) كنت قد كتبت عن هذه الجزئية ضمن مقالة عن صحة العنوان وأهميته ،وأرسلتها إلى إحدى المجلات العلمية ولم تنشر بعد مع أنه صدر عدد واحد بعد إرسالي لها فلو نشر إلا أن هذه الموضوع لا يستغني عن هذا المبحث .

(17) وهي الطبعة المعتمدة في هذا المقال : مكتبة الدار بالمدينة ، الطبعة الأولى ( 1405هـ ) .

(18) معرفة الثقات للعجلي – مقدمة التحقيق – (1/162) .

(19) معرفة الثقات للعجلي – مقدمة التحقيق –(1/172 ) .

(20) معرفة الثقات للعجلي – مقدمة التحقيق – (1/65-70) .

(21) نزهة النظر لابن حجر (ص 199) .

(22)موارد الخطيب للعمري( ص31) .

(23) انظر معرفة الثقات للعجلي ( رقم 85، 90، 109 ، 111، 288، 329 ، 329 ، 566، 1364 ، 1407، 1466، 1623، 1639، 1826، 1869 ، 1909 )

(24) انظر معرفة الثقات ( رقم 347، 849، 1496) وتحقيق القلعجي ( رقم 1876) .

(25) انظر معرفة الثقات للعجلي ( رقم 1924، 245) .

(26) انظر معرفة الثقات للعجلي ( رقم 2066)

(27) معرفة الثقات للعجلي – مقدمة التحقيق –( ا/74) .

(28) انظر معرفة الثقات للعجلي ( رقم 818، 850، 870، 629، 1104، 1190)

(29) انظر مقدمة تحقيق كتاب العجلي للبستوي (1/80-89)

(30) ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل للذهبي ( رقم 286)

(31) الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ للسخاوي (344)

(32) سيرة أعلام النبلاء للذهبي (12/506) .

(33) الوافي بالوفيات للصفدي (7/79) .

(34) شذرات الذهب لابن العماد (3/266).

(35) التنكيل للمعلمي (1/69) .

(36) الأنوار الكاشفة للمعلمي (68) .

(37) سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني ( 2/218رقم 633) .

(38) التقريب (رقم 1426) .

(39) التهذب (2/409) .

(40) التقريب ( رقم 8800) .

(41) التهذيب (12/459) .

(42) التهذيب (1/427-428).

(43) انظر التهذيب (12/14) مع التقريب ( رقم 8002) والتهذيب (10/385) مع التقريب ( رقم 7085) والتهذيب (10/297) مع التقريب ( رقم 6928) .

(44) انظر التهذيب (9/415) مع التقريب ( رقم 6288) .

(45) انظر التهذيب (5/178) مع التقريب ( رقم 3278) والتهذيب ( 9/537) مع التقريب (6456) .

(46) انظر التهذيب (2/410) مع التقريب ( رقم 1428) والتهذيب (12/162) مع التقريب ( رقم 8302) .

(47) انظر التهذيب (9/455) مع التقريب ( رقم 6341) والتهذيب (10/353) مع التقريب ( رقم 7032) .

(48) استغنت لذكر هذه الأمثلة بكتاب ( إمعان النظر في تقريب الحافظ ابن حجر ) لعطاء بن عبد اللطيف بن أحمد (80-134) .

(49) ملء العبية لأبي رشيد – الاسكندرية ومصر عند الورود – ( 3/31) .

(50) المصدر السابق ، والتهذيب (7/414) .