المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الايضاح والتبيين بأن أبي الزبير ليس من المدلسين



أهــل الحـديث
10-07-2013, 06:31 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم




مُقدمة : الإيضاح والتبيين بأن أبي الزبير ليس من المدلسين .

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسولنا الأمين ، الذي بلغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، ونصح الأمة ، فتركها على المحجة البيضاء ، وسنة غراء ، ورثها عنه العلماء الأفاضل النُبلاء ، فنفوا عنها تحريف المبطلين ووضع الوضاعين ، وتأويل الجاهلين .
ألا وإن لأهل الحديث السبق الأول في هذا الشأن فقد حصنوها بتحقيق الصحيح والضعيف وبينوا منها السقيم من الصحيح فكانت لهم الكلمة الأولى واليد الطولى في الذب عن تلك المحجة البيضاء والسنة الغراء والحصن الحصين لأمة نبي الإسلام التي ورثها العُلماء عَن الأنبياء أخرج أبو داود والترمذي من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( من سلك طريقا يلتمس فيه علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع.وإن العالم ليستغفرُ له مَنْ فى السموات ومن فى الأرض حتى الحيتانُ فى الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب.وإن العلماء ورثة الأنبياء.وإن الأنبياء لم يُوَرِّثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما وَرَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر )) .
فحاز أهل الحديث كل الإحترام والمحبة فأدخل الله لهم القبول في قلوب البشر جمعاء وكانوا أكثر أهل الناس إبتلاءاً فهذا الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة يبتلى بفتنة خلق القرآن فيصبر ويثبت بقوةٍ على الحقِ ويأمر بالاعتقاد بأن القرآن كلام الله ليس مخلوقاً وغيرهُ مِنْ الأئمة الأثبات الثقات أصحاب الحديث الأعلام ممن صبر واحتسب عند الله وكان له الأجر والقبول في كل بقاع الأرد فقال الإمام الشافعي - رحمه الله - ذم الكلام وأهله (ص401) : (( إِذَا رَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ ، فَكَأَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )) وفي رواية عَنه كما روى عنه الحافظ الذهبي في كتابهِ النفيس سير أعلام النبلاء- (ج10/ص59-60-60) : (( إذا رأيت رجلا من أصحاب الحديث ، فكأني رأيت رجلا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ، جزاهم الله خيرا ، هم حفظوا لنا الأصل ، فلهم علينا الفضل )) ولذلك قال داود الأصبهاني - رحمه الله - ذم الكلام وأهله (3/26) : (( أَصْحَابُ الْحَدِيثِ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الْفُقَهَاءِ وَذَاكَ أَنَّ كَدَّهُمْ ضَبْطُ الْأُصُولِ )) .
ووروي عن الإمام الشافعي في ذم الكلام وأهله (3/26) : (( عَنِ الْبُوَيْطِيِّ قَالَ سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ عَلَيْكُمْ بِأَصْحَابِ الْحَدِيثِ فَإِنَّهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ صَوَابًا )) ، وقد قال الأعمش - رحمه الله - كما روى عنه صاحب ذم الكلام وأهله (5/173) : (( لَا أَعْلَمُ لِلَّهِ قَوْمًا أَفْضَلَ مِنْ قَوْمٍ يَطْلُبُونَ الْحَدِيثَ وَيُحْيُونَ هَذِهِ السُّنَّةَ كَمْ أَنْتُمْ فِي النَّاسِ لَأَنْتُمْ أَقَلُّ مِنَ الذَّهَبِ )) وإعلم أن حفظ السنة لا يكون إلا ببيان الصحيح والضعيف ولهذا كان أشرف ما عني به أهل الحديث هو النظر في أحوال الرجال وتمييز من كان منهم على إستقامة ومن كان منهم مخرومُ العدالةِ منتقدٌ مِن ناحية العلم أو الحفظ أو الضبط أو الإختلاط أو جرحٌ مفسر بالضعف أو الوضع أو الكذب على رسول الله ، فكان لأهل الحديث شرف تمييز الخبيث من الطيب قال الله تبارك وتعالى : (( مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ )) ولذلك لا يكون تمييز القوي من الضعيف ولا الصحيح من السقيم إلا لأهل الحديث وقد أكرمهم الله تبارك وتعالى بهذه الشرف العظيم وانتفضوا لهذا العلم ووهبوا له الحياة وأفنوا الأعمار في نقد الرجال وبيان الضعفاء من القائم أمرهم بالعلم والبيان وحفظ سنة خير الأنام وكان منهم حفظةٌ أتقياءٌ أئمةٌ علماءٌ أثباتٌ .
ودليل ذلك لم يتركوا هذا المجال العظيم والعلم المتين والقول الرزين وهو قول الجارحين والمعدلين علمٌ لا يتقنه إلا الحفاظ المتقنين الأثبات الأئمةِ المُحدثين فكان على رأسهم الصحابة الكرام المؤمنين العدول سرج الليل وفرسان النهارِ - رضوان الله عليهم أجمعين - فكان على رأسهم : (( الشعبي وابن سيرين وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير )) وإليك أيها المُتقن المحدث الكريم ما كان من آخر عصر التابعين وَهُوَ حُدُود الْخَمِيس ومئة تَكَلَّمَ فِي التَّوْثِيقِ وَالتَّرْجِيح طَائِفَةٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ المُؤمِنين الصَالحينء فمِنهُم :
(1) قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ مَا رَأَيْتُ أَكْذَبَ مِنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ.
(2) وَضَعَّفَ الْأَعْمَشُ جَمَاعَةً وَوَثَّقَ آخَرِينَ.
(3) وَنَظَرَ فِي الرِّجَالِ شُعْبَةُ وَكَانَ مثبتا لَا يَكَادُ يَرْوِي إِلَّا عَنْ ثِقَةٍ.
(4) وَكَذَا كَانَ مَالِكٌ.
(5) وَمِمَّنْ إِذَا قَالَ فِي هَذَا الْعَصْرِ قبل قَول معمر.
(6) وهَاشِم الدَّسْتَوَائِيُّ .
(7) وَالْأَوْزَاعِيُّ .
(8) وَالثَّوْرِيُّ.
(9) وَابْنُ الْمَاجِشُونِ .
(10) وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ .
(11) وَاللَّيْث بن سعد وَغَيْرُهُمْ .
فهذه الطبقة من الأئمة الذين تكلموا في الرجال في آخر عصرٍ للتابعين كما نقل الإمام السخاوي - رحمه الله - في كتابه النفيس المتكلمون في الرجال (1/99) فعني هؤلاء ومن تلاهم بنقد الرواة وتبيين حالهم وأول لبنةٍ وضعوا ذلك وقعدوا لهذا العلم العظيم فذكروا أقوال أئمة الجرح والتعديل منهم مَن نقله عَن شيخه المحدث الثين الأمين ! ومنهم من نقله عن اللبنة الأولى بإسناده إلي الأئمة الأعلام المثبتين فساقوها بأسانيدها كما ساقوا الأحاديث ، فعني الإمام الحافظ الناقد الثقة البارع جمال الدين بن يوسف المزي فنقل في كتابه تهذيب الكمال أقوالهم مسندةً لأئمةِ الجرح والتعديل - رضي الله عنهم - وإن كان هذا الكتاب النفيس لم يستوعب كامل شيوخ من ترجم لهم في الكتاب فمن القصص المنقولة في تدليس أبي الزبير المكي - رحمه الله - ما روي من طريق الليث بن سعد وهو إمامٌ ثبتٌ ثقةٌ من الطبقة التي كانت آخر عصر التابعين ممن تكلم في الرجال ونقد الرواة وعرفَّ بالثقات وروي عنه ما يثبت تدليس أبي الزبير المكي ومثل هذا عَنهُ لا يمكن أن يرد وإلا اعتبر رداً لأقوال الأئمة الأثبات الثقات .
ولا يهولنك ما ثبت عند الأئمة المتأخرين المحدثين من وصف أبي الزبير المكي بوصف المدلسين وجلعه في طبقة من لا يقبل منه إلا ما صرح به بالسماع فيما روي من الحديث ، وما كان منهم لما روي عن الأئمة المتقدمين ألا وإنهم مباركون رفع الله شأنهم في الدنيا والآخرة إن شاء الله تعالى فأحسنوا الكلام في الرجال تبعاً لما جاء عن الأئمة المتقدمين ، ولابد لنا أن نعي تماماً أن القول من اللبنة الأولى من الأئمة الأثبات المحدثين ! وفيما روي عن أبي الزبير ما عرفنا أحداً من الأئمة المتقدمين وصفه بالتدليس بل وثقوه وتقبل الأئمة روايته عن جابر بن عبد الله وكان الإمام الثقة الثبت من المكثرين عن جابر ألا وإن المكثر من التحديث عن شيخ فإن عنعنته عند الأئمةِ محمولٌ على الإتصال لأحتمال قلة التدليس وندرته في شيخه الذي عني فيهِ ، فلا عرف الإمام المحدث الثقة المحتج بروايته في الصحيح بالتدليس بين الأئمةِ إلا فيما روي عن الليث بن سعد - رحمهم الله ورضي عنهم - ولا نرد قولهُ ولكن مَن حقق النظر في أحاديثه وأطال البحث فيها فلن تجد فيها ما يثبت به التدليس ولا رأيت فيما يرويه ما يرد بالعنعنة ! ولم يكن أهل العلم يردوا رواية الحديث بمجرد العنعنة بل ما كان ليرد إلا بالتدليس وبثبوته وبثبوت هذا القول فيه .
وقد عمدت إلي تحقيق تدليس ابي الزبير المكي - رحمه الله - في هذه الدراسة العلمية والتي ألهمني عنوانها ما روي عن الشيخ المحدث خالد الدريس أن ما كتبه مخطوطٌ وإن كنت لا أبلغ معشار ما كتب الشيخ المحدث ولا مقدار صفحةٍ مما أثبت فيه من الدرر والفوائد العلمية في نفي التدليس عن أبي الزبير المكي وأنا العبد الفقير قد سلكت هذا المسلك مُبرءاً لأبي الزبير من هذه التهمة وهذا التدليس ألا والله أيها المحدث المشهور الثقة إني لأقول ببرائتك من التدليس وبعده عنك وعن روايتكَ في الصحيح وغير الصحيح فأنت علمٌ من الأعلام وثبتٌ من الأثبات الذين يقبل ما رووه معنعناً عَن شيوخه المعني بهم ! فسوغ اتهامه بالتدليس أن يطعن بعض طلبة العلم فيما رواهُ هذا الثقة في صحيح مسلم وكأن تدليسه في عين الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم ثبت لهم ولم يثبت للإمام مسلم وهو القائل في مقدمة الصحيح شرح النووي (2/94) : (( وَإِنَّمَا كَانَ تَفَقُّدُ مَنْ تَفَقَّدَ مِنْهُمْ سَمَاعَ رُوَاةِ الْحَدِيثِ مِمَّنْ رَوَى عَنْهُمْ إِذَا كَانَ الرَّاوِى مِمَّنْ عُرِفَ بِالتَّدْلِيسِ فِى الْحَدِيثِ وَشُهِرَ بِهِ فَحِينَئِذٍ يَبْحَثُونَ عَنْ سَمَاعِهِ فِى رِوَايَتِهِ وَيَتَفَقَّدُونَ ذَلِكَ مِنْهُ كَىْ تَنْزَاحَ عَنْهُمْ عِلَّةُ التَّدْلِيسِ فَمَنِ ابْتَغَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مُدَلِّسٍ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِى زَعَمَ مَنْ حَكَيْنَا قَوْلَهُ فَمَا سَمِعْنَا ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ سَمَّيْنَا وَلَمْ نُسَمِّ مِنَ الأَئِمَّةِ )) فتلك فائدةٌ نفيسةٌ وقولٌ رزينٌ عظيمٌ فرحم الله تعالى الإمام الثبت مسلم بن الحجاج القشيري رحمةً واسعة وجزاه الله كل خير عن الإسلام والمسلمين لما قدم وصنف وحدث المحدث البارع أمير المؤمنين في الحديث بعد شيخه .

الفصل الأول : التَدليس وتَعريفهِ وبَيان نَفي كَونه الكَذب .

وقد عنيت في هذا الفصل بأن أشرح معنى التدليس وتعريفه وبيان ضوابطهِ ومعرفة مراتب حديث المدلسين في الصحيح وأنه ليس من الكذب في شيء ، وقد أساء البعض فهم مصطلحات الأئمة في بيان التدليس وجعلوه الكذب حاملين هذا على التعريف اللغوي متناسين الإصطلاح أو ما درج عند أهل الحديث والمحدثين فلابد من أن يتبين الباحث الأمر بيان المحقق البارع :
(1) ليس المقصود بالتدليس الكذب كما هو متباردٌ لأذهان البعض فليس هذا مراد المحدثين وليس هذا معنى هذا الإصطلاح عند أهل الحديث ، والمراد به عندهم إخفاء العيب في الإسناد من حيث رغبة الراوي بالعلو ، وإن كان في التدليس أنواعا مذمومةً فإعلم أن المحدثين الثقات قد ترفعوا عنها وتجنبوها وما كان منهم ذلك إلا نادراً أو قليلاً أو لم يثبت البتة .
(2) التدليس عند جمهور المحدثين ليس بمسقطٍ لعدالة الراوي المدلس قط ، فلا يرد حديثه لمجرد أنه قد دلس وإنما يتكلم في الرواية التي ثبت فيها التدليس ولا يقبل منه إلا ما صرح به بالسماع ، وإعلم أنهم قد يقبلون عنعنة المحدث إذا عرف بالأمانة والشهرة وسعة الرواية كقتادة والأعمش وسفيان الثوري - على ندرةٍ فيه - وبن عيينة لأنه ما كان ليدلس إلا عن ثقةٍ ، ويحيى بن أبي كثير وفيه إرسالٌ خفي ، وأبي إسحاق السبيعي فهؤلاء محمولةٌ عنعنتهم على الاتصال عند المحدثين مالم يثبت عليهم التدليس على ندرةٍ بينةٍ في بعضهم .
(3) لم يقدح أحد في السفيانين لا الثوري ولا ابن عيينة ولا الإمام الزهري من الأئمة قديما وحديثاً ولم نعلم أنهم قدحوا فيما رووه بتهمة التدليس وذلك لندرته أو قلته القليلة فاحتملوا حديث هؤلاء الأعلام فهي ترفعهم إلي الطبقة الأولى التي لا يقع منها التدليس إلا نادراً أو أنهم لا يدلسون إلا عن ثقاتٍ فجعل الثوري في الثانية لا يثبت أن التدليس قد ثبت منه عند الأئمة وكنت قد قلت على طبقته فإن التدليس منه نادرٌ وأنه لا يدلس إلا عن ثقة وهذا واضحٌ في قول ابن حجر والإمام البخاري فلا تهمة في ذلك والله تعالى المستعان ولابد من التبين .
فهذه النقاط الثلاثة لابد لها من تاصيل وتفصيل فالتدليس يختلف في أنواعه ويراد به : (( مطلق الإيهام والتعمية فيروي عن راوٍ فيوهم بأنه سمع منه بقصد أو غير قصد )) فلابد من بيان التدليس وهل يصل إلي مرحلةٍ تجوز فيه أن يطلق على من وصف به بأنه من الكذبة !


- التدليس لغةً : (( مأخوذ من الدلس، والدلس: هو اختلاط الظلمة، وقيل: هو من التغطية والإخفاء والستر، والظلمة فيها ذلك أيضاً )) .
- التدليس إصطلاحاً : وأما التدليس إصطلاحاً فقد جاء على عدة تعريفات والذي استقر عليه القول ما قاله الحافظ ابن حجر - رضي الله عنه - : (( رواية الراوي عمن سمع منهُ ولقيه ما لم يسمع منه بصيغة توهم السماع )) وهذا ما يعرف بتدليس الإسناد .
فلا يسمى التدليس كذباً من هذا لمجرد التعمية والخفاء ! فذلك خطأ وهو تسيير القول على غير ما يحتملهُ والتعريف على غير ما جرى عليه عند أهل العلم والصحيح أن التدليس لا يسمى كذباً أبداً ومن هذا النوع من التدليس وهو المعروف وإن تنوعت أنواع التدليس فلابد أن ينظر إلي الراوي ابتداءاً ما إن كان من المكثرين وأمامنا في هذا النوع من التدليس وهو تدليس الإسناد .
وهو التعريف المأخوذ آنفاً كما قال الحافظ ابن حجر ، وإن وصف أحدٌ بتدليس الإسناد فينظر ما إن كان هذا الراوي مكثرٌ من تدليس الإسناد لأنه لو كان معروفاً بالقلة بالتدليس أو وصف بالشهرة ومجرد الوصف بالشهرة لايتقضي الإكثار من التدليس فإنه يعامل معاملةَ المقل من التدليس ولا يعامل معاملة المكثر منه ويكون ذلك بتحري ما روى وتحقيق أسانيده .
أخرج الخطيب من طريق يعقوب بن شيبة بإسنادٍ صحيح في الكفاية (ص516) : (( سألت علي بن المديني عن الرجل يدلس، أيكون حجة فيما لم يقل: (حدثنا)؟ قال: " إن كان الغالب عليه التدليس فلا، حتى يقول: حدثنا " )) قال الدكتور الجديع في التحرير (2/974) : (( قلت: فجعل غلبة التدليس على الراوي هي السبب في رد ما لم يبين فيه السماع، دون من لم يغلب عليه وكان يذكر به نادراً )) وقال الشيخ المحدث السعد : (( وما ذهب إليه علي بن المديني ظاهر لأنه إذا كان مقلا من التدليس فالأصل في روايته الاتصال واحتمال التدليس قليل أو نادر فلا يذهب إلى القليل النادر ويترك الأصل والغالب .ولأنه أيضاً يكثر من الرواة الوقوع في شئ من التدليس فإذا قيل لا بد في قبول حديثهم من التصريح بالتحديث منهم ردت كثر من الأحاديث الصحيحة .ولذلك لم يجر العمل عند من تقدم من الحفاظ أنهم يردون الخبر بمجرد العنعنة ممن وصف بشئ من التدليس ودونك ما جاء في الصحيحين وتصحيح الترمذي وابن خزيمة وغيرهم من الحفاظ )) وينظر بعدها ما إن ثبت لهذا الراوي لقاءٌ بهِ وسماعٌ منهُ ، وقال أبو داود في سؤالاته للإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنهما - ( س138) : (( سمعت أحمد سئل عن الرجل يعرف بالتدليس يحتج فيما لم يقل (سمعت)؟ قال: " لا أدري "، فقلت: الأعمش، متى تصاد له الألفاظ؟ قال: " يضيق هذا، أي: أنك تحتج به )) قُلت : فأنت ترى أن الإمام أحمد بن حنبل توقف في قبول عنعنة الأعمش فتراهُ قبلها في موطنٍ وتوقف فيها في موطن وأما حالة التوقف فلابد أن تكون فيمن عرف عنه الإكثار من التدليس وشهر بهِ وليس مجرد أن وصف بهِ ، وأما من عرف كالأعمش بكثرة الحديث وعرفت لديك سعة روايته فشق عليَّ وعليكَ البحث فيما رواهُ أو تحري ما إن كان ثبت تدليسه في الرواية لكثرة ما روى وقلة التدليس فيها كالأعمش فإن هذا يحتج به ما لم يثبت بقرينةٍ بينةٍ على أن الأعمش أو غيره قد دلس في هذا الحديث .
فعلى كراهة التدليس عند الأئمة المحدثين فقد فرقوا بين من دلس عن ثقةٍ وبين من لم يدلس مطلقاً وبين من وصف به ولم يثبت عنهُ وبين من روى عمن عاصرهُ ولم يعرف لهُ سماعٌ منه أو لقاءٌ فعرفوا ذلك بالإرسال الخفي وهو في إصطلاحات الأئمة المتقدمين وصفاً بالإرسال ووقع هذا من الإمام النسائي والرازيين والبخاري وابن معين وأحمد وابن حبان فإنهم قد يطلقون التدليس ولا يريدون به إلا : (( رواية الراوي عمَّن عاصرهُ ولم يثبت لهُ به لقاءٌ او سماعٌ مالم يسمع منه )) ولايشترط فيه الصيغة التي توهم بالسماع ! والقول في حكم التدليس يختلف بحسب سبب تدليس الراوي للحديث وأما إن عرف تدليسه فلا يقدح هذا في عدالته ولا يقدح بالمطلق فيما رواهُ فيسقط لأجله ما روى من الحديث وقد أسقط ابن حزم - رحمه الله - عدالة من عرف بتدليس التسوية وقد بينا في : (( القول النفيس في وقوع الوليد بن مسلم بالتدليس )) أن هذا منهُ تشددٌ ومبالغةٌ منهُ وليس ذلك يقتضي إسقاط العدالة أبداً .
وقد عرف ابن عبد البر - رحمه الله - التدليس قائلاً في التمهيد (1/ 15) : (( التدليس: أن يحدث الرجل عن الرجل، قد لقيه، وأدرك زمانه، وأخذ عنه، وسمع منه، وحدث عنه بما لم يسمعه منه، وإنما سمعه من غيره عنه، ممن ترضى حاله أو لا ترضى، على أن الأغلب في ذلك أن لو كانت حاله مرضية لذكره، وقد يكون لأنه استصغره. هذا هو التدليس عند جماعتهم، لا اختلاف بينهم في ذلك )) وهو أن يأتي المدلس بصيغةٍ موهمةٍ كأن يقول فيها ( عن ) ، والتدليس جرحٌ نسبيٌ يلحقهُ فيما يرويه ويثبت عليه التدليس فيه ومنهم من انحصر تدليسه في بعض حديثه، لا مطلقاً، فهذا لا يجوز تعميم رد ما لم يذكر فيه سماعاً عن كل من روى عنه، فتيقظ للتفريق بين الصنفين وهذا مبحثٌ واسعٌ وهو التفريق بين المرسل الخفي والتدليس وقد بينته في دراستنا لقتادة - رضي الله عنه - وهو بحثٌ مثبتٌ في هذا الملتقى العامر . والله الموفق .
ولذلك مما تبين لديك أن التدليس لا يقدح في رواية الراوي ولا عدالته مطلقاً فقد أخرج أصحاب الصحيح لمن عرف بالتدليس ووصف بهِ ولذلك أتى التحرير والتدقيق من الأئمة كالبخاري ومسلم فكانوا يتحرون سماع من عرف بالتدليس واشتهر به وكان فيه كثيراً ! ومنهم من أخرجوا له معنعناً وقد عرف عند المحقق البصير أن تدليسه ليس إلا قليلاً ولا يشترط أن فيمن وضع في الطبقة الثالثة من المدلسين أن يكون مدلساً ! فهذا يحيى بن أبي كثير وضع في الثالثة وهو في الثانية وعرف تدليسه بالإرسال الخفي وهذا لا يقدح في عدالته ولا إمامته ولا روايته ! وقد بينت ذلك في دراستي : (( مرويات الإمام يحيى بن أبي كثير بين التدليس والإرسال الخفي )) وهي دراسةٌ نظريةٌ لتدليسه وأثبت فيه أنه في الطبقة الثانية من المدلسين وأن تدليسه من قبيل الإرسال الخفي المعروف عند الحافظ ابن حجر والطبقة المتأخرة من الأئمة الأثبات العدول .
لذلك إعلم أن كثيراً من الأئمة ثبتوا وتتبعوا روايات الموصوفين بالمدلسين وإنك لتعلم أن أكثر الناس درايةً بمن وصف بالتدليس هم أول لبنةٍ من المحدثين ممن انتقد وصنف وجرح وعدل وتبين لهُ تدليسه من غيرهُ فالمدلسون أيها الفطن الباحث ليسوا على طبقةٍ واحدةٍ أبداً وتختلف طبقاتهم على إختلاف الأئمة في تدليس الإسناد ومنهم من ذهب فيه إلي التأصيل والطبقات كما هي عند المحدثين - وفقك الله - أيها الباحث المحدث كالتالي :
[ أولاً ] : من لم يوصف بالتدليس إلاّّ نادرا جدا بحيث ينبغي ألا يعد في المدلسين كيحيي بن سعيد الأنصاري وهشام بن عروة وموسى بن عقبة .
[ ثانياً ] : من احتمل الأئمة تدليسه وخرّجوا له في الصحيح وإن لم يصرح بالسماع, وذلك لواحد من أسباب ثلاثة : (( إما لإمامته ، أو لقلة تدليسه في جنب ما روى ، وإما لأنه لا يدلس إلاّ عن ثقة, كالزهري وسليمان الأعمش وإبراهيم النخعي وإسماعيل بن أبي خالد وسليمان التيمي وحميد الطويل والحكم بن عتيبة ويحي بن أبي كثير وابن جريح والثوري وابن عيينة وشريك القاضي وهشيم, ممن ستأتي تراجمهم في طبقتهم - إن شاء الله -, ففي الصحيحين وغيرهما لهؤلاء الحديث الكثير مما ليس فيه التصريح بالسماع وحمل بعض الأئمة ذلك على أن الشيخين اطلعا على سماع الواحد من أمثال هؤلاء لذلك الحديث الذي أخرجه بلفظ (عن) ونحوها عن شيخه, ولكن في هذا نظر؛ بل الظاهر أن ذلك لواحد من الأسباب الثلاثة التي تقدمت آنفا, وهذا هو الراجح, قال البخاري: "لا أعرف لسفيان الثوري عن حبيب ابن أبي ثابت ولا عن سلمة بن كهيل ولا عن منصور في جملة مشايخ كثيرين من قال: لا أعرف لسفيان عن هؤلاء تدليسا ...ما أقل تدليسه )) فهذا الإمام الثوري في الطبقة الثانية من المدلسين ولو تحقق الباحث ونظر في ما رواهُ هذا العلم الثبت لما رأى في مروياته الشيء الكثير بل نادرٌ ومع ذلك فهو في الثانية .
[ ثالثاً ] : من توقف فيهم جماعة فلم يحتجوا إلاّ بما صرحوا فيه بالسماع, وقبلهم آخرون مطلقا, كالطبقة التي قبله, لأحد أسباب التي تقدمت كالحسن وقتادة وأبي إسحاق السبيعي وأبي الزبير المكي وأبي سفيان طلحة بن نافع وعبد الملك بن عمير.
[ رابعاً ] : من اتفقوا على أنه لا يحتج بشيء من حديثهم إلاّ بما صرحوا فيه بالسماع لغلبه تدليسهم وكثرته عن الضعفاء والمجاهيل ... وذلك كمحمد بن إسحاق وبقية وحجاج بن أرطاة وجابر الجعفي والوليد بن مسلم وسويد بن سعيد وأضرابهم ممن يأتي ذكره إن شاء الله .
[ خامساً ] : من قد ضعف بأمر آخر غير التدليس, فرَدُّ حديثهم بالتدليس لا وجه له؛ إذ لو صرح بالتحديث لم يكن محتجا به .. كأبي خباب الكلبي وأبي سعيد البقال ونحوهما, فليعلم هذا فإنه نافع في معرفة هؤلاء .
فهذه كما ترى هي طبقات المدلسين ! فأي الطبقات تنطبق تماماً على أبي الزبير المكي ومما يجب التنبه لهُ أن التدليس لا يأتي إلا بتحري مرويات هذا الإمام والبحث فيما رواهُ ، ألا وإن من بركة العلم نسب الفضل لاهله فقد سبقنا بها الشيخ الطريفي والمحدث السعد ونفى ذلك عن الإمام الثبت المشهور أبو الزبير المكي ، وتتبع رواياته وتحقق منها فما وجده يدلس في واحدٍ منها ما عرف عنه أنه كان قد دلس في أيٍ مما روى من الأحاديث فلابد من تحديد نوع تدليس أبي الزبير المكي وهل هو من المقلين أو المكثرين فإن ثبت أنه مكثرٌ كما تقدم فذلك معروفٌ بهِ ويكون الكلام فيه على تدليسه ، وأما إن عرف أنه مقلٌ منه وليس بالمكثر على شهرتهِ كما هو سائرٌ على ألسنة المحدثين فالأصل في روايته القبول وأنها محمولةٌ على الإتصال .
ولذلك تجد قول الإمام ابن القيم في زاده : (( وأبو الزبير وإن كان فيه تدليس، فليس معروفاً بالتدليس عن الضعفاء، بل تدليسه من جنس تدليس السلف، لم يكونوا يدلسون عن متهم ولا مجروح، وإنما كثر هذا النوع من التدليس في المتأخرين )) فإنظر إلي قول الإمام ابن القيم الجوزية - رحمه الله - فليس هو بالمعروف بالتدليس عن الضعفاء وقوله : (( وإن )) دليلٌ على أن الإمام ابن القيم لا يجزم بثبوت التدليس على ابي الزبير بل هو من قبيل الشك لقوله وإن كان فيه ! أي أن الإمام يشك في ثبوت تدليسه ، وإن ثبت فإنه من جنس تدليس السلف فإنهم لم يكونوا يدلسون عن الضعفاء أو المتهمين ، وهذا النوع إنتشر في المتأخرين وليس في طبقته من الرواة فهذا إن وجهك لشيءٍ فلعدم جزمه - رضي الله عنه - بتدليس أبي الزبير المكي .
ومنها قوله : (( وهذا إسناد في غاية الصحة فإن أبا الزبير غير مرفوع عن الحفظ والثقة وإنما يخشى من تدليسه فإذا قال سمعت أو حدثني زال محذور التدليس وزالت العلة المتوهمة وأكثر أهل الحديث يحتجون به إذا قال " عن " ولم يصرح بالسماع ومسلم يصحح ذلك من حديثه فأما إذا صرح بالسماع فقد زال الإشكال وصح الحديث وقامت الحجة )) ومن تحرى أحاديث أبي الزبير فلن يجد أن أحدا من الأئمة أعلَّ ما رواهُ أبي الزبير المكي بالتدليس إلا بعض المتسرعون الذين لا يدرون ما يخرج من رؤوسهم فأعلوا ما رواهُ في صحيح مسلم معنعناً بالتدليس ! وهذا عجيبٌ جداً إذ كيف يظهر لهم مالم يظهر لغيرهم ويثبتوا تدليسه فيجرحوا ما أخرجه مسلم له !.
يتبع بإذن الله تبارك وتعالى الفصل الثاني وفيه بابين :
[1] مَن وثقهُ وقال بإمامته من أهل العلم وسعة روايته واحتج به .
[2] من وصفه بالتدليس ورماهُ به من العلماء .