المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : كيفية ثبوت رؤيا الهلال لشهر رمضان وغيره



أهــل الحـديث
06-07-2013, 10:00 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


لشيخ عبد الملك السعدي

وسائل ثبوت هلال شهر رمضان وشوال والحج وأثر اختلاف المطالع على الصوم
بسم الله الرحمن الرحيم


وسائل ثبوت هلال شهر رمضان وشوال والحج
وأثر اختلاف المطالع على الصوم


ثبوت رؤية الهلال
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين سيدنا محمد الصادق الأمين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد أُصيب العالم الإسلامي بمصيبة الإنشقاق والتفرق، وصيرورته أقطارا متفرقة، وحدودا ما أنزل الله بها من سلطان, حتى سرى هذا التفرق إلى عبادة الصوم, فكلما جاء شهر رمضان حصل ذلك الخلاف دون اكتراث من المسلمين في توحيد عبادتهم؛ لذا رأيت أن أُبَيِّنَ في هذه الأسطر طريقة ثبوت الهلال, وهل اختلاف المطالع يؤثِّر على الصوم في اختلاف المسلمين ما بين صائم ومفطر؟! فأقول:
طريقة ثبوت رؤية الهلال
أولا: هلال رمضان:
يجب على المسلمين وجوبا كفائيا مراقبة هلال رمضان مساء يوم التاسع والعشرين من شعبان، فإن رؤي وجب الصوم وإلاَّ أكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما.
والدليل على ذلك ما يأتي:
1- عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب: أنه خطب في اليوم الذي يُشك فيه فقال: ألا إني جالست أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسألتهم وأنهم حدثوني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: {صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وانسكوا لها, فإن غُمَّ عليكم فأتِّموا ثلاثين يوما, فإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا} رواه أحمد 4/321، والنسائي، إلا أنه لم يقل فيه {مسلمان} 4/143 (1).
2- عن ابن عمر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: {إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا, فإن غُمَّ عليكم فأقدروا له}.
3- وفي لفظ: {الشهر تسع وعشرون ليلة, فلا تصوموا حتى تروه، فإن غُمَّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين} رواه البخاري.
4- وفي لفظ: إنه ذكر رمضان فضرب بيديه فقال: {الشهر هكذا وهكذا وهكذا -ثم عقد إبهامه في الثالثة- صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم فأقدروا ثلاثين} رواه مسلم.
5- وفي رواية: إنه قال: {إنما الشهر تسع وعشرون، فلا تصوموا حتى تروه, ولا تفطروا حتى تروه, فإن غُمَّ عليكم فأقدروا له} رواه مسلم، وأحمد وزاد: قال نافع: وكان عبد الله إذا مضى من شعبان تسع وعشرون يوما يَبعث من ينظر، فإن رأى فذاك, وإن لم يرَ ولم يحلْ دون منظره سحاب ولا قتر، أصبح مفطرا, وإن حال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائما} رواه أحمد 2/5، والبخاري (1900) و (1907)، ومسلم (1080)، والنسائي 4/134، وابن ماجة (1654) (2).
وقد وردت أحاديث كثيرة بهذا الخصوص كلها صحيحة.
ومعنى أقدروا: أي أقدروا له تمام الثلاثين يوما.
عدد الشهود:
1- إن كانت السماء مُغَيِّمة أو على منزلته غبار أو دخان فأخبر بالرؤية واحد عدل، يُقبل قوله ويُصام عليه اتفاقا ما عدا الإمام مالكا فإنه قال يكتفي بالواحد في مكان لا اعتناء لهم بالرؤية, أما في الأماكن التي يعتنون بالرؤية فلا يكفي (3)؛ وعلل الجمهور ذلك بأنه قد حصلت فرجة في الغيم ورآه هذا الواحد فقط.
أما الإمام أحمد فله ثلاث روايات:
الأولى: وجوب صوم الثلاثين، وقد اختارها أكثر الحنابلة؛ لأنها مذهب عمر وابنه, وعمرو بن العاص, وأبي هريرة, وأنس, ومعاوية, وعائشة, وأسماء بنت أبي بكر, وبه قال بكر بن عبد الله, وأبو عثمان النهدي, وابن أبي مريم, ومطرف, وميمون بن مهران, وطاووس, ومجاهد, وقد فَسَّروا (فأقدروا له) أي ضَيِّقوا الشهر التاسع وعشرين يوما (4).
كلهم أوجبوا صيام يوم الثلاثين إن غُمَّ الهلال ولم يُرَ.
واستدل على ذلك بما قال نافع في الأثر السابق رقم (5).
الثانية: إنه إن غُمَّ: فإن صام الإمام صاموا, وإن أفطر أفطروا.
الثالثة: لا يجب الصوم إلا إذا رؤي، وهو ما عليه أكثر أهل العلم (5).
2- إن كانت السماء صاحية, فقد حصل خلاف على ثلاث آراء:
الرأي الأول:
يكفي شاهد واحد عدل، وهو أحد قولي الشافعي, يقول النووي وهو الأصح, والرواية الثالثة لأحمد وهي المشهورة عنه، وهو قول مالك في الأماكن التي لا يعتنون برؤيته, وبه قال ابن المبارك (6)، وهو قول عمر، وعلي، وابن عمر.
واستدلوا على ذلك بما يأتي:
أ- عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: {جاء أعرابي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: إني رأيت هلال رمضان, فقال: أتشهد أن لا اله إلا الله؟ فقال: نعم, قال: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال : نعم, قال: يا بلال أذِّنْ في الناس فليصوموا} صححه ابن حبان والحاكم، رواه أبو داود (2340)، والترمذي (691)، والنسائي 2/132، وابن ماجه (1652).
ب- عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: {ترآى الناس الهلال، فأخبرتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إني رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه} رواه أبو داود (2342), والدارقطني (2/1560) (7).
ج- إنه إخبار عن عبادة، وليس حقا لأحد، فيكفي إخبار الواحد، كالإخبار عن القبلة ونجاسة الماء ونحو ذلك.
الرأي الثاني:
لابد من شاهدَي عدل، وهو القول الثاني للشافعي، وبه قال عثمان بن عفان, ومالك، والليث, والاوزاعي , والثوري, وإسحاق, وروي عن أحمد أنه قال: اثنين أعجبُ إليَّ.
واستدلوا على ذلك بما يأتي:
1- حديث عبد الرحمن بن يزيد ورد فيه: {فإن شهد شاهدان فصوموا}.
2- عن أمير مكة الحارث بن حاطب قال: {عهد إلينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن ننسك للرؤية, فإن لم نره وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما} رواه أبو داود (2338)، والدارقطني (2/167) (8)، وينظر نيل الأوطار 3/108(9).
الرأي الثالث:
لا تثبت إلاَّ بجمع غفير -أي كثير- يقتنع القاضي بأن هذه المجموعة يستحيل توافقهم على الكذب, وقد عبر عن ذلك المالكية برؤية جماعة مستفيضة.
وهذا رأي المالكية والحنفية، إلاَّ أن المالكية لم يشترطوا عدالتهم، بينما اشترطوها في الواحد.
واستدلوا لذلك: بأن التفرد بالرؤية في مثل هذه الحالة -وهو صحو السماء- يوهم الغلط، فيجب التوقف منه حتى يشهد جمع كثير, بخلاف ما إذا كان في السماء عِلة, فيكفي الواحد؛ لأنه قد ينشق الغيم عن موضوع القمر فيتفق للبعض النظر.
إلاَّ أن الطحاوي يرى قبول شهادة الواحد إذا جاء من خارج المصر؛ لقلة الموانع, أو كان على مكان مرتفع من المصر.
الراجح:
هو الرأي الأول؛ لما تقدم من الأحاديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- اعتمد قول الواحد؛ ولأنها عبادة يجب الاحتياط في دخولها فيكفي في الإخبار عنها إخبار الواحد.
أما أحاديث الشاهدَين: فإن ذلك لا حصر فيها فلا تُنافيَ الصومَ على إخبار الواحد.
أما الرأي الثالث: فإنه اعتمد على دليل عقلي لا يناهض الأدلة النقلية.
ثانيا: هلال شوال:
يجب على المسلمين وجوبا كفائيا مراقبة هلال شوال يوم التاسع والعشرين من رمضان، وقد حصل خلاف في ثبوت هلال شوال بالشهادفافترقا,ثة أراء:
الرأي الأول:
إنه يثبت برواية واحد عدل، وهو قول أبي ثور فقط.
واستدل على ذلك: بأنه أحد طرفي شهر رمضان، فقد أشبه الطرف الأول في قبول قول الواحد؛ ولأنه قد يستوي فيه المُخبِر والمُخبَر فقد أشبه الرواية وأخبار الديانات.
وأجيب: بأن هذا يفارق الخبر؛ لأن الخبر يقبل منه قول المُخبِر مع وجود المُخبَر عنه, وفلان عن فلان، وهذا لا يقبل فيه ذلك فافترقا (10), ثم إنه خروج من عبادة فلابد من الاحتياط بعدم قبول قول الواحد.
الرأي الثاني:
يقبل قول شاهدين، وهو قول جمهور الفقهاء، إلاَّ أن الحنفية قالوا بقبول قول الشاهدين إذا كانت السماء غير صاحية, فإن كانت صاحية فسيأتي رأيهم في الرأي الثالث (11).
واستدلوا على ذلك: بحديث عبد الرحمن السابق.
وبما روى ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- {أنه أجاز شهادة رجل واحد على رؤية الهلال, وكان لا يجيز على شهادة الإفطار إلاَّ بشهادة رجلين} أخرجه الدارقطني في سننه 2/156، والبيهقي في السنن الكبرى 4/212م.
ثم إنها شهادة على هلال لا تدخل بها العبادة فلم تقبل منه إلا شهادة اثنين كسائر الشهود.
الرأي الثالث:
لا يثبت إلا بشهادة جمع غفير إذا كانت السماء صاحية, وهو قول الحنفية (12)، وينبغي أن يقول بذلك المالكية لما قالوا في هلال رمضان إذا كانت السماء صاحية ولم أَرَ تصريحا لهم بذلك.
واستدلوا على ذلك بما استدلوا به على رؤية هلال رمضان.
الرأي الراجح:
هو الرأي الثاني؛ لما تقدم من أدلة؛ ولأنها خروج من عبادة فلابد من الاحتياط بها بقول الشاهدين على الأقل.
ويجري على هلال ذي الحجة ما يجري على هلال شوال من خلاف وترجيح.
ثبوته بواسطة علم الفلك
نظرا لتطور العلم وتطور أجهزته ودقتها، فإن إثبات وجود الهلال في الأفق بعد غروب الشمس أو عدم وجوده -بأن يغرب قبل غروبها- يكاد يصل إلى درجة القطع واليقين.
لذلك يؤخذ به في أوقات الصلاة (الفجر، والزوال، وغياب الشفق)، إلا أن ثبوت الهلال قد قيَّده النبي -صلى الله عليه وسلم- برؤية العين، فلا يثبت بغيرها مهما بلغ بالدقة؛ للتقيِّد بالنص.
حيث يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- {صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته} وتعدي المصدر إلى مفعول واحد يدل على أن (رأى) هنا بمعنى أبصر.
ومن التأويل الباطل: ما أَوَّلَ به البعض بأنه يراد الرؤية القلبية أو العلمية؛ إذ لو أريد بالمصدر ذلك لتعدى إلى مفعولين؛ لأنه حينئذ يكون من أفعال القلوب.
وقد ذكر ذلك الفقهاء في كتبهم إلا إنهم أطلقوا على العالم بذلك المُنَجِّم أو الحاسِب, فقد جاء في الشرح الصغير-في الفقه المالكي- ما يأتي:
"لا يثبت الهلال (بقول مُنَجِّم) أي مُؤقِّت يعرف سير القمر لا في حق نفسه ولا غيره؛ لأن الشارع أناط الصوم والفطر والحج برؤية الهلال لا بوجوده إن فُرِضَ صحة قوله"(13).
كما جاء في مغني المحتاج ما نصه:
"لا يجب بقول المُنجِّم ولا يجوز, والمراد بالآية -وبالنجم هم يهتدون- الاهتداء إلى القبلة في السفر, ولكن له أن يُعمل بحسابه كالصلاة ولظاهر هذه الآية, ثم قال: والحاسب وهو من يعتمد منازل القمر وتقدير سيره في معنى المُنَجِّم، وهو من يرى أن أول الشهر طلوع النجم الفلاني"(14).
ولم يُجَوِّز العمل بالحساب إلا مطرَّف بن الشِخِير وهو من كبار التابعين.
أما ابن سُريج فقد حكى عن الشافعي أن من كان ممارسا للعمل بالتنجيم وثبت عند ذلك، صام هو وحده (15).
أقول: لولا ورود النص بالرؤية البصرية لاعتمدنا العلم في هذا العصر، ولكن يجب اعتماد الرؤية والاستئناس بالعلم ليكون مؤيدا للرؤية ولأجل أن تُرفض شهادة المشتبه أو الكاذب إذا كان العلم يُثبت خلافه.
فإذا أثبت العلم وجود الهلال بالأفق بعد غياب الشمس وشهد شاهد في رمضان أو شاهدان في شوال، عُمِلَ بشهادتهم سواء كانت الرؤية ممكنة أم غير ممكنة, فإن البعض من الأشخاص قد منحه الله البصر الحاد، فبإمكانه أن يرى الهلال ولو كانت الرؤية عسيرة، والبعض قد يستعين بالمنظار أو الآلات المُقَرِّبة للبعيد المُكَبِّرة للمرئي.
استعمال المراصد للرؤية:
أما المراصد: فإنها إن أثبتت وجود الهلال في الأفق وكان المراقب له عادلا وقد رآه من خلال المرصد، فإنها تُعَد رؤيةً شرعية؛ لأنه يراه بعينه بواسطة المرصد.
ويكون واحدا في هلال رمضان، واثنين في هلال شوال، وذلك الحد الأدنى للثبوت كما سبق في الرؤية المجردة .. والله أعلم.

اختلاف المطالع وأثره على الصوم
لا خلاف أن المطالع للقمر والشمس تختلف من مكان إلى أخر -كما هو المشاهد والمعروف-، فالشمس تشرق في موضع وبعد دقيقة تشرق في مكان يبعد عن الأول بعشرين كيلو من الأمتار.
وهذا لا خلاف بين الفقهاء في ظهور أثر الاختلاف على أوقات الصلاة, فالأذان للأوقات يعلن في الكرة الأرضية كل خمس دقائق تقريبا.
فالفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء تختلف أوقاتها من مكان إلى آخر، وكلٌّ يصلي على حسب ظهور علامات الوقت (16) في موضعه.
وهذا لا خلاف بين الفقهاء فيه؛ لأن الشارع أناط وجوب صلاة الوقت بدخول وقت تلك الصلاة.
أما الصوم: فهل يختلف بدايته ونهايته من مكان إلى مكان بحسب اختلاف مطالع الهلال؟
اختلف العلماء فيه إلى رأيين:
الرأي الأول:
لا عبرة لاختلاف المطالع، لذا يلزم الصوم جميع المسلمين في جميع بلادهم إذا رؤي الهلال في مكان من الأرض، وانطبق على الرؤية الشروط الشرعية التي سبق ذكرها.
وهذا ما يراه الجمهور، منهم: الحنفية، ومالك فيما روآه ابن القاسم والمصريون عنه, وبعض أصحاب الشافعي، والحنابلة, والليث.
واستدلوا على ذلك بما يأتي:
1- بآية وجوب الصوم وأحاديث وجوبه, وإذا حصل رمضان برؤية هلاله صار صيامه واجبا على جميع المسلمين؛ لوجود شهر الصيام، وذلك إذا ثبت بشهادة الثقات.
ومن ذلك: قوله تعالى (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) البقرة 183-185.
ومنها قول النبي -صلى الله عليه وسلم- للأعرابي لمَّا قال له: الله أمرك أن تصوم هذا الشهر؟ قال: نعم.
فإذا ثبت وجود رمضان بتخلف الهلال عن الشمس وجب الصوم على الجميع.
2- قوله -صلى الله عليه وسلم-: {صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته}، فالأمر لجميع المسلمين مرتبط بالرؤية-والرؤية مصدر- وهي اسم جنس يتحقق بالواحد والأكثر, فمجرد الرؤية توجب الصوم على المسلمين.
ولو كان كلٌّ يصوم برؤيته لجاء اللفظ ( صوموا لرؤيتكم له).
3- أجمع المسلمون على صيام شهر رمضان، وقد ثبت أن هذا اليوم من شهر رمضان بشهادة الثقات، فوجب صومه على جميع المسلمين بموجب إجماعهم.
4- إن الشهر ما بين الهلالين. وقد ثبت أن هذا اليوم منه في سائر الأحكام: من حلول الدين, ووقوع الطلاق, ووجوب النذر، وغير ذلك من الأحكام، فالصيام أيضا يجب كبقية الأحكام.
5- إن البيِّنة العادلة شهدت برؤية الهلال فيجب الصوم على جميع البلاد كما لو تقاربت (17).
الرأي الثاني:
إنه يجب على البلد الذي رؤي الهلال فيه وعلى ما يقرب منه, ولا يجب على ما يبعد عنه.
وهو الراجح عند الشافعي, وبه قال القاسم, وسالم, وإسحاق, وعكرمة, إلا أنهم اختلفوا في مسافة البُعد إلى ستة أوجه:
الوجه الأول: اختلاف المطالع: القرب وقطع به العراقيون -كبغداد, والبصرة- والصيدلاني، وصححه النووي, والبعد -كالعراق والحجاز والشام-، هكذا مَثَّلَ ابنُ قُدامة.
الوجه الثاني : مسافة القصر, قطع به البغوي، وصححه الرافعي.
الوجه الثالث: باختلاف الأقاليم، حكاه ابن حجر في الفتح.
الوجه الرابع: إنه يلزم كل بلد لا يتصور خفاؤه عنهم بلا عارض دون غيرهم.
الوجه الخامس: إنه لا يلزم إلا أهل بلد الرؤية، إلا أن يثبت ذلك عند الإمام الأعظم فيُلزِم الناس كلهم؛ لأن البلاد في حقه كالبلد الواحد.
الوجه السادس: إنه لا يلزم غيرهم إذا اختلفت الجهتان ارتفاعا وانحدارا، كأن كان أحدهما سهلا والآخر جبلا (18).
واستدل أصحاب هذا الرأي بما روى كُرَيْب، وإليك نص الأثر:
(عن كُرَيْب أنَّ أم الفضل بعثته إلى معاوية بالشام, فقال: فقدمتْ الشام فقضِيَتْ حاجتها, واستهل علي رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة, ثم قدمت المدينة في آخر الشهر، فسألني عبد الله بن عباس, ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة, فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم, ورآه الناس وصاموا وصام معاوية، فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نُكمل ثلاثين أو نراه, فقلت: أفلا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه.
أحمد 1/306, ومسلم 1087، وأبو داود 2332، والترمذي 693، والنسائي 4/136(19).
ويجاب عن ذلك بما يأتي:
1- إن ابن عباس لم يعلم بصيام أهل الشام لعدم وجود وسائل للعلم كما هو الآن, ولو علم بذلك لصام وأمر بالصيام, ولكن لا سبيل له لمعرفة طلوع الهلال إلا الرؤية فاعتمد رؤية المدينة.
2- إن الحديث قد يدل على أن أهل المدينة لا يفطرون بقول كُرَيْب وحده، والجمهور يقولون بذلك, والخلاف محله هو: هل يجب قضاء يوم الجمعة؟ ليس في الحديث ما يدل على ذلك.
3- إن ابن عباس ختم الحديث بما يراه الجمهور بقوله هكذا (أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-} ويقصد بذلك قوله -صلى الله عليه وسلم- {صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته} فهم صاموا على الرؤية التي هي السبيل الوحيد حينها لثبوت شهر رمضان, كما أن أهل الشام لا سبيل لهم سوى الرؤية لعدم معرفة البعض برؤية الآخرين.
أَمَا وقد صار العالَم الآن كبلد واحد، فلابد من أن يصوم الجميع للرؤية ويفطر الجميع للرؤية أينما حصلت.
4- قول ابن عباس قولُ صحابيٍّ؛ حيث لم يرفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن كل بلد له رؤيته، وقوله لا يعارض قول النبي -صلى الله عليه وسلم-.
5- ومع ذلك فهل الدولة التي لا تعتمد رؤية الدولة الأخرى قد أخذوا بحديث كُرَيْب؟!
الجواب: كلا وألف كلا، فإنهم يتذرعون بحديث كُرَيْب ومن أخذ به من الفقهاء وهم لا يُطَبِّقونه على أرض الواقع؛ بدليل أن أهل العراق إذا رؤي في الموصل صام جميع القُطر، والمفروض أن لا يصوم من هو بعيد عن الموصل بمسافة أكثر من مسافة القصر.
وكذا إذا رؤي في تبوك صامت مدن المملكة، والمفروض عدم صيام أهل مكة وكل بلد بعيد عن تبوك.
وهكذا في سوريا ومصر وجميع البلاد، إذا رؤي في قُطرهم صاموا، وإذا رؤي في غيره أفطروا، والمسافة كما هي بعيدة خارج القُطر فهي بعيدة داخله؛ إذ لا فرق بين الموصل وتبوك في البُعد، ومع ذلك لا يعبهون بهذا البُعد في الداخل ويرونه بُعدا مع الخارج وبلاد المسلمين واحدة في حكم الشرع.
فإن قالوا البعيد في القُطر الواحد يُلزم بالصيام بأمر إمام القُطر أو مَلِكِه أو رئيسه نقول:
على الإمام أن يأمر شعبه بالصيام إذا ثبت في مكان آخر غير قطره ولاسيما من هو على خط واحد من بلده أو قريب من خطه.
والتخلف له سببان:
أحدهما: التعصب لرؤية البلد فقط، سياسةً أو غير سياسة.
وثانيهما: مراعاة لطائفة لا ترى الصوم مع جمهور المسلمين.
فنقول: نحن مع وحدة المسلمين, فلماذا هذه الطائفة لم تتبع جمهور المسلمين بالصوم؟!! والجمهور هم الأغلبية لتحقق وحدة المسلمين في الصوم؟!! علما أن خضوع الأغلبية للأقلية, مخالف لقاعدة للأكثر حكم الكل.
وختاما: أدعو قادة البلاد الإسلامية أن تُهمل هذا الرأي ولا تجعل له حُسبانا وكأنه لا وجود له, وتأخذ برأي الجمهور، فأين يُرى الهلال أَمروا شعبهم بالصوم حِرصا على وحدة البيت والبلد والقُطر وبلاد المسلمين في صيامهم وفي فطرهم .... والله ولي التوفيق.

أ.د عبد الملك عبد الرحمن السعدي
14/ رمضان/ 1433 هجري
2/8/ 2012م

(1) نيل الأوطار: 3/610.
(2) المصدر السابق: 3/112.
(3) الهداية: 1/146, الشرح الصغير بأعلى بلغة السالك: 1/224, مغني المحتاج: 1/420.
(4) استدلا بقول تعالى ( فمن قدر عليه رزقه) أي ضيق عليه.
(5) المغني لابن قدامة: 3/330 و 416.
(6) المغني: 4/330و 416، ومغني المحتاج: 1/421، والشرح الصغير: 1/224، ونيل الأوطار: 3/108.
(7) نيل الأوطار: 3/107.
(8) المصدر السابق 3/111.
(9) الهداية 1/47 والشرح الصغير 1/224.
(10) المغني 4/419.
(11) المصدر السابق 4/419.
(12) الهداية 1/147.
(13) الشرح الصغير 1/225.
(14) مغني المحتاج 1/420.
(15) بداية المجتهد 273.
(16) الاختيار 1/405 وبداية المجتهد 276 ومغني المحتاج 1/422 والمغني 4/328.
(17) المغني 4/329.
(18) انظر الأوجه في نيل الاوطار 3/118 والمغني 4/328.
(19) نيل الاوطار 3/118.